وجهتا نظر (القسم الثاني): علاقات تبادلية حواريّة
في القسم الثاني من المقال الذي يحلل فيه نوءا سيمبليست عمل أكرم زعتري رسالة الى طيّار رافض (2013)، يتناول عملا سابقًا لزعتري، اشتمل على محادثة مع السينمائي والفنان آفي مغربي. سيمبليست يتقصى الحقيقة خلف العلاقات التبادلية الحوارية، من خلال الاستناد الى مصطلح "الفن الحواري"، الذي صاغه غرانت كستر، وملاحظات أيلا شوحط بخصوص سياسة الهويات لدى اليهود العرب أو الشرقيين
على الرغم من أنه يمكن اعتبار العمل رسالة الى طيّار رافض، إنشاء فيديو، فهو بنظري عمل حواريّ أيضًا – محادثة بين زعتري وبين حجاي تمير. هذا هو الجانب الأكثر تجديدًا وقوة في العمل، من الناحيتين السياسية والجمالية على حد السواء. زعتري ذهب في هذا العمل أبعد من تمثيل قصة – بل فتح حوارًا غير قانوني وخطير.
في مقال كتبته عن عمل زعتري الناقدة كايلين ويلسون غولدي (Wilson Goldie)، بيّنت أن شخصية الطيّار غائبة عن الحياة اليومية اللبنانية1. الدولة الصغيرة لديها أربع طائرات حربية قديمة فقط، وهي خارج الاستخدام تقريبًا. خلال الحرب الأهلية وقعت معارك جوية بين اسرائيل وسوريا، واليوم حزب الله هو من يطلق صواريخ وطائرات بدون طيار، وما زالت الطائرات الحربية الاسرائيلية متواجدة في المجال الجوي اللبناني. ليس في لبنان مروحيّات خاصة والطائرة المدنية الوحيدة تملكها شركة Middle East Airlines. بفعل هذا النقص يضطر سكان لبنان الى تخيّل زاوية نظر الطيار. زعتري يعرض هذا في عمله من خلال أعين فتيان متلهفين يطيّرون طائرات من ورق عن أسطح بيوتهم.
من الجدير بالذاكر أن زعتري يردّ على غياب زاوية نظر الطيّار بمساعدة معجم تجاربه الشخصية، الذي يجب حلّ رموزه من خلال المحادثة مع طيّار حقيقي. لقد أنشأ علاقة مع أحد طيّاري الطائرات الحربية التي شاهدها في طفولته، نفس الطيار الذي انتشرت عنه الشائعات. لقد أرسل رسالة بالبريد الالكتروني اليه، وخلافًا للطائرات الورقية، تلقى ردًا. هكذا بدأت المحادثة مع طيّار كان خياليًا وصار حقيقيًا جدًا.
العمل رسالة إلى طيّار رافض يعتمد بشكل واعٍ عددًا من زوايا النظر الَحرفية والاستعارية.الصورة الافتتاحية لعمل الفيديو التقطت بواسطة كاميرا HD تم تركيبها على طائرة بدون طيار، حلّقت فوق مبنى. زعتري يشير بهذه الايماءة ويتطرق أيضًا الى حقيقة ان سماء الجنوب اللبناني كان طيلة فترة طفولته تحت سيطرة الجيش الاسرائيلي. وهو يظهر هذا أيضًا في الفيديو الذي تعرضه شاشة الايباد، الذي يقدم صورًا جوية لمدينة صيدا. هذه صور التقطها الجيش الاسرائيلي وعرضها أيضًا التلفزيون الاسرائيلي. زعتري يدمجها في صور عمارات حارة تعمير في صيدا، التي بنتها الحكومة اللبنانية في خمسينيات القرن الماضي، وقام بتصويرها هاشم المدني (El-Madani) كجزء من توثيق تقدّم التطوّر الحضَري. من اللافت الإشارة الى ان المصور اللبناني، المدني، انتقل للعيش في حيفا عام 1947 وعمل فيها مساعدًا لمصور يهودي، مهاجر جديد، كان اسمه كاتس. بعد أحداث 1948 عاد المدني الى صيدا وفتح ستوديو خاصًا به2. صحيح أن صور تفجير السفوح التي وثقها زعتري عام 1982، التي يشملها الفيديو أيضًا، تم تصويرها من زاوية نظره الشخصية، لكنها أيضًا من زاوية نظر ذاتية استعارية: مقابل الصور التي أنتجها المحتل أو حكومة لبنان، يرسم زعتري زاوية نظره كفرد ومواطن لبناني، رأى ووثّق التغيير الذي طرأ على المنظر المحلي نتيجة للحرب.
من أجل مواصلة البحث، يصحّ بنظري استعارة مصطلح "حواري" كما صاغه غرانت كستر (Kester). وفقًا لتعريفه، تتمحور ممارسات الفن الحواري في المحادثة وتتأسس على انفتاح بالاتجاهين3. ولكن كيف يمكن معرفة ان المحادثة هي حوارية فعلا، وما الذي يجعل منها فنًا، عمليًا؟ يحاجج كستر أنه وفقًا لكانت (Kant), الادراك الجمالي هو نوع من الكينونة التي نقوم فيها باختراق حدود هويتنا العينية كذوات (بما في ذلك رغباتنا ومصالحنا الفردية) ورؤية أمور من وجهة نظر كونية4. وهو يقارن مفهوم الجمال لدى كانت مع مفهوم الحيّز العام لدى يورغن هابرماس (Habermas), الذي يعرَّف كحيز خطابي يقوم على المساواة واستبعاد المصالح الفردية لكل ذات تشارك في الحوار. كستر يحاجج بأنه لغرض إنتاج حيّز حواري متساو، هناك حاجة في إطار مادي ونفساني يفصله عن الخطاب اليومي. بموجبه، مثلما يحتاج متحاوران الى لغة مشتركة من أجل تشكيل تجربة جمالية، فهما بحاجة أيضًا الى لغة تتعالى على التجربة الفردية الذاتية وتنتج الحجارة التي يُبنى بها حيّز مدني معرّف بواسطة تبادلية متساوية. يجري ذلك في حالة أكرم زعتري وحجاي تمير بصورتين: الأولى، كانا بحاجة الى حيّز خارجي جغرافيًا، وقد اختارا إيطاليا كبلد ثالث. المحادثة جرت في قاعة مدخل فندق، وهو حيّز مركب، حيّز عام يقع ما بين البيت الخاص وبين الوطن لكل من المشاركين. ثانيًا، وفقًا لاقتراح زعتري، استخدما إطارًا أرشيفيًا لصور قديمة ووثائق لغرض بناء قصص عن نشأتهما وحياتهما من جهتي المتراس خلال الحرب. الصور القديمة التي تقاسماها هي التي كشفت الفرق بين المشاركَين في المحادثة.
نحن لا نعرف شيئًا، فيما يتجاوز هذه الظروف، عن مضمون أو بنية المحادثة التي دارت بين زعتري وتمير. فهي لم تسجّل ولم تدوَّن. بالمقابل، المحادثة بين زعتري وبين آفي مغربي جرى تخطيطها مسبقًا كعمل فني. وقد دارت على منصة في أوبرفيلييه (Aubervilliers), في فرنسا. وتم توثيقها في كتاب. يصف الكتاب المحادثة، في تعرّج إضافي للحبكة، كحدث متخيَّل، وهو يشدد بهذا على الحقيقة العبثية بأنه لا يمكن للمواطنين اللبنانيين والاسرائيليين أن يتحدثوا معًا بشكل علني. هناك مقابلة بين المحادثتين لأن كليهما تدوران بين زعتر وبين شخص اسرائيلي. وهما مرتبطتان الواحدة بالأخرى أيضًا – كما بيّنت في القسم الأول من المقال – لأن المحادثة بين زعتري ومغربي قادت بشكل غير مباشر الى المحادثة بين زعتري وتمير. توثيق المحادثة بين زعتري ومغربي يمكّننا من مشاهدتها بتفصيل أكثر وفحص طبيعتها بعمق كعمل حواري.
في السيناريو بعنوان محادثة مع سينمائي إسرائيلي خيالي اسمه آفي مغربي، يعلن زعتري أنه ليس أكرم زعتري وأن السينمائي الاسرائيلي ليس آفي مغربي. يقول: “ ...يمكننا ان نسمع صوتنا كأفراد فقط، كمتخيلين وذلك لأننا لا نمثّل الوضع. او بالأحرى نمثله بشكل مخطوء. نحن متخيلون لأننا لا نتطابق مع أطر قومية. صوتنا هو خيال هذين الجسدين، أكثر مما هو واقعهما، وخلافًا لواقعهما القومي"5. زعتري يناقض في هذا التصريح أقوال رئيس حكومة لبنان السابق، المرحوم رفيق الحريري، الذي قال إن "لبنان اكثر من أمة، إنه فكرة"6. وهو يقوم أيضًا بقلب التعريف الشهير لبندكت اندرسون (Anderson)على رأسه، وبموجبه القومية هي مجتمع متخيّل يتخيلها بشكل مشترك كل الأفراد الذين يشكلونها7. بالنسبة لزعتري الأفراد خياليون أما الأمة -لبنان واسرائيل- فهي الحقيقية. إذا ربطنا بين التوجّهين، تنزع المجموعتان الخياليتان لبنان واسرائيل الى إنتاج أفراد متخيلين يعادي أحدهما الآخر. لا تتلاءم حقيقة أن زعتري ومغربي يتعاونان معًا مع المواقف الايديولوجية لبلديهما الأصليين. لكن بالنسبة لزعتري، إذا كانا فعلا شخصيتين، فهما كالممثل الذي يتلقى سيناريو جديدًا في كل مرة. ويواصل مشيرًا الى أنهما كمنتجَي أفلام وثائقية، يعي هو ومغربي الخط المموّه الذي يفصل الحقيقة عن الخيال؛ ما يحدث بينهما خلال العرض ناتج عن هذا الجانب في عملهما.
يبدأ زعتري في هذه المرحلة من السيناريو بسرد قصته الشخصية. ولد في مدينة صيدا عام 1966. أمه من مواليد طرابلس، لكن والد جدها جاء من تركيا. والده من مواليد صيدا لكن أصل أجداده من شبه الجزيرة العربية او فلسطين. حين يكشف زعتري أن أصل عائلته هو شبه الجزيرة العربية أو لبنان أو فلسطين، فهو يعطي مثالا كيف ان العائلات في الشرق الأوسط اعتادت التنقل بحرية بين المدن المختلفة، وكيف أن عرض الحقائق الشخصية يبدأ فورًا بتفكيك كل امكانية لهوية قومية موحدة أو جوهرانية. وهو يتابع ويسرد أنه ولد قبل حرب 1967 بسنة واحدة، وسمع دائمًا امورًا سيئة فقط عن الاسرائيليين. ولم يلتق أي اسرائيلي حتى صار في الـ16 من عمره:
في جيل 16، أتذكر أنني وقفت في مدخل العمارة التي سكنّا فيها، كنت انتظر بصمت تام مشاهدة أولى الدبابات الاسرائيلية التي تقدمت فوقنا في الشارع. كان هؤلاء أول اسرائيليين أراهم في حياتي – جنود شبان ومنتصرون، يركبون دباباتهم التي تضجّ بأصواتها. على الرغم من الضجيج الذي يصم الآذان، أتذكر المشهد بصمت تام.8
يتحدث زعتري عن حالة معينة شاهد فيها جنديا اسرائيليا:
كنا نسكن في الطابق السادس من العمارة التي تطل على الجنوب، بحيث كانت الشرفة أشبه بمنصة مسرح، والتفجيرات والقصف هما العرض. كفتى، سمعت المرة تلو الأخرى تلك التحذيرات: لا تسترق النظر الى الاسرائيليين من الشرفة. قيل لنا إن الاسرائيليين هم قنّاصة السماء، يرون ويسمعون كل شيء. لكنني تساءلت مستغربًا، لماذا سيطلقون النار على فتى يحمل كاميرا!9
يتدخل مغربي عبر سكايب:
عمليًا، أذكر هذه الحادثة جيدًا. تحركنا نزولا في شارع في تسيدون. أعرف أن لديكم اسمًا آخر للمدينة لكننا بالعبرية نسميها تسيدون. أخرجت رأسي من برج الدبابة ورأيت فتى يحمل كاميرا على إحدى الشرفات. ارتدى قميص أديداس رمادي وأزرق ووجه الكاميرا نحوي. أذكر أنني صرخت بالعبرية: “لا تصوّر!. ما الذي تريد تصويره"؟"10
الجملة الأخيرة لافتة للاهتمام لأن كلمتى "تصوير" و "اطلاق نار" ("shoot" بالانجليزية) مختلفتان بمعنيهما، لكن في نص الكتاب، الذي نشر بالانجليزية فقط،11, تبقى ازدواجية معنى shoot على حالها. مغربي يأمل ألا يطلق النار على الفتى، لأنه صدر أمر باطلاق النار على كل شخص، لأن الشخص الذي يظهر بأكثر المناظر سذاجة، يمكن ان يكون خطيرًا أيضًا. وهو يشتم الأهل الذين سمحوا للفتى بأن يتجول في الخارج، وكادوا يجعلون مغربي يطلق النار عليه. في اللحظة الأخيرة يهرب الفتى الى داخل البيت.
زعتري أعلن مسبقًا أن العرض خيالي، بحيث أننا نشكك فورًا في احتمال حدوث مثل هذه المصادفة. رغم ذلك، تحمل الصور قوة كبيرة. سواء أكان زعتري ومغربي نظرا الواحد الى الاخر في صيدا من خلال فوهة البندقية، أو عدسة الكاميرا، أم لا، فلا يزالان يمثلان المواقف الرمزية لكل واحدة من الشخصيتين في القصة كذات قومية.
يتجاهل زعتري قصة مغربي ويقول إنه حتى بدء الاجتياح الاسرائيلي للبنان، عام 1982، كان قد رأى إسرائيليين على شاشة التلفزيون فقط، في بث القناة الاسرائيلية التي كان يمكن التقاطها في صيدا. ويروي لنا أنه كان يميل بشكل طبيعي الى الجانب الفلسطيني ويحب الفدائيين، لكنه يتذكر أيضًا الفوضى التي سادت حين سيطرت الميليشيات الفلسطينية على جنوب لبنان. ويقول إنه صوّر مبانٍ مدمرة، مركبات اسرائيلية ومشاهد تدمير في المدينة، ولكن ليس جنودًا بالمرة. لاحقًا فقط رأى صورًا صحفية لجنود إسرائيليين وهم يأكلون، يشربون او يغسلون ثيابهم – وهي صور أظهرت الجنود كبشر وليس كفكرة مجردة. في الفترة نفسها كان بوسعه ان يتخيّل الفلسطينيين فقط بهذا الشكل.
وهو يروي أنه ترعرع مع حب عميق للسينما – هيتشكوك، تريفو، لفسبندر وبازوليني، واستوعب السينما، كسائر الفنون، على انها تجري خارج الجغرافيا والمواطنة. عام 1997 عرض فيلمًا قصيرًا في مهرجان أفلام في بيسارو (Pesaro)، إيطاليا. مغربي أيضًا كان هناك، وعرض فيلمه: كيف توقفت عن الخوف وبدات احب أريك شارون (1997). يروي زعتري أنه جلس، في العشاء الذي نُظّم بعد عرض الفيلم، الى جانب مغربي وعرّف بنفسه. في هذه النقطة من العرض يصعد مغربي الى المنصة مع لابتوب ويقول إنه يتذكر الحادث بشكل مختلف: لقد جلس شخصان بينهما، ولم يقول أحدهما للآخر سوى "هاي".. زعتري يتجاهله مجددًا ويقول إن الفنانين والموظفين اللبنانيين كانوا يشعرون بالعصبية حين أصرّ إسرائيليون على التحدث معهم بعد اتفاقيات أوسلو. نظروا الى ايماءات الصداقة كهذه على أنها نابعة من شعور بالذنب بسبب الاحتلال الاسرائيلي والحروب المستمرة في لبنان، أو من محاولة لتجنيد مثقفين وفنانين عرب للتجسس لصالح اسرائيل. بعد أن شاهد زعتري فيلم مغربي وسمعه في مرحلة أسئلة الجمهور في الأمسية، قرر أن يتحدث معه، ولكن من خلال قلب الأمور رأسًا على عقب: هو من سيجنّد مغربي.
مغربي يتدخل مرة أخرى ويطلب من زعتري تكرار ملاحظته بخصوص مقولة غودار حول "شوت وشوت نقيض" (shot and reverse shot), ولكن لهذا الغرض يريد ان يعرض عدة صور. يعرض على الجمهور عددًا من الصور العائلية القديمة. يظهر في الأولى أمه وأبوه، رفكا وغابي، واقفين الى جانب شخص ذي ملامح فلسطينية. مغربي يروي أن الصورة التقطت في حيفا بين العامين 1949 و 1952. حين رأى الصورة للمرة الأولى تفاجأ، لأن أبوه كان صهيونيًا يمينيًا حارب في صفوف "إرغون"، بل سجنه البريطانيون وطردوه الى أريتريا بسبب نشاطه هذا. يعرض مغربي صورة أخرى، لأمه في الجليل، وهي محاطة بمجموعة من الفلسطينيين المبتسمين. وهنا يقول إن الصورة الثالثة هي الشوت النقيض – صورة لأبيه مع مسدس مدسوس في حزامه. ويعرض صورة رابعة لغابي المبتسم، والمسدس ما زال بحوزته، أمام فلسطيني عابس الوجه يحمل لوحًا على صدره كُتب عليه بالطباشير الرقم 239؛ ويظهر شخص ثالث يصورهما. يقول مغربي إن الصورتين الأخيرتين هما وثيقتان، لكننا جميعا نعرف أن الوثائق أيضًا قد تكون خيالية. ويكرر الاقتباس من غودار ويسأل: “ماذا يحدث حين يكون في الصورة نفسها توثيق وخيال معًا؟ مثلما في تلك الصور أو هنا؟ لا شك أن غودار كان سيقول أنك، اكرم، الوثائقي بينما أنا خيال مطلق".
ما الذي يقوله مغربي عمليًا؟ ما الذي في الصورة الأخيرة بحيث يربط بين التوثيق وبين الخيال وما الذي ينشئ فيه المقابلة مع محادثة زعتري ومغربي؟ إنه يقول، من خلال استخدام مقارنة غودار، بأن اليهودي (الخيال) والفلسطيني (الوثائقي) يتواجدان في الصورة نفسها، على النقيض من نموذج "شوت وشوت نقيض". علاوة على ذلك، إذا وسّعنا المقارنة ووضعنا زعتري مقال الفلسطيني في الصورة، فإن زعتري هو الوثائقي. السردية المقترحة هنا، بهذا المعنى، تختلف بمبناها. قصة الشخصين هذه، قصة القوميتين، قصة العدوين، لا تتلخص في قالب الشيء ونقيضه. الشخصيتان موجودتان داخل صورة واحدة، أو على منصة واحدة، بحيث ترتبط سردية كل منهما الواحدة بالأخرى، ويتحول التناقض المتقاطب الى أكثر خطابية والى ذي قدرة حوارية.
تلاحَظ هذه السيرورة في سلسلة مضاعفات يمكن العثور عليها في آخر صور مغربي. أولا، هذه صورة لصورة خلال التقاطها. الصورة الأولى تخدم غاية إدارية – متابعة فرد فلسطيني. والأخرى تصف الفرد الاسرائيلي الذي يقوم بالفعل في هذه الحالة، وهو والد مغربي. ثانيًا، الشخصيات الرئيسية هي غابي والفلسطيني الذي لا اسم له بل رقم. المصور يؤطر كلا منهما. كذلك، لدينا هنا صورة لعنف حربي – المسدس في حزام غابي الذي قد يطلق النار (shoot بالمعنى الأول) – وكذلك عنف إداري للمصوّر الذي يلتقط الصورة (shoot بالمعنى الثاني): إنه يوثق ويؤطر الفرد الفلسطيني الخاضع للاحتلال الاسرائيلي. هذه المضاعفة هي الأقرب الى "شوت وشوت نقيض" في القصة التي يرويها مغربي عن الفتى على الشرفة وعن نفسه في الدبابة، لكنها تدمج نوعي اطلاق النار/التقاط الصورة معا في لقطة واحدة.
بعد عرض صور مغربي، يروي زعتري أنه لم يكن على اتصال معه منذ اللقاء في بيسارو عام 1997، ولكنه حافظ على بطاقة التعريف التي تلقاها من مغربي، واهتم بألا تعثر عليها سلطات الأمن اللبنانية. عام 2005 تلقى زعتري رسالة جماعية بالبريد الالكتروني من مخرج مصري اسمه يسري نصر الله، وتناولت ابن مغربي، شاؤول، الذي رفض الخدمة في الجيش الاسرائيلي. طلب نصر الله من مجموعة الفنانين والمثقفين العرب الذين وُجهت لهم الرسالة اعلان التضامن مع مغربي. وشدد نصر الله انه يعي بأن اللفتة تناقض الموقف الشائع وهو أن التضامن مع يساريين اسرائيليين يساهم في تطبيع الاحتلال، ولكنه يعتقد انه من الجدير دعم ما يراه كفعل شجاع. ردّ زعتري على البريد الالكتروني بالتعبير عن تضامنه وتلقى رسالة فورية من مغربي. وبدآ يتراسلان ويتبادلان ملفات من أعمالهما. تعززت العلاقة بينهما خلال حرب اسرائيل على لبنان عام 2006. زعتري سأل مغربي إن كان بوسعه العثور على مقاطع فيديو أصلية من الاعلام الاسرائيلي خلال الحرب. وهي صور من الصواريخ الاسرائيلية وهي تقترب من أهدافها. فقد زُوّدت الصواريخ بكاميرات ساعدت على تصويبها، لكن الكاميرات تدمرت مع الصواريخ. زعتري سمّاها "كاميرات انتحارية". وقد سحرته فكرة أن هناك زاوية نظر أخرى تربط معنيي كلمة shoot. هناك شيء ما في زاوية نظر الكاميرات ذكّره بقصة الطيار عام 1982 – وهو بالطبع حجاي تمير، كما نعرف الآن.
مغربي يردّ بعرض صور إضافية. صور لعائلة جدته من جهة والده، وهي تسبح في بيروت. ويشرح انهم اضطروا للمغادرة أواسط عشرينيات القرن العشرين، وأن إحدى بنات العائلة كانت متزوجة من يهودي في مصر. في صورة اخرى يظهر غابي في بيروت، في صورة عائلية. يروي مغربي أن والده كان يسافر كل صيف الى بيروت لزيارة العائلة. وقد استمر بهذا حتى الأربعينيات، حين طردته السلطة البريطانية من البلاد. ثم يعرض صورة أخرى لعائلة مغربي الموسعة في دمشق، ويقول إن أبناء العائلة يبدون عربًا. إذا كانوا عربًا حقًا، يسأل، إذا كان أبو جده عربيًا، ماذا يعني هذا بالنسبة له؟ هل هو عربي؟ مغربي لا يجيب على السؤال لكن هذه المعلومة تعقّد مقارنة "شوت وشوت نقيض" – كلاهما يندمجان معًا ليس فقط حين يقف زعتري ومغربي معًا على المنصة، عربي ويهودي في لقطة واحدة، بل بكون مغربي نفسه يضمّ الهويتين في نطاق هويته.
مصطلح اليهودي العربي حظي باهتمام فنانين ومثقفين كثيرين. الفنان مايكل ركوفيتش (Rakowitz) في الولايات المتحدة برز في هذا السياق في سلسلة مشاريع تناولت هويته كيهودي عراقي في الشتات. باحثة الثقافة والجندر أيلا شوحط تشير: “الصهيونية التي تنكر العربي المسلم والشرقي الفلسطيني […] تقوم بالمقابل بإقصاء اليهودي الشرقي، وتمنعه من الحق في التمثيل الذاتي، مثل الفلسطيني، حتى لو كان الأمر يتم بواسطة أجهزة أكثر دهاء وأقل عنفًا"12. الخطاب السائد في اسرائيل بخصوص الشرقيين، الذين يسمون أحيانًا يهودًا عربًا أيضًا أو سفاراديم13, ينص على أن الهجرة الى اسرائيل بعد عام 1948 أنقذت هؤلاء اليهود من الأنظمة الظالمة التي حكمت الدول العربية14. لكن الصور التي يعرضها مغربي أمامنا تروي قصة أخرى، فيها يهود عرب في بيروت ودمشق، القاهرة والقدس حيث عاشوا حياة غنية وكوسموبوليتية. كذلك، لم تكن حريتهم في الحركة تختلف عن حرية عائلة زعتري في العالم العربي قبل عام 1948. وهكذا فإن مغربي يصف هويته من خلال تاريخ عائلته في الشرق الوسط، كوسيلة لخلق تضامن مع زعتري.15
في القسم التالي (والأخير) من المقال سوف أحاجج بأن المحادثة بين زعتري ومغربي كانت حواريّة فعلا، بمعنى انها تأسست ليس على تضامن متبادل فقط بل أيضًا على علاقات تبادلية. سوف أحاجج أيضًا بأن المحادثة بين زعتري ومغربي لم يكن بوسعها أن تصبح بمستوى هذه التبادلية، بسبب الشكوك التي رافقتها، والنابعة من سياسة الجمالية وأشباح التاريخ.
وجهتا نظر (القسم الأول): رسالة الى طيّار رافض
وجهتا نظر (القسم 3): أشكال من الرفض
- 1. Kaelen Wilson Goldie, The Archaeology of Rumor, in “Akram Zaatari: Letter to a Refusing Pilot” (the Pavilion of Lebanon at the 55 Esposizione. Internazionale d’Arte – La Biennale di Venezia, 2013), p2
- 2. Seth Anzika, The Archaeology of Rumor, in “Akram Zaatari: Letter to a Refusing Pilot” (The Pavilion of Lebanon at the 55 Esposizione Internazionale d’Arte – La Biennale di Venezia, 2013), p15
- 3. Grant H. Kester, Conversation Pieces: Community and Communication in Modern Art (Berkeley: University of California Press, 2004) p90
- 4. ibid. p107
- 5. Akram Zaatari, A Conversation with an Imagined Israeli Filmmaker Named Avi Mograbi (Les Laboratoires d’Aubervilliers, Kadist Art Foundation, Sternberg Press, 2012), p3
- 6. Tony Chakar, “Living in an idea” Parachute: Contemporary Art Magazine (Oct. 2002), p60
- 7. Anderson, Imagined Communities: Reflections on the Origin and Spread of Nationalism, (London: Verso, 1983)
- 8. Akram Zaatari, A Conversation with an Imagined Israeli Filmmaker Named Avi Mograbi (Les Laboratoires d’Aubervilliers, Kadist Art Foundation, Sternberg Press, 2012), p5
- 9. ibid.
- 10. ibid. p8
- 11. ترجم لاحقًا الى العبرية أيضًا.
- 12. Ella Shohat, “Sephardim in Israel: Zionism from the Standpoint of its Jewish Victims,” Social Text, no. 19/20 (Autumn, 1988), p1. Emphasis in the original
- 13. لكل واحد من هذه المصطلحات سياق اجتماعي وايديولوجي مختلف، واسقاطات مختلفة، وتجدر الاشارة الى أنه بالنسبة لإسرائيليين كثيرين من أصول شرقية، فإن تعريف الهوية كعرب يهود او يهود عرب، يعتبر فعلا راديكاليًا.
- 14. Ibid. p3
- 15. فيلم آفي مغربي عام 2010، دخلت مرة الجنينة، يتناول الكوسموبوليتية التي سادت الشرق الأوسط في الماضي.