صورةٌ للفنّان الذي لم يَعُد شابًا
مع اقتراب نهاية موسم معارض التخرّج في كليات الفنون، تعيد طالي تمير النظر في أعمال فنانَيْنِ مخضرمَين – دوف أور نير ودوف هيلر- وتتساءل كيف اجتازت الراديكالية التي نجحت في الربط بين الفن الطليعي والقيم الاجتماعية، تجاوز العديد من الخطوط، وإذابة الحدود التصورية والجغرافية التي لم تجد لها حيّزًا في المتاحف المركزية.
يصوّب عالم الفنّ، هذا الصيف، نظره نحو معارض التخرّج منطلقًا نحو اقتناص النجوم الجدد، لا بدّ من التركيز على فنانيّن مخضرمَين (جدًا) – يبلغ أحدهما التسعين من عمره، والآخر في الثمانين من العمر- واللذين قد تشكل جرأتهما وأصالتهما مصدر إلهام للعديد من الفنانين الشبان. لن تجدوا أعمال دوف أور-نير ودوف هيلر لا في العروض الدائمة للفن الإسرائيليّ في متحف تل أبيب، ولا في متحف إسرائيل، ولا حتى في دار الفنون في عين حارود. لم يأخذ أي متحف بارز في اسرائيل على عاتقه إقامة معرض استذكاري هامّ لهذين الفنانين، اللذين يحتضن تاريخهما الخاص والفنيّ أحداثًا أساسيّة في الفن السياسيّ-التصوّري في السبعينات، يتفقّد تقاطعات هامّة للثقافة الإسرائيلية، يغيّر اتجاهات، يفاجئ ويسحر. يبجلّ كبرهما بالسنّ شبابهما –وما زال أور-نير وهيلر جوهريين اليوم كما كان حالهما منذ زمن بعيد.
بدأ دوف أور-نير بالعمل في عالم الفن الإسرائيلي في أواخر الستينات. وُلِدَ أور نير في باريس عام 1937، نجا من المحرقة، هاجر الى إسرائيل بعد الحرب وانضم الى كيبوتس حاتسور. كان مُلهَمًا بالرياديين الأوروربيين، ومن أستاذه المؤثّر رودي لهمان، الذي كان قد عرّفَهُ على الأساطير المصريّة العريقة. كما وكان مُلهَمًا بورشات الفن التصوّري، التي كان يقدمها يوأف بار إل لفنّاني الكيبوتس. كان الأداء هو أسلوبه المبكر في العمل: قام بدفن علب حساء البندورة الموقعّة على يد آندي وارهول في الاسكا والبحر الميّت عام 1976، وقام بحفر آبار بعمق 20 مترًا في الأرض ليخبئ وثائق قام بجمعها في متحف إسرائيل، بهدف تأسيس فكرة "علم الآثار المعاصر". في عمله الفنيّ ميتسر-ميسر الشهير عام 1972، قام بخلط ممتلكات لعرب ويهود وخلق مفهوما أثريًّا لم يكن قائمًا على مبانٍ ضخمة بل على الحياة اليومية. كان أور-نير أول فنان يتعامل مع إعادة التدوير في الفنّ الإسرائيلي (إعادة التدوير، 1975، متحف إسرائيل)، أول من فعّل "فن البريد" (مشروع برتقالة، 1973)، أول من تعامل مع الطاقة الشمسيّة، تماثيل بالطاقة الشمسية (solar sculpture، 1960-1990). وكان أيضًا الأول -والوحيد حتى الآن- الذي أحضر بقرة الى صالة عرض في تل ابيب، وضعها أمام شاشة تلفاز، واحتجّ ضد لا مبالاة وانحطاط قيم الاشتراكية وقيم المساواة في حركة الكيبوتس، أثناء حلب البقرة ونومها في مكانها (بارافيسيا،1980).
كانت فكرة السلام مركزيّة في أعمال أور- نير في السبعينات، وأنشأ عشرات من الأعمال المتعلقة بالمفهوم والرؤيا، قبل أن توصمَ كلمة "سلام" مرتبطة باليساريين الخونة بوقت طويل. في عمل "قفص السلام" (1979)، قام أور – نير بحبس نفسه في قفص معدنيّ في تقاطع شارعيّ ديزينجوف وجوردون في تل أبيب، مدعيًّا أن الحكومة الإسرائيلية كانت تحبس السلام، وترفض إطلاق سراحه... لاقى هذا العمل أهمية مع مرور الوقت، وما زال ينتظر فنانًا يافعًا شجاعًا ليأخذ زمام المبادرة. منذ أن بلغ الثمانين، في العقد الأخير، أعاد أور-نير النظر في المحرقة. قام بإعادة تصميم شخصيته بأسلوبه المعاند المتطرف، وكالجورب المقلوب، اخترع "فود رينروا"، وهي حروف اسمه بالعبريّة مقلوبةً. تكشف شخصيته الجديدة عن ميزات مذهلة: شارب أسود وشعر مفروق من المنتصف – قام أور-نير بجعل نفسه وهتلر أبطال دراما سريالية اباحيّة حيث لا يتردد فيها بضم الامكانية المخيفة بأن يصبح الضحية هو الجلّاد، او على الأقل مشابهًا له بشكل مفزع.
قبل عدة سنوات، أصبح جيل يفمان، وهو فنان شاب وُلٍد في إسرائيل كان مهتمًا بالمحرقة كمجاز للشر المروع، اففتن بأور-نير وسرعان ما أعلن عنه مرشدًا له، على الرغم من فرق الخمسين عاما بينهما تم افتتاح معرضهما المشترك في كانون الثاني عام 2016، في صالة عرض دانا في كيبوتس يد مردخاي بتنسيق رافيت هراري. وعلى الرغم من كونه أحد أكثر العروض أصالة ومفاجأةً في ذلك العام، إلّا أنّه لم يحظَ بتغطية كافية من الصحافة ولم يكن له صدى في حيّز الخطاب الفني الإسرائيلي. تناول أو-نير ويفمان تاريخ المبنى الذي أقيم فيه المعرض، والذي كان مخيطة الكيبوتس، وابتكرا مشروع “الفستان الثالث" الذي يضم جميع المواضيع التي اهتما بها: المحرقة، هتلر، الجنسانية الثنائيّة، التنكّر، الكوميديا السوداء، المحلية، الشتات ومسرح الشخصيات. لقد قاما بتأليف مسرحية مذهلة، مضحكة ومخيفة في ذات الوقت، جاعلين الجمهور بفركون أعينهم: زوجان مذهلان مظهرهما غريب يتنزهان في الكيبوتس، بين النصب التذكاري لموردخاي أنيليفيتش، المبنى الإسمنتيّ الصلب الذي يضم متحف المحرقة والبطولة، الحدائق الصخرية والمروج الخضراء. يظهر أور-نير بشخصيّة ""فود رينروا"، شعره مفروق من الجانب مثل هتلر، ولا يترك الشارب الصغير مجالاً للخطأ. بينما يتأرجح يفمان من جنب إلى جنب كامرأة سوداء جميلة، مستوحاة من جوزفين بيكر الى حدٍّ ما، ترتدي قبعةً على شكل سنّ ذهبيّ. يرتدي كلاهما فساتين طويلة وملوّنة لا تكشف مضمونها الحقيقيّ إلا بعد فحص دقيق. فستان أور-نير مزخرفٌ بصور من لوحاته الاستحواذيّة من العقد الماضي، التي ركزت على شخصيّة فود رينروا/هتلر في مواقع مختلفة. أمّا قماش الزيّ الخاص بيفمان طبعت عليه صورة متراصّة لجثث في مقابر جماعية فترة المحرقة (مشابه لتصميم القماش الذي قام بعرضه عام 2015 في معرض "انتقال مؤقت" في متحف هرتسيليا).
وهكذا تنزّها في الكيبوتس بتبختر ورقيّ، وكان يفمان الشاب يدعم بلطف أور-نير المُسِنّ، يمدّ إليه يده ويساعده على صعود الدرج ويظهر إنسانيته في العلاقة الوطيدة بينهما، بينما يحملان علامات القسوة والشرّ. يعبّر أور-نير ويفمان – الرجل الأكبر سنًا الذي شهد المحرقة والشاب الذي تلقّى ذلك كعبء شخصي - عن المحرقة بواسطة تجريم الذات وكإمكانية دائمة لقلب الأدوار المتربّصة في أعمالهم، وليس بطريقة تبريرية وتلويمية. إن أسس الانقلاب، العبث والتشويش تغذّي كل ما هو معادٍ للبرجوازية، غير معياريّ وشاذ عن النظام المقبول. تهبّ روح دادائيّة حقيقيّة من تجوّل الثنائيّ في الكيبوتس ومن سلسة الصور المسرحية للشخصيتين المعروضتين في صالة العرض. من جهة، شغب كل ما حُظِرَ الحديث أو التعبير عنه، ومن جهة أخرى، أناقة رائعة، لطف ورقّة. جمال ذكوري/أنثويّ مليء بإباحيّة جنسانيّة وأخلاقيّة، كالديدان في اللحم المتعفن.
بينما تلقى يفمان الاعتراف الذي يستحقه بفوزه بجائزة رابابورت للفنانين اليافعين عام 2017 (خيار جريء بشكل مدهش، وعليما أن نعترف بذلك)، وسيقيم قريبًا عرضًا منفردًا في متحف تل أبيب، يواصل أور-نير الجريء الذي قد بلغ التسعين، يومًا بعد يوم، عمله المتعرّج والملوّن لقرينه " فود رينروا"وما زال ينتظر مدير المتحف الجريء كفاية ليتعامل مع ما لديه من مقولة اليوم ومع أعماله المتطرفة في الماضي البعيد. وبينما تشتهر أعمال جون لاثام (Latham) وجوستاف ميتزجر (Metzger) - كلاهما فنّانان تصويريّان أبناء جيل أور-نير – في إنجلترا، يبقى عمله في إسرائيل داخل الاستوديو الخاص به في كيبوتس حاتسور، غير مقدّر وغير مفهوم.
دوف (دوفاليه) هيلر، عضو في كيبوتس نيريم، الأصغر سنًا بينهما، سيبلغ الثمانين هذه السنة. عُرضت أعماله في متحف النقب للفنون حتى وقت قريب (8 يوليو 2017)، في عرض قامت بتنسيقه داليا مانور. لم يكن عرضا استذكاريا، على الرغم من أنّ البعض اعتبره كذلك. افتقر العرض إلى مجال أعماله في السبعينات والثمانينات، التي وصفها جدعون عوفرات في كتابه دوف هيلر: 50 مشروعًا. عَرِفَ هيلر، مزارع ماركسي ابن لشيوعيّ متديّن، كيف يدمج الأيديولوجية في اعماله بصعوبة ومثابرة وحِلم. في عام 1975، قام بنقل طن من البطاطا الى متحف إسرائيل وقام ببيعه بسعر التكلفة، في أكياس موسومة بشعار المتحف (كجزء من "ورشة عمل مفتوحة"، قام بتنسيقها كل من يونا فيشر وسيرج شبيتسر). يحتفل هيلر، إلى يومنا هذا، بالأول من أيار في ورشة العمل للطباعة التي قام بتأسيسها في نيريم، ويقوم بتوزيع سمك الرنجة وحساء الخضر الروسيّ في التاسع من أيار، يوم انتصار الجيش الأحمر على هتلر. " أريد أن أكون فنانًا محفزًا في تجسيدي القادم"، يقول ذلك مدركًا تمامًا كم يبدو هذا متناقضًا تاريخيًا.
في عام 1995، قمتُ بعرض عمل مدهش ومحوريّ لدوف هيلر في العرض الافتتاحي لمعرض الكيبوتس، عمل عن قصة حياته وقصة والديه، عن المحرقة والتّخلّي، الهجرة إلى إسرائيل، الابتعاد والتأقلم. كان شاؤول سيتر، ناقد الفن في صحيفة هآرتس اليومية، رأى رواية رسمية في هذه القصة، واحدة عن " المحرقة والنهضة"، بينما تكمن حقيقة هيلر في مكان اخر – كان هجر والديه له بمثابة "محرقته" الشخصية، حيث لم يكن بيدهما حيلة بسبب الحرب. تبعهما الى إسرائيل بعد عشر سنوات محاولا اقناع نفسه مرارًا وتكرارًا أن هذين "الرجل والامرأة" هما والداه والأطفال بجوارهما هم اخوته. أصبحت الإيديولوجية الشيوعية لوالده، قائد عمّال مخلص، الرابطة بين الأب والابن، وأدخل هيلر نفسه الى الكيبوتس بدافع الولاء الذي يمكن تفسيره بواسطة سيرة عن الابتعاد والانتماء، كسيرته. الأمر الذي اعتبره سيتر "رسميًّا"، فسّرته انا انحرافًا عن القاعدة –انشغل هيلر بالإيدلوجية الشخصية، الخاصة والمتعلقة بسيرته الذاتيّة بدلًا من التركيز على الإيدلوجية الجماعية للكيبوتس. بدلًا من الترابط التلقائي مع المجموعة، يتحدث عن الإقصاء والتغريب. بدلًا من الصحّة والخصوبة، يتحدث عن العلّة والجنون. يطرح هيلر الاكتئاب المزمن الذي تعاني منه أمه في "أمي أحبت السينما" (2006)، الذي نجحت نجمات هوليوود وحدهن تخفيفه. رافقها ابنها، مزارع الكيبوتس الذي يرتدي ملابس عمله الزرقاء دائمًا، عشقها الصامت للنجمات الفاتنات. إنّ دور دوف هيلر بالقصة الشخصيّة يكمل، في رأيي، إرث أرييه اروخ "صورة لوالدي" من عام 1955- رفض للنسيان، رفض ل "إنكار المنفى"، رفض للاسرائيلية التي تربت على كتفها بإحساس من الرضا الذاتي. عندما قام هيلر بعرض سلسلة من الأعمال المحفورة في الحظيرة في نيريم، في بداية السبعينات، برفقة بينحاس كوهين غان، زميل دراسة في بتسلئيل، كان كلاهما يحاول، ليس فقط هدم جدران المعرض والمتحف، بل وطرح أسئلة حول الغربة والتغريب، وهي مفاهيم مركزية لكليهما.
احتوى العرض في متحف النقب والذي قامت داليا مانور بتنسيقه في الأساس على أعمال صنعت في ورشة العمل للطباعة الخاصة بأريك كيلمنيك في القدس، التي كانت تدعم هيلر على مر السنين. كما انه عرض أجزاء، صغيرة جدًا على الأرجح، من سلسلة لوحات فنية مرتبطة بالمناظر الطبيعية في النقب، وتقارب غزة لوادي السلقا، وتقديره لوالديه. تنسجم سلسلة "بوغَنْڤيليا" (1993-1997)، التي تغطي صفحات كاملة بالبنفسجي والوردي، مع نبات الغرنوقي الخاص برافي لاڤي كحضور حيوي في المناظر الطبيعية والادراك على حد سواء. التركيب الصغير الذي وضعه هيلر في غرفة مشاريع المتحف هام بشكل خاص ويردد صدى مشاريعه السابقة (على سبيل المثال، خريطة الرواسب، بالتعاون مع يعقوب حيفتس، من عام 1978، والذي تم ترميمه في عام 2015 في المعرض الزراعي، في بيتاح تكفا. المتحف، بتنسيقي). يحتوي التركيب بإيجاز على المخزون الشكلاني لهيلر، الذي يجب دراسته: سلة بناء مطاطية سوداء، بئر (مياه ، صحراء)، أحواض ، مجاري مياه، مرافق تجميع الأمطار، حمامة مصبوبة في باطون أو خزف، تمثال لينين بنقش روسي. لغة الصحراء وتوقع المطر، والمقاطع الماركسية والمراجع الشخصية (تمثال الحمامة). هيلر ليس فنانًا حكوميًا، لأن المملكة نسيت منذ فترة طويلة المحتوى الذي يتحدث عنه - وهو صدى بعيد لثورتها الطبقية ، التي تكبدت أثمانا شخصية لا يمكن تصورها. بالنسبة لهيلر ، يسير الاكتئاب والثورة معًا في موكب. وداخل سلال البنّائين توجد شجرة تين: مزيج من الباشاناليا الحسية وأدوات العمل – ليس تماما دمجًا سليما.
كان سيتر محقًا في قوله إنّ فضاءات العرض الصغيرة التابعة لمتحف النقب للفنون لا يمكنها احتواء أعمال هيلر بأكملها. إنّ متحفًا بهذا الحجم، مع أهمية المعرض، لا يمكنه دعم معرض استذكاري يغطي أربعين عامًا من العمل. صورة الفنان كرجل غير يافع، في عالم الفن الإسرائيلي، هي صورة لا تحثّ على التفاؤل. بدلًا من تسليط الضوء على اعمال هيلر وأور-نير بعمقها وخبرتها الغنية وتحويلها الى أمر يحتذى به، يستمر السعي للبحث عن نجوم شباب جدد، ولم يتم وضع أي أساس لتخليد ذو معنى. إنّ راديكالية هذين الفنانين القديمين، اللذين عرفا كيفية دمج الفن الطليعي مع القيم الاجتماعية، وكيفية اجتياز الخطوط واذابة الحدود المفهومية والجغرافية، تلاشت وتبخرت حتى بدون الحصول على مستحقاتها الصحيحة في التيار الرئيسي. والآن حان الوقت للعودة إلى استوديوهاتهم المتواضعة وكشف المحادثة التي يجرونها مع الأعباء الإيديولوجية الصارمة التي يحملونها حتى الان، بأعين مفتوحة.