
بينَ النسيان والتذكّر
تخيّل/ي، عزيزي/عزيزتي القارئ/ة، أنك تستيقظ/ين كل صباح دون أي ذاكرة عن الأشخاص من حولك. تتشابك التأملات الأدبية لأمير نصّار بين ذاكرة "فونيس" الكاملة من قصة بورخيس وبين النسيان المطلق الناتج عن الغوص في نهر "ليثي" في العالم السفلي. فهل تُعدّ حياة لا يُنسى فيها أي شيء حياة جديرة بأن تُعاش؟
معالجة تحريريّة: ميخال ب. رون
ينسى
يَتَناسَى
|
الذاكرة / النسيان [...] يرتبط النسيان ارتباطًا دائمًا بالذاكرة، التي تمثل حالة "عدم النسيان"، أو شكلًا من أشكال "مقاومة النسيان"، والتي تصبح حالة طبيعية تتأسس من خلال جهد انتقائي يقوم به العقل. يشير المصطلح الإنجليزي (forget) والألماني (vergessen) إلى نوع من القوة السائلة التي تزيل آثار التجربة، مما يجعلها بعيدة المنال. أما المحو الذي يعبر عنه المصطلح الفرنسي oubli )) من اللاتينية المنخفضة oblitare ": يمحو، يزيل") فينقل فكرة علاقة أكثر تحكمًا؛ هنا يصبح المحو موضوعًا للتحليل بحد ذاته. لم يعد النسيان يمثل مجرد مواجهة مع عملية انتقائية منهجية للتذكر أو الاسترجاع. وفي الإبداع الفني، يميز النسيان حالة انتقال حاسمة إلى نظام آخر للمعنى.4
|
الخطاب الذي يحيط بالذاكرة، كحال الذاكرة ذاتها، يتسم بالمراوغة، فهو عرضة للتعثرات والتشوهات. وفي هذا النسيان تنشأ شاعرية جديدة للنسيان. يبدو أننا نعيش في عصر غارق في النسيان الثقافي، حيث يصبح فعل النسيان ذاته سردًا صامتًا ولكنه عميق لزمننا. تسعى هذه المقالة القصيرة إلى تتبع ملامح النسيان في عدة نصوص أدبية، للكشف عن آلياته الصامتة وشاعريته المخفية، لأن الإنسان، بطبيعته، "كائن نَسّاء (animal obliviscens)".5
نسيان لا شيء
في هذا الاستكشاف، لا يمكننا أن نتجاهل شخصية "فونيس ذو الذاكرة الخارقة" من أعمال خورخي لويس بورخيس القصصية—شخصية تجسد، على نحو متناقض، النقيض التام للنسيان. عند مناقشة الذاكرة وغيابها، يبرز فونيس كواحدة من أبرز الشخصيات في الأدب، تذكير صارخ بما يعنيه أن نتذكر كل شيء ولا ننسى شيئًا. ورغم أن فونيس قد يبدو خيارًا بديهيًا في أي نقاش حول فن التذكر (mnemonics)، أرغب في التعمق أكثر في هذه القصة لاستخلاص بعض العناصر الرئيسية.6
تبدأ قصة بورخيس القصيرة بالكلمات: "أتذكر"، مما يوحي برجل ضائع في فعل استرجاع الذكريات، مستمتعًا بذاكرة شخصية بعيدة عرفها ذات يوم ومتأملًا في كيفية تلاقي طرقهما. هذه الشخصية هي فونيس، شاب تتغير حياته بشكل جذري بعد سقوطه من على ظهر حصان، ما أدى إلى إصابته بالشلل. في أعقاب هذا الحادث، أصبحت ذاكرة فونيس معصومة عن الخطأ على نحو مذهل، مما منحه القدرة الاستثنائية، لكنها قدرة شاقّة، على تذكر كل تفاصيل حياته بوضوح. يمثل هذا التحول بداية استكشاف عميق لتداعيات امتلاك ذاكرة لا تخطئ أبدًا.
"كان يتذكر أشكال الغيوم في الجنوب عند فجر الثلاثين من نيسان عام 1882، وكان قادرًا على مقارنة تلك الأشكال في ذاكرته مع تعرجات التصميم الرخامي على غلاف كتاب مغلف بالجلد رآه مرة واحدة فقط، ومع الخطوط التي أحدثها رذاذ الماء الذي رفعه مجذاف في نهر ريو نيغرو عشية معركة كيبراشو."7 |
"في عصرهم المليء بالاستدعاء التام، لا تضيع الذاكرة أبدًا. وحده فن النسيان هو الذي يختفي."8
|
نفهم أيضًا أن فونيس لم يعد قادرًا على نسيان شيء، حيث أصبحت حياته كلها نقيضًا للنسيان:
"كان قادرًا على إعادة بناء كل أحلامه، وكل تخيلاته. مرتين أو ثلاثًا، أعاد بناء يوم كامل. قال لي: لدي من الذكريات في نفسي وحدها أكثر مما كان لدى جميع البشر منذ أن صار العالم عالمًا. وقال أيضًا: أحلامي تشبه يقظتك. وقال مجددًا عند الفجر: ذاكرتي، سيدي، تشبه مكب النفايات... في الواقع، لم يتذكر فونيس فقط كل ورقة على كل شجرة في كل غابة، بل وحتّى كل مرة أدرك أو تخيل فيها تلك الورقة."9
هل يمكن أن يتمنى أي شخص حقًا أن يعيش حياة لا يُنسى فيها شيء—كسر القلوب، الموت، المصائب، الذكريات المؤلمة؟ لكي يعيش الإنسان، يجب أن ينسى بعض التفاصيل؛ ولكي ينجو، يجب أن يتخلى عن شيء من الماضي. بل وأكثر من ذلك، لكي يفكر ويشكل مفاهيم وأفكارًا مجردة، فإن النسيان ضروري. كما يكتب بورخيس: "أن تفكر يعني أن تنسى الفرق، أن تُعمم، أن تُجرد. في عالم فونيس الممتلئ بشكل مفرط لم يكن هناك سوى التفاصيل، تفاصيل تكاد تكون متجاورة ".10 عالم فونيس، الذي يغمره تسلسل لا ينتهي من التفاصيل الدقيقة، يجعل التفكير التقليدي مستحيلًا.
النسيان، بقوته على انتزاع المرء من اكتمال المعنى، يقدم وسيلة لاستدامة الذاكرة. تفكر الذاكرة، لكنها لا تستطيع القيام بذلك إلا من خلال النسيان، إذا بدلاً من أن يدل النسيان على الفقد، أو الهروب، أو التخلي، يسمح لنا النسيان، بإعادة بناء مرجعية. نحن نختار ما يهم.11
رغم أن بورخيس وصف قصة فونيس بأنها "استعارة طويلة للأرق"، إلا أنها تقدم استبصارات قيمة حول طبيعة التذكر والنسيان. تأمل، كتمرين نظريّ، شخصية قد نسميها ليديا النّساءة أو لوكاس النّسّاء، وهي شخصية لا تستطيع أبدًا الاحتفاظ بأي من ذكرياتها. ما نوع العالم الذي قد تعيش فيه مثل هذه الشخصية؟ كيف ستبدو حياتها اليومية؟—حياة أزعم أنها ستكون مأساوية مثل تلك التي يعيشها فونيس. تتطلب الذاكرة فعل الديمومة، حيث يبني كل يوم على اليوم الذي سبقه. وفي الوقت الذي قد يغيّر فيه العقل أو ينسى بعض التفاصيل، فإن هذه الاستمرارية أساسية لبناء وجود ذو معنى. أن نعيش في عالم خالٍ من الذاكرة، حيث يبدأ كل يوم كلوحة فارغة tabula rasa، يعني أن تجسد جوهر العدمية بعينها.
تخيل، عزيزي القارئ، أن تستيقظ كل يوم دون أن تكون لك أي ذاكرة عمن حولك. كل صباح، يتوجب عليك لملمة وضعك الحالي، معتمدًا على الآخرين ليشرحوا لك أين أنت وما الذي حدث. عاجزًا عن الاحتفاظ بالذكريات، تبدأ من جديد كل يوم، تجمع المعلومات فقط كي تنساها في اليوم التالي. لا تملك أية ذكرى لأحبائك—وهو مفهوم استغلته هوليوود حتى الغثيان. هل هذا المصير أكثر احتمالاً من مصير سيزيف؟ هل يمكننا أن نتخيل ليديا أو لوكاس سعداء؟
"قد يسأل الإنسان الحيوان: لماذا لا تحدثني عن سعادتك وتكتفي بالنظر إلي؟ يريد الحيوان أن يجيب قائلاً: لأنني دائمًا أنسى على الفور ما أردت قوله—ولكنه ينسى هذا الجواب أيضًا ويبقى صامتًا: فيظل الإنسان يتساءل".12
نسيان كل شيء
هنا نلتقي بالتيار المتعرج لنهر "ليثي"، نهر النسيان. في الأساطير اليونانية، "ليثي" هو اسم إلهة أنثوية تعارض "مينيموسين"، إلهة الذاكرة. تُعتبر "ليثي"، مجازًا، ربة النسيان. ومع ذلك، ما يثير اهتمامنا هنا هو "ليثي"، النهر الموجود في العالم السفلي الذي يهب النسيان لأرواح الموتى. عنصر الماء هو المحور الأساسي، إذ تشرب الأرواح الهائمة من نهر "ليثي" لتتحرر من تجاربها وحياتها السابقة استعدادًا للتجسد في جسد جديد.
الأرواح التي تزدحم حول الفيضان هي تلك التي قُدر لها أن تسكن أجسادًا أخرى: في بحيرة ليثي يتذوقون نسيانًا طويلًا، آمنين بحياتهم المستقبلية، ناسين ماضيهم.13 |
عندما يغادر المعركة ويعود إلى والدته، يرفض هكتور شرب النبيذ الذي تقدمه له (6.258-62). يقول: "لا تضعفي أطرافي: أخشى أن أنسى القوة والقتال"؛ فالنسيان يعني الخسارة. لا يريد هكتور أن يفقد قوته المحاربة، ويدرك أنه يمتلك هذه القوة فقط إذا كان ذهنه صافياً، وفي قلبه العزيمة للتفكير فيها، وهو ما يُكون هذه القوة. يفتح النسيان الطريق لحدوث العكس، مما يؤدي إلى الخسارة، والاغتراب، والكوارث.14 |
نجد "ليثي"، نهر النسيان، مرة أخرى في شعر دانتي، جون ميلتون، وجون كيتس، حيث يستخدمه كل منهم لاستكشاف موضوعات الذاكرة والنسيان. في الكوميديا الإلهية لدانتي، يمتلك "ليثي" القدرة على محو ذكريات الموتى من حياتهم الأرضية أثناء دخولهم عالم الحياة الآخرة. يستخدم كيتس النهر للتأمل في الطبيعة الزائلة للتجربة الإنسانية، بينما يستدعيه ميلتون في الفردوس المفقود لتسليط الضوء على العدالة الإلهية، حيث يصور النسيان كمنظر قاحل ومظلم. يتدفق نهر النسيان عبر أرض قاحلة كئيبة، حيث يؤدي فقدان الذاكرة إلى قارة متجمدة قاسية من العواصف الأبدية والخراب.
بعيدًا عن هؤلاء يتدفق تيار بطيء وصامت، "ليثي" نهر النسيان يتدحرج في متاهته المائية، ومن يشرب منه، ينسى فورًا حالته ووجوده السابقين، ينسى الفرح والحزن، اللذة والألم. وراء هذا الفيضان تمتد قارة متجمدة مظلمة ووحشية، تضربها عواصف دائمة من الزوابع وحبات البَرَد الشرسة، التي لا تذوب على اليابسة الصلبة، بل تتراكم وتبدو كخراب من أطلال قديمة؛ أما البقية، فهي مغطاة بثلوج كثيفة وجليد.15 |
أوليمبوس ثان يُقام بجانب الآلهة، عالم النسيان. بعد كل شيء، الآلهة نفسها متورطة في شؤون البشر، سواء كانت تسيطر عليهم أم لا. يصبح النسيان، كوسيلة لإصلاح الشر، بشكل أكثر حتمية، الشرط الأساسي لغزو عالم آخر، حيث لا يُنسى شيء نظريًا، لا الخير ولا الشر.
[...]
الكلمة [lêsmosunê] تُبتكر ليس كإنكار، بل كتشبيه وكمعادل نشط للذاكرة، قوة مكملة، يُقال إنها تمتلك فن طرد الأحزان، كما يفعل دواء هيلين في الجزء الرابع من الأوديسة. توفر lêsmosunê فسحة من الآلام والأحزان، ويصبح النسيان عملها السحري.16
|
من خلال هذه الإشارات، يرمز "ليثي" إلى التفاعل المعقد بين الذاكرة، الهوية، والحالة الإنسانية. وكأن النسيان يصبح ضرورة لإزالة كل ما مضى خلال الحياة الدنيوية قبل الانتقال إلى الحياة الآخرة. يُطلب الفداء في النسيان.
من ينسى؟
بطريقة ما، قد تنسى الروح تجاربها الماضية، لكن هناك أمور تقاوم النسيان. الكتابة، بثنائيتها الساحرة، تحتل كلا العالمين—عالم النسيان وعالم التذكر. نحن نكتب لنخفف الأعباء، لنسلم ذكرياتنا للحبر، محررين أنفسنا من ثقلها. وفي القيام بذلك، نسمح للنص بحمل ما لم نعد بحاجة إلى الاحتفاظ به. ومع ذلك، فإن هذا الفعل نفسه لتحرير الذكريات يحولها إلى حالة من الديمومة، حيث تُوكل إلى الصفحة حتى تتلاشى هي الأخرى، عالقة في الدورة الحتمية للتذكر والنسيان. tempus edax rerum.17
إن مفهوم الأرشيف يحمل في طياته، بالطبع، ذاكرة الاسم "arkhe" لكنه أيضًا يحمي نفسه من هذه الذاكرة التي يحميها: وهو ما يعني أيضًا أنه ينساها.18
أعمال بعض الأشخاص تُخلَّد في الذاكرة. ما زلنا نتذكر كاليغولا، نيرون، نبوخذ نصر، وغيرهم الكثير ممن تركوا بصمتهم في التاريخ. إحدى الركائز الأساسية للسياسة الحديثة هو صمود الشعوب ومقاومتها لعدم نسيان الكوارث التي حلت بها: المجاعات، الحروب، المحارق والإبادات الجماعية. "لن ننسى أبدًا"، يهتف الحشد. فمن الذي سيتذكر إذن، ومن الذي سينسى؟ من يملك حق طرح هذا السؤال؟ هل نحن حقًا أحرار من عبء التاريخ وإلزامه لنا بالتذكر؟
بين الله والمؤمنين يوجد عهد ذاكرة: رغم أن المؤمن قد يخطئ وينسى الله في بعض الأحيان، لكنّ الله يظل دائم التذكر للمؤمن. هذا يخلق نوعًا من عدم التوازن بين نسيان الإنسان وتذكر الله. كما يعبر القديس أوغسطين في اعترافاته: "أدعوك يا إلهي، يا رحمتي. أنت خلقتني، وحتى عندما نسيتك، لم تنسني".19
ومع ذلك، هل تكون الحياة أفضل إذا كان الإنسان يميل إلى النسيان أكثر؟ هل يمكننا تعديل مقولة سقراط الشهيرة: "الحياة بدون تجربة غير جديرة بأن تعاش" لنقول بدلًا من ذلك: "الحياة التي لا يُنسى فيها شيء غير جديرة بأن تعاش"؟ ربما في النهاية، ننسى كثيرًا، ولكننا نتذكر بعمق أكبر من خلال نسياننا. من منا لم يحاول استعادة الزمن الماضي على الطريقة البروستية؟ حتى ونحن نقلب الزمن، كساعة رملية، ربما ينبغي لنا أن نحتفظ بوعيٍ بنسياننا، متأرجحين بين الخط الرقيق الذي يفصل بين الذاكرة والنسيان.
- 1. https://www.etymonline.com/word/forget#etymonline_v_11803. تعريف أصل الكلمة عبر الإنترنت
- 2. تعريف الكاتب
- 3. تعريف المؤلف بالارتكاز على دلالات الفعل العربي.
- 4. Jean Bollack, “Memory / Forgetfulness,” Dictionary of Untranslatables: A Philosophical Lexicon, ed. Barbara Cassin, trans. and ed. Emily Apter, Jacques Lezra and Michael Wood (Princeton University Press, 2004), 636.
- 5. Harald Weinrich, Lethe: The Art and Critique of Forgetting, 1997, 1.
- 6. أستخدم كلمتي " forgetting " و" forgetfulness " بالتبادل، رغم أن الأولى تصف فعلًا محددًا، في حين تشير الثانية إلى حالة أو وضع مستمر يمكن أن يعيشه الأشخاص أو الأشياء..
- 7. Jorge Luis Borges, Ficciones, 1994, 90.
- 8. Kodwo Eshun, “Further Consideration of Afrofuturism,” CR: The New Centennial Review 3.2 (Summer 2003): 287.
- 9. Borges, Ficciones, 90.
- 10. Borges, Ficciones, 92.
- 11. Bollack, “Memory / Forgetfulness,” Dictionary of Untranslatables: A Philosophical Lexicon, 645.
- 12. Friedrich Nietzsche, On the Advantage and Disadvantage of History for Life, 1874
- 13. Virgil, Aeneid, 6.703, translated by Theodore C. Williams..
- 14. Bollack, “Memory / Forgetfulness,” Dictionary of Untranslatables: A Philosophical Lexicon, 638.
- 15. The Complete Poetry and Essential Prose of John Milton, “Paradise Lost, Book II”, 2007, 342.
- 16. Bollack, “Memory / Forgetfulness,” Dictionary of Untranslatables: A Philosophical Lexicon, 639-40.
- 17. الزمن ملتهم كل شيء
- 18. Jacques Derrida, “Archive Fever: a Freudian Impression,” Diacritics 25.2 (Summer 1995): 9.
- 19. Saint Augustine, Confessions, 1998, 262.