نبوءة النهاية أمس

قبة الصخرة – صخرة الخلاف المذهبة، المشحونة – في مركز معرض قدمه غاليري التصوير بكلية بتسلئيل. نوعه حزان تكتب لتوهو عن المعرض وعن البحث البصري الذي سبقه، وفحَصَ مئات صور الموقع في السنوات الـ150 الأخيرة، مقترحًا مفاهيم جديدة لفحص تمثيلاته البصرية

Advertisement

منذ بدايات التصوير الأولى اهتم سيّاح، باحثون ومغامرون بقبة الصخرة – صخرة الخلاف المذهبة، المشحونة، والتي تهدد في أحيان متقاربة جدًا بإشعال الشرق الأوسط برمته. منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا، يزداد ويتسع حضور قبة الصخرة البصري في الفضاء العام الفلسطيني-الاسرائيلي. وسأقترح في هذا المقال تحليلا لصور بمعرض "قبة الصخرة"، الذي كان الشهر الفائت في غاليري التصوير بكلية بتسلئيل (قيّمو المعرض: أفيطال براك، دور غيز ونوعه حزان)، بالمقارنة مع صور أرشيف تاريخية للموقع في السنوات المئة والخمسين الماضية، والموجودة في أراشيف اسرائيلية رسمية.

Temple Mount-4.jpg

منظر القدس من جبل الزيتون، طباعة وفقًا لتصوير شمسي على لوحة فضية للمصور الفرنسي فريدريك غوبيل فيسكيه. 1839. هذه أول صورة للحرم القدسي، وفقًا للمعلومات المتوفرة.

 

إن عرض هذه الصور وتحليلها، مثل المعرض في بتسلئيل، هو جزء من مشروع نقدي شامل بادرتُ اليه في السنة الماضية، وأقوده بالاشتراك مع الباحثة والقيّمة أفيطال براك، ومع الباحث والحقوقي د. رائف زريق. يجري المشروع في مركز منيرفا بجامعة تل أبيب، وهو يقوم على بحث بصري يسعى الى فهم السرديات الثيولوجية-القومية التي تم فيها إدراك قبة الصخرة، على امتداد تاريخ الصهيونية، من خلال ظهورها في الحقل البصري المحلي. وخلافًا لأبحاث من مجال تاريخ التصوير، التي تجاهلت البعد السياسي لصور قبة الصخرة، ورأت فيها أساسًا نتاجًا واضحًا لتأثير أسلوب الفن الأوروبي الرومانسي-الاستشراقي1، فإن هذا المشروع يسعى للتأشير على العلاقة ما بين الصورة البصرية والمعنى السياسي. استمرارًا لموروث النقد البصري، يكشف المشروع العلاقات الوثيقة ما بين تبلور الأفكار القومية الصهيونية وبين الطابع الذي تم من خلاله تطويع قبة الصخرة لأغراض الدعاية في وثائق صهيونية رسمية، والتي تم تعميمها في فلسطين وخارجها، ابتداء بأواخر القرن الـ19، مثلما في اسرائيل المعاصرة لاحقًا.

إن الحجّة الأساس في المشروع هي أن صور قبة الصخرة التي أنتجتها ولا تزال تنتجها مؤسسات الدولة وتحت رعايتها، تشفّر في طيّاتها منظومات رسائل وتشحن الموقع الموثق بالتصوير بمعان مختلفة وفقا لاحتياجات سياسية وايديولوجية متبدلة. أي أن صور قبة الصخرة التي تظهر في الحقل البصري الاسرائيلي، والتي سأعرض بعضًا منها هنا، تقوم بوظيفة فعالة ومنهجية، ليس لوصف المزاجات العامة في اسرائيل وتمثيلها، بل أيضًا لبلورة وترسيخ هذه المزاجات. 

Harhabait _at_67.jpg

"جنود الجيش الاسرائيلي مقابل القدس، بعد وقت قصير على اقتحام المدينة وتحرير المدينة"،
مصوّر غير معروف، معاريف، حزيران 1967، إصدار كتب لدوري، تل أبيب

 

جمعنا في إطار المشروع نحو 1500 صورة لقبة الصخرة من الأعوام المئة والخمسين المنصرمة. بعد ان صنفنا المجموعة وفقًا لمعايير بصرية، أنتجنا مخزونًا محدودًا لسبعين صورة تمثّل حجتنا، والتي سبق أن نُشرت في منابر عامة متنوعة في لحظات تاريخية مركزية. أرسلنا هذه الصور الى كتّاب وكاتبات من مجال العلوم السياسية حيث عقّبوا بنصوص نقدية. وسوف تنشر النصوص مع الصور في كتاب، مستقبلا. مخزون صور الأرشيف التي جمعناها أرسلناه أيضًا الى طلاب ومحاضرين في قسم التصوير في بتسلئيل، وطلبنا منهم التعقيب بواسطة أعمال بصرية أصلية خاصة.

على الرغم من أن قبة الصخرة تظهر في الصور منذ العام 1839، فلم تحظَ حينذاك بالمكانة الأيقونية التي توجد لها اليوم. وأشبه بمواقع قديمة أخرى في أرجاء البلاد المقدسة والامبراطورية العثمانية، فقد تم تصويرها من قبل سياح أثرياء، صيادي آثار، أو مصورين أوروبيين رأوا في مواقع المنطقة وأبنائها بقايا حية من فترة التوراة والعهد الجديد. وحين ازداد الاهتمام الصهيوني أيضًا بفلسطين، بقيت قبة الصخرة موضوعًا هامشيًا قياسًا بالتمثيل البصري، واقتصر حضورها في الفضاء البصري الفلسطيني فقط كقسم من المعايدات بالسنة الجديدة أو صور "شرق" أشارت الى وجهة الصلاة (مثل تلك الصور التي عرضت أمام اللجنة الدولية التي نظرت في أحداث 1929، في الحرم القدسي). على نحو مفاجئ، استمرت هامشية قبة الصخرة في الحقل البصري الاسرائيلي كذلك بعد اقامة دولة اسرائيل عام 1948. ابتداء بهذا العام وحتى أواخر الستينيات، كانت فضاءات النقب هي التي حظيت بمكانة مفضلة واستخدمت كوسيلة لتجسيد الأمثولات القومية عن ازدهار القفر وجمع الشتات والخ.2 عمليا، بدأت صور طيف المناظر الطبيعية التي تقع قبة الصخرة في مركزها تتبوّأ مكانا مركزيا في الحقل البصري الاسرائيلي، فقط مع احتلال اسرائيل القدس الشرقية عام 1967. منذ ذلك الحين تحولت قبة الصخرة الى إحدى الصور الأيقونية الشهيرة في اسرائيل-فلسطين، فهي تظهر على بطاقات البريد السياحية، طوابع البريد، التقويمات السنوية، السلع الدينية، حاملات المفاتيح، شراشف الطاولات، الأدوات المنزلية، الملصقات وألبومات الهدايا الفاخرة.

 

harhabait_bamahane.jpg

غلاف المجلة الأسبوعية "بمحانيه" (في المعسكر) في رأس السنة 1967
نظرة تطلّ على الحرم القدسي من جبل الزيتون، أرشيف مجموعة الصور، مكتبة بيت أريئيلا

 

سوف أستخدم هذا التماثل بين سيطرة اسرائيل الجغرافية على قبة الصخرة وبين سيطرة قبة الصخرة على الحقل البصري الاسرائيلي، لغرض تحليل الصور بمساعدة منظومتين يتم بواسطتهما إخضاع الفضاء البصري لغاية ممارسة القوة على الفضاء الملموس. المنظومة الأولى هي التلقين البصري وهو مفهوم أرغب باقتراحه هنا للمرة الأولى. والمنظومة الثانية هي الربط بين الرؤية والسيطرة.

 

Harhabait_gold.jpg

الحرم القدسي على بطاقات سياحية. السبعينيات
 

1. التلقين البصري

أسعى، أمام التأمل في صور قبة الصخرة الملتقطة في الحاضر والماضي، الى ترسيخ مفهوم التلقين البصري. التلقين البصري Initiation Visual هو سيرورة يؤدي خلالها العرض المتكرر لموضوع معين ضمن أنماط عرض ثابتة – أي بالمنظور نفسه، الزاوية نفسها واللونية نفسها – الى تأهيل وتمرين عين الناظر على رؤية موضوع الصورة وفقًا لأنماط عرضه الثابتة، حتى في غيابه. يصف المفهوم التلقين بمعنى التأهيل والتمرين، وكذلك مرحلة التطور التي يجب اجتيازها كشرط قبول للمجموعة (أشبه بطقس قبول شخص لمنظمة ما). على الرغم من أننا نحكي عن سيرورة غير واعية، فالتلقين النظري، مثل قصص التلقين الكلاسيكية، منوط بفقدان يجب على التلميذ تحمّله كعلامة على ولائه للمجتمع الذي يرغب في الانضمام اليه. وهذا لأن شكل العرض الثابت الذي يكرَّس الموضوع فيه، والموقع الثابت الذي تقف الناظرة عليه قياسًا بالموضوع، يقيدان ويكرّسان مدى المعاني، القيم والسرديات التي يفترض أن تفهم الناظرة المتأملة في إطارها ذلك الموضوع المشار اليه. وهكذا يتم اخفاء سرديات ممكنة أخرى وفرض نسيانها. لا تتم سيرورة التلقين البصري ضمن سيرورة تربوية واضحة، وإنما في كل مناسبة نلتقي فيها الصورة البصرية لذلك الموضوع، مصادفة أو عمدًا، في الفضاءات العامة أو الخاصة. وعلى الرغم من التداعيات الباعثة على الاكتئاب في وصف هذه السيرورة، فيمكن الافتراض بأن جميع قراء هذه المقالة قد تعرضوا لها بأنفسهم.

 

harhabait.jpg

الحرم القدسي على بطاقات سياحية. السبعينيات
 

הר_הבית.jpg

دافيد عكيدا. جبل المكبر/ فن مفهومي في تل أبيب, 2015 طباعة رقمية بتقنية رش الحبر30*60 سم

 

راودتني الأفكار عن التلقين البصري خلال مشاهدتي عمَل لوح مزدوج لمنظر حضري (2015) لأريئيل هكوهين، وصورة جبل المكبر / فن مفهومي في تل أبيب (2015) لدافيد عديكا. في حين تم محو قبة الصخرة في صور المنظر لدى هكوهين من المساحة ما بين الصورتين، كأنما بمحض الصدفة، فإنه يظهر مكانها في عمل عديكا بلون ذهبي على خلفية زرقاء. يذكّر العملان بالصور الأيقونية للقبة من دون أن تظهر فيها فعليًا، فيجري تشخيصها من قبل المشاهد كموضوع للصور، على أساس معرفتها المسبقة في صور أخرى للفنان. وهكذا يكشف هذان العملان نمط العرض المعهود لقبة الصخرة في الحقل البصري الاسرائيلي-الفلسطيني، والقيود والشروط البصرية التي تم تلقيننا في اطارها كيفية رؤية المكان: تقسيم سلس بين ارض وسماء، منظور مركزي تتبوأ فيه قبة الصخرة مركز الاطار، زاوية تصوير واسعة ولونية شديدة.3 في اطار شروط الرؤية هذه تحولت قبة الصخرة الى صورة ميثولوجية، فوق حقيقية، جامدة، ثابتة وبعيدة على الدوام.

 

ariel.jpg

أريئيل هكوهين. مشهد حضري. طباعة رقمية. 77*212 سم. 2015

 

אנדי וורהול - Copy - Copy.jpg

نيف بن دافيد. مارلين مونرو. طباعة رقمية. 60*60 سم. 2015
 

في الوضع السياسي الراهن، حيث تطلَق تهديدات علنية بتفجير المساجد كل عام، وحيث يتم توزيع صور محرّفة في المدارس للحرم القدسي بدون قبة الصخرة، فإن إخفاء الموقع من المنظر كخطأ مطبعي أو كتفجير بالون، في عملي هكوهين أو عديكا، يمكن فهمه ليس فقط كمن يعكس صنوف التلاعب البصري التقليدي. إن إمكانية التخيّل بواسطة العملين كيف سيبدو اليوم التالي لنهاية العالم، حيث تتحقق نبوءة النهاية والآخرة، تمكننا من تفسير العملين أيضًا كغمزة مروّعة، مظلمة ومخيفة. كذلك، فمن خلال تقديمها بدائل لصور جبل المكبر التقليدية التي تستند اليها، فإن العملين يوضحان مدى التلاعب والمحدودية في المُجمَل البصري التقليدي لقبة الصخرة، ولكن أيضًا مدى هشاشتها وامكانية نقضها.

 

في العمل مارلين مونرو لنيف بن دافيد (2015)، يتم الافراط في موضوع تحويل قبة الصخرة الى أيقونة من خلال نسخها ومضاعفتها وتغيير لونها، بشكل يذكّر بأعمال فنان البوب الأمريكي أندي وارهول (Andy Warhall), الذي نسخ في الستينيات صورًا لشخصيات شهيرة في طباعات ورسومات، وعرضهم كمنتوج يمكن المتاجرة به. بالمقابل ففي صورتيْ براك روبين (2013) تم نقل قبة الصخرة من مكانها داخل المنظر المقدسي المعروف الى مسجد الرمل في عكا والمسجد الكبير في الرملة. أعمال بن دافيد، مثلما لدى روبين، تشير الى أن الفنانين استوعبا نمط العرض الثابت الذي يجب رؤية جبل المكبر بواسطته. وحين هضما هذا النمط، يقومان بالتعرض له والكفر به.

  

b_r (1 of 3).jpg

براك روبين. في مسجد الرمل، عكا،. طباعة رقمية, 46* 37 سم. 2013
 

2. الرؤية والسيطرة

من بوعث الاهتمام أن نفكر بالأعمال التي يضمها معرض "قبة الصخرة" وعلاقتها بالصور التاريخية التي تم جمعها في اطار البحث، في ازاء احدى المسلمات المعروفة في البحث البصري أيضًا، ومفادها وجود رابط بين الحق في العرض والتأمل في الموضوع وبين السيطرة والملكية عليه. وفقًا لهذا الموقف، سواء كان المرئي إنسانًا، أرضًا أو غرضًا، فإن تمثيله يفترض بالضرورة علاقات مسيطِر وخاضع للسيطرة بينه وبين من يقوم بتمثيله (المصور أو الرسام) وبينه وبين المشاهد. يكشف البحث البصري لمجموعة الصور التاريخية أن نقطة النظر التي تم تصوير قبة الصخرة منها، ابتداء من العام 1967، تشبه بصورة معينة نقطة النظر البانورامية الشاملة التي تظهر في الصور التي صُورت حتى ذلك الحين، ولكن مع فارق واضح: في حين أن الصور السابقة كانت على الأغلب خالية من أي حضور انساني وبالتالي أضفت على المنظر المصوَّر قيمًا أسطورية ومثالوية، فقد اضيفت الى صور قبة الصخرة الملتقطة بعد العام 1967، صورة الناظر المتأمل (وليس الناظرة المتأملة أبدًا) الحاضر في الصورة وهو ينظر من بعيد ومن فوق نحو القبة. الطائرات الحربية، الشرطيون والجنود الذين ينظرون الى المساجد، يحظون بمكانة محترمة في هذه الصور، وحتى لو ظلوا بأنفسهم مجهولين فيمكن بوضوح ملاحظة طابع نظرتهم، المزودة بمناظير ومهدافات اطلاق نار، والتي تطلّ على الفضاء دون قيود. هذه النظرة تعكس السيطرة والملكية الاسرائيلية على الفضاء المصوَّر، وتنتج فصلا واضحًا بين الناظر المتأمل، المنتسب الى تنظيم دولة، حديث وغربي، وبين المنظر الذي ينظر اليه، الذي بفعل نمط معماره والسكان الذين يقطنونه يصنّف كمنظر ما قبل حداثي، أصلاني ومشرقي. إن صورة الناظر المتأمل – الجندي أو الطيار – داخل الاطار التصويري في هذه الصور يحوّل قبة الصخرة الى مكان يجب السيطرة والانتصار عليه. للمفارقة، فمن خلال هذا ينشأ فصل حاد بين دولة اسرائيل وبين مكان يتم التعاطي معه كأحد مصادر اليهودية القديمة.

على نحو مناقض تمامًا يتحدى مسلّمة التأمل=السيطرة، يعرض قسم من الأعمال في المعرض تملصًا ورفضًا واضحين لتملك المكان الذي توثقه. خلافًا لصور المنظر التقليدية، التي يُتاح فيها التملّك والسيطرة البصريين على الموقع بواسطة النظرة الكاملة عليه، تقترح أعمال المعرض نظرة مشوّشة ومنقوصة على الجبل والمسجد، من خلال إبراز التلاعب مثل التمويه، القطع، النقل، الاخفاء، تغيير زاوية النظر أو استبدال صورة القبة بصورة أخرى. على سبيل المثال، ومضات الشظايا السريعة والملونة لقبة الصخرة، الهلال، شجرة النخيل وحجر الكعبة في مكة، في صورة جدارية (البلدة القديمة القدس 2015)، لغستون تسفي إيتسكوفيتش التي تحفظ، بتوزيعها العشوائي على الجدار، السرعة والعفوية اللتين انتجت بهما، تذكر بأن كل محاولة للسيطرة على النظرة، التحكم بها وتلقينها، محكومة بالفشل.

 

גסטון.jpg

غستون تسفي إيتسكوفيتش. جدار (البلدة القديمة في القدس). 2015

 

أخيرًا، يلغي العملان اللذان يقدمهما المعرض بُعد قبة الصخرة وتماسكها المعروفين، بصورتين مختلفتين: في عمل الفيديو غاز، ذهول، دخان لشبتاي بينتشفسكي، يظهر الفضاء الداخلي لمسجد قبة الصخرة خلال مواجهات عنيفة وقاسية بين متظاهرين محاصرين داخله وبين قوات الأمن التي تواجههم من الخارج. قنابل صوتية، قطع أثاث واغراض مختلفة تُقذف وتتطاير في فضاء المسجد، في حين يتراكض الأشخاص داخله من جهة الى أخرى وهم يصرخون. هذا العمل يعتمد على أفلام قصيرة لمعارك حقيقية وقعت في السنوات الأخيرة داخل مبنى المسجد، والتي ركبها الفنان في فيلم واحد. الاطلالة المقطّعة على المسجد من الداخل تردد صدى محاولات التسلل التي قام بها رسامون، كتّاب، ولاهوتيون مسيحيون أواخر القرن الـ 19. على نقيض الحظر المشدد على دخول غير مسلمين، الذي ظل ساري المفعول حتى عام 1919، وعلى الرغم من أن خطر القبض عليهم كان حقيقيًا، سعى أولئك المغامرون الى التسلل خلف الأسوار واشباع فضولهم من المسجد مباشرة. أشهر حالات التسلل كانت عام 1833، التي قام بها ثلاثة إنجليز تخفّوا كمبعوثي الباشا. وقد مكثوا في الموقع لمدة ستة أسابيع، أعدّوا خلالها رسومات تخطيط للمسجد من الداخل، أجروا فيه قياسات ورسموا أقسامه المختلفة، بذريعة الاستعداد لترميمه.

 

شبتاي بنتشيفسكي. غاز، ذهول، ودخان, 2015

 

صفاء خطيب. صلاتي 2013

 

الرسم الغرافيكي للمسجد من الداخل جاء متمّمًا لصورته البانورامية، وشكل طريقة إضافية أمام الأوروبيين ليس لنقل صورة شاملة لأحد أهم المعالم في الشرق الأوسط فقط، وإنما وبالأساس لنقل الشعور بأنهم يعرفون الموقع بشكل تام. على نقيض محاولات التوثيق والرسم المذكورة، لا يوفر عمل بينتشفسكي للمشاهد حتى صورة واحدة واضحة وكاملة للمسجد من الداخل. بدلا من صورته الثابتة والكاملة، الصورة هنا مقطعة، تشوشها على الدوام ظلال قاتمة، زوايا تصوير مختلفة وومضات ضوئية. للمفارقة، ما يمنح هذا العمل تماسكًا هو ضجيج اطلاق العيارات في الخارج، والذي يرافق الفيديو على امتداده كالإيقاع.

 

كذلك، في عمل الفيديو صلاتي (Salati لصفاء خطيب، فإن الصوت، وليس الصورة، هو من يلعب دور إعطاء المعنى للعمل. المشاهدون يساهمون هنا في طقس صلاة الفنانة، بواسطة كاميرا مربوطة برأسها خلال أدائها الصلاة. وهكذا نسجد معها على سجادة الصلاة أو نركز نظرنا في أغراضها الخاصة المنثورة في الغرفة وفي الصور المعلقة على الجدار. هنا أيضًا يتم استحضار المسجد ليس من خلال ايقونته البصرية بل من خلال التوجه الجسدي نحوه، إن كان في زاوية وقوف المصلية أو بكلمات صلاتها. هذا التوجّه يهزّ الفكرة عن المسجد كأيقونة بعيدة يمكن السيطرة عليها وفهمها بواسطة النظرة. ومثلما في أصوات إطلاق العيارات من عمل بينتشيفسكي، فإن كلمات خطيب أيضًا تتسلل داخل الصورة بشكل يقوم بإلغائها، أو على الأقل بجعلها فائضة عن الحاجة.

 

HarHabait_camals.jpg

الحرم القدسي على بطاقات سياحية. السبعينيات

 

يمكن التمعّن بالفروق بين الأعمال المعروضة في معرض "قبة الصخرة" وبين التمثيلات التاريخية للقبة، الموجودة في الأرشيف، بواسطة التمييز بين "مكان" و "فضاء"، والذي يقترحه الفيلسوف الفرنسي ميشيل دو سرتو  De Certeau.4 فهو يقول إن المكان هو ما يمثل النظام والتنسيق بين العناصر الموزعة بشكل متوازن. المكان يزيل إمكانية تواجد عنصرين الواحد بجانب الآخر ويطمح الى استقرار ثابت. قياسًا بالمكان، يكتب دو سرتو، فإن الفضاء هو كالكلمة حين تُحكى، أي حين تستوعَب داخل الواقع، وتعرَّف من خلال التغيّر الذي يطرأ من داخل السياق. على نقيض المكان، فهي تخلو من استقرار ذلك السليم، اللائق والملائم.

 

harhabait air force journal.jpg

طائرة حربية فوق قبة الصخرة. منشور مرفق بالمجلة الناطقة باسم سلاح الجو. أواخر الستينيات

 

في فترة تزداد فيها أهمية مكانة قبة الصخرة كرمز للحرم القدسي في الخطاب الاسرائيلي الفلسطيني بوصفه مكانًا ذا أهمية رمزية ثابتة وحصينة، ولا يمكنه احتواء وجود قوميتين الواحدة بجانب الأخرى، فإن أعمال المعرض تقدم مكان قبة الصخرة، السجينة داخل تعقيدات معطيات المكان العينية، كفضاء جديد تنتظم فيه أنواع علاقات غير معروفة مسبقًا بين المشاهدة والسيطرة، بين التمثيل والواقع وبين الماضي والمستقبل.

 

استمرّ معرض "قبة الصخرة" في غاليري التصوير بتسلئيل، جبل المكبر، القدس، حتى نيسان الفائت 2016.

قيّمون مسؤولون: أفيطال براك، دور غيز ونوعه حزان 

إنتاج: ألينا أوسيبوف، بتسلئيلجمع الصور وعمل الأرشيف: حين بنغيات، جامعة تل أبيب

 

  • 1. Eyal Onne, 1980, Photographic Heritage of the Holy Land, 1839- 1914, Paperback Ayshe Erdogdu , 1999, The Victorian Market for Ottoman Types, History of photography 23:3. 269-273. Nissan N. Perez, 1988, Focus East: Early photography in the Near East (1839 -1885
  • 2. Hazan, Noa, 2017. Race and Visual Culture in Israel, Forthcoming
  • 3. على نقيض مبان أيقونية أخرى في العالم، مثل برج إيفل في باريس أو مبنى ناطحة السحاب في نيويورك، التي صُوّرت بتنويعة واسعة من الاتجاهات، الزوايا والمنظورات، فإن مجمل الامكانيات التي يمكن بها رؤية قبة الصخرة في الوثائق البصرية الرسمية تقتصر على تلك النظرة البانورامية والمتماثلة.
  • 4. Michel De Certeau, 1988. Spatial Stories, "Spaces and Places", p. 117