مِن الفَساد إلى الفَساد (قراءة في أعمال مختارة للفنانة حنان أبو حسين)
يقدّم د. وسام جبران قراءة سوسيو-ثقافيّة لأربعة أعمال فنيّة للفنانة الفلسطينية حنان أبو حسين (عجينة، صُبّي الزيت، بُقجة، الأب الهدّام) وذلك بوَصفها تمثيلاً لعَوالم داخليّة تعكس في نهاية المطاف سؤال الفن وعلاقته مع الفعل اليومي بمستوياته المتعددة، وتمثّل دورة الحياة والموت، الحركة والسكون، المقدّس والمحظور، والحضور والغياب.
سيرورة الحياة: ماضٍ مُستمرّ في الفعل اليوميّ
"عجينة" – [فيديو 6 د، 2019]
لا يمكن مشاهدة الفيديو آرت بعنوان "عجينة" بوصفه خطًّا سرديًّا واحدًا، بل بوصفه نسيجًا متواشجًا من المسارات والطبقات التي تتشابك لتُسكتَ وتُفصحَ في آنٍ معًا.
تُشكّل مادة الطحينـ عند الفنانة الفلسطينية حنان أبو حسين (من مواليد مدينة أم الفحم، تعمل في القدس وتقيم فيها) مرتكزًا معيشيًّا للإنسان الذي يتعامل معها، عبر تاريخه، بوصفها مادة اشتغال يوميّة وسيرورية، لا تبدأ بالقمح ولا تنتهي بالخبز، بل بمجمل منظومة العمل والحياة، حيث يكون الانغماس فيها، معالجتها، عجنها وإعدادها بكل شكلٍ ممكن، هو ذاته الانغماسُ في الحياة، وهنا يكون الانسان فاعلاً وأداةً في الوقت نفسه، فبالكاد نرى "الوجه" في عدسة الكاميرا المُنشغلة لدقائق طويلة بالأطراف: اليديْن والرّجلين؛ أي الأعضاء الأداتية الوظيفيّة عند الانسان، لا الوجه بوصفه هُويّة. العمل والاشتغال هنا هو فعلٌ إنسانيٌّ كونيّ. لكن، تفتح هذه المقدمة أقفالَ العمل لتودي الى أسئلةٍ كثيرةٍ هامّة.
في اللحظة التي يولد فيها العمل، يختلط الطحين بالزيت في مشهدٍ بلَليٍّ لزجٍ يُشبه لحظة الولادة ذاتها، ليختفي الزيت بعد ذلك بوصفه مادةً مُستقلّةً ويُشكّل مع الطحين مادة/ لغة العمل الفنيّ، "العجينة"، عابرًا الى مشهدٍ يطغى فيه الجفاف على المادة المائعة اللزجة؛ جفافٌ واعٍ يقوم به الانسان لمعالجة مادّته الحيّة بـ "تطهيرها" و"تلويثها"، وبضغطها جُوّانيًّا وشدّها وتمزيقها نحو خارجها في آنٍ معًا، وذلك كلّه عبر سيرورةٍ يتكشّف فيها الوجود المعيشيّ الإنساني بوصفه فعل تكفُّنٍ، وتتجلى فيه الحياةُ بوصفها إرهاصًا ديموميًّا بالموت.
من العبث الفصل بين الانسان والطحين (المعجون بالزيت) في هذا العمل. كلاهما سيان هنا، لا على مستوى المادة فقط، حيث يتمازج الطحين بالجسد، بل على مستوى المساحة الواحدة التي تلغي الطحين بوصفه مادة موضوعيّة وظيفيّة وكذلك تُلغي الجسدَ بوصفه أداة عمل وهدفًا استهلاكيًّا، لتُحيل الاثنين معًا الى حيّز الذات الواحدة في جدليّتها مع الحياة والموت، بدءًا من لحظة التفاعل والبَلَلِ الجنينيّ، لحظة "القذارة" (سُقوط الرحم) التي يبدأ العُمرُ منها، و"الفساد" الذي تنبعثُ منه الحياة، وصولاً الى لحظة الانحلال والتّفسُّخ والجفاف، لحظة "القذارة" والفساد التي تُحابي الموت في عَوْدٍ على بدء. لكن، في فَنيّة "عجينة/ لغة" حنان أبو حسين، نجد أن العجينةَ المتراكمة المتناثرة الممتدّة المُتمزّقة المتشظّية المائعة الجافّة البيضاءَ الطاهرة المُلوّثة، لا تترك، بوصفها مادّة الحياة وسيروراتها المتناقضة داخل الذات الانسانيّة، المتلقّينَ (الأحياءَ) عُرضَةً لتهديد الخجل الذي تُحدثُه لحظة الاشمئزاز من الموت وانتقال الجسد الى "الفساد" الأخير، ولا لحظة التقزز من الولادة وانبعاث الجسد من "الفساد" الأول، بل يُحيلُ الحياة الى لحظةٍ زمنيّةٍ منتشرةٍ واحدةٍ، لا ماضي ولا حاضر ولا مستقبل فيها، هي جوهر يُوحّد، دون خجلٍ، بين غشاء الرحم وغشاء الموت (الكفن). فها هو الانسانُ مُنشغلٌ في تخفيف عُنفه: كلُّ لحظةٍ يعملُ ويصنعُ فيها "خُبزه" إنما يصنع فيها كفنه. لكن، العجينة هنا ليست حبيسة بدايةٍ وحيدة ونهاية وحيدة في حياة الانسان، بل هي كذلك غشاء دفئه و"لحاف" نومه الذي يلجأ إليه بعد كل نهار عملٍ؛ العجينة إذًا هي سيرورة الحياة بوصفها ماضٍ مُستمرٍّ في الفعل اليوميّ بكلّ ما فيه من عُنفٍ وجنسانيّة ورغبة، وهي كذلك سيرورة الحياة بوصفها مُستقبلٍ يتمُّ عجنه في كّل لحظةٍ راهنةٍ مُشبعةٍ بماضيها المستمر. العجينة ليست لغةً خارجةً عن الانسان أو منطوقةً (معجونةً) به، بل هي ذاتها الانسان بوصفه زمنًا كونيًّا منتشرًا.
باعتقادي، ثمة مقولة هامة في لغة حنان أبو حسين الفنيّة؛ حيث لغة العجن، بكل ما في حركيّتها وعنفوانها من "تعنيفٍ" للمادة و"جنسانيّة" في الوقت نفسه، حيث لا يتعذّر على النشاط الإنساني أن يتحقق خارج العُنف، وحيث هذا الدفع الى الحدود القُصوى للعنف، يصبح الموت التام هو التجلّي الأكبر للرغبة بوصفها المُشغِّلَ الأساسيَّ لحركيّةِ الحياة في أكمل وجهٍ لها. فبين الانبعاث من الفساد الأول مرورًا من الحالة العادية وبين نشاط الرّغبة، ثمة انبهار بالموت وصولًا الى تكفين الحياة وانحلال الوجود الإنساني في فساده الأخير.
قامت الفنانة التشكيلية حنان أبو حسين (الأنثى) بأداء الدور "الإنسانيّ" داخل هذا العمل المُصوّر. هل كان الأمر سيختلف لو قام (ذكرٌ) بهذا الدور؟ إن في الإجابة على هذا السؤال تحديدٌ لمسارات فهم هذا العمل الفني الرائع والعميق والمركب: فهل هو عملٌ جندريّ معنيّ بالمرأة وحدها بوصفها امرأة، أم أنه معنيٌّ بالإنسان وحسب؟ لكن بعدًا جديدًا قد يُلقي بظلاله على الجانب السوسيولوجي للعمل، حين نعرف أن الثوب الذي ترتديه حنان أبو حسين هنا هو ثوب أبيها (الراحل) الذي ارتبكت علاقتها به وتعقدت كثيرًا.
الجسد بين المقدّس والمدنّس
"صُبِّي الزِّيتْ" – [فيديو 6 د، 2019]
ينطلق فيديو "صُبِّي الزِّيتْ" للفنانة حنان أبو حسين من عنوان العمل نفسه، من العبارة المعيشيّة اليوميّة باللغة العربيّة العاميّة غير المنفصلة عن واقع استخدامها. هنا تُصبح اللغة المحكيّة مقولةً/ مدخلًا لعالم هذا العمل الفنيّ المُصوَّر، وهو يُفصِح عن نفسه في مضمونه الواضح الذي يطلب أو يأمر (الأنثى) بفعل يستقيم مع حالاتٍ حياتيّةٍ متعددة المعاني دون أن ينحصر في إحداها، وينسجم مع أمثلة شعبية تتبادر الى ذهن القارئ العربي مباشرةً مثل "صبّ الزيت (على النار)"، بمعنى زيادة الأمر المُشتعل اشتعالًا مجازًا. فهل "النارُ" هنا هي جسد المرأة أو وجودها بكلّ تداعياته الممكنة داخل البيئة والسيرورة الحياتية المعقدة (أنثويًّا) في حياة حنان أبو حسين؟
الزيت، زيت الزيتون تحديدًا، مثله مثل مواد كثيرة تدخل في معجم لغة أبو حسين الفنيّة كالطحين والأقمشة، هي مادّة من مواد الحياة الأساسية لا في حياة أبناء بيئة الفنانة وحسب، بل إنسانيًّا دون تخصيص، واضعًا أعمال حنان أبو حسين مرةً بعد الأخرى في خانة الإنسانيّ الكونيّ.
هنا، في هذا الفيديو، وبخلاف إيقاع "عجينة"، يتكشّف الوجه الأنثويّ، منذ اللحظات الأولى، مُفصِحًا عن هُويّته في الوقت ذاته الذي ينكشف "المحظور" و "المُحرّم" المتمثّل بالَّلحم البشريّ الأنثوي العاري.
الفعلُ الظاهر هو فعلُ اغتسالٍ لا يخلو من طقوسيّة، والمادّةُ هي الزّيت (زيت الزيتون الحاضر بقوة في حياة الانسان الفلسطيني تحديدًا)، أما المُغتسلة بذاتها فهي المرأة بلحمها الحيّ العاري وشعرِها الميّت المتكشّف.
جسد المرأة/ لحمها الحيّ/ شهرها المُنكشف، كلّ هذا يدخل في حيّز المُحرّم في ثقافة البيئة التي نشأت فيها الفنانة الحاضرة بشخصها داخل العمل، ومن هنا يُصبح فعل الاغتسال الظاهر هو فعل انتهاكٍ صارخٍ في حقيقته. ولكن سؤال الانتهاك يُحيل بالضرورة الى السؤال: ما هو الشيء الذي يُمكن انتهاكه؟ أو متى يحدثُ فعل الانتهاك هذا؟ ما هي شروط حدوثه؟
في فعل الانتهاك ثمة "تدنيسٌ" ما. تدنيسٌ لما يُعتبرُ مُقدّسًا. ومن هنا يتقاطع المُقدّس مع المُحرّم في الوجود الأنثوي، وفي بعده الجسدي تحديدًا.
ثمة شعوريْن متناقضين في علاقة المجتمعات البشريّة مع المُقدّس، فمن جهة هناك الخوف الذي يُنجّسُ ويُحجم ويرفض، ومن جهةٍ ثانية هناك الانجذاب الذي ينبهر ويرغب ويشتهي. في النجاسة والرفض احتقارٌ ودعوةٌ للتحريم، وفي الرغبة والانبهار إثارةٌ ودعوةٌ للانتهاك. هكذا، يجتمع التحريم والانتهاك معًا في الحضور الأنثوي.
في الانتهاك عنفٌ.
في مجتمع النشأة للفنانة حنان أبو حسين يُنظر الى هذا العُنف على أنه لا يُمكن ترويضه إلا عبر ترويض الموضوع الذي يستثير هذا العنف وهو "جسد المرأة"؛ هكذا يُمارسُ عُنفُ الترويض (ترويض جسد المرأة) في سبيل ترويض عنف الانتهاك، لتقع المرأة ضحيّة عُنفِ ترويضها وعنفِ انتهاكها!
انتهاك "المُقدّس" المتمثّل في جسد المرأة ووجودها الكيانيّ، هو انتهاكٌ للقواعد والقوانين التي أنتجتها المجتمعات من أجل صِناعة هذا "المُقدّس". ثمّة مُفارقة هنا تتجلّى في الاغتسال الظاهر بالزيت الذي هو مادّةُ مَسْحٍ تطهُّريٍّ (مسيحيًّا)، ومادّةُ حياةٍ (فلسطينيًّا) من جهة، وفي النّجاسةِ والقذارةِ المُتضمَّنة والمُحتجبة، التي يدلُّ عليها فعل الاغتسال نفسه، والتي تبلغ ذروتها عند الأنثى في فترة الفَوْعَة (virulence)، والتي لا تنتهي، أي النجاسةُ، إلا بالاغتسال وعودة الجسد الأنثوي من حيّز القذارة الى حيّز النّقاء، ومن حيّز التخويف والتهديد الى حيّز الاحترام والانبهار.
في اغتسال الجسد الأنثويّ العاري بالزيت طقسٌ قُدسيٌّ يُحيل جسد المرأة الى خانة الإلهيّ، حيث تتجلّى ملامح الإبهار للمُحرّم.
في فعلٍ ارتداديٍّ ذكيّ، يشتغل فيديو "صُبّي الزيت" للفنانة حنان أبو حسين شُغل المُنتهك في علاقته مع المتلقّي، فيُديرنا في إيقاعه وطقوسيّته بحركةٍ راقصة يصير معها تراجعُنا شكلًا من أشكال الاستعداد للقفز الى الأمام، باعثًا فينا ذلك الشعور الخارق القادر على إنقاذ ذواتنا من نفسِها، عبر سيرورتها من الفساد الأول الى الفساد الأخير: إنه الشعور بانبعاثِ الخجل.
ارتحالٌ وتهجيرٌ وانتفاء
"بُقجة" – [منشأة تركيبيّة، 2019]
على أرض "الشيخ مؤنس"، البلدة الفلسطينية التي هُجّرت عام 1948، قامت حنان أبو حسين بتعليق 300 بُقجة من القماش في سقف مطحنةٍ، تتدلى في الهواء محشُوّةً بالخبزٍ الناشفٍ المُتيبّسٍ.
اعتاد الانسان أن يدفن الخبزَ في الأرض تحسّبًا للمخاطر والجوع. ثم تحوّلت "الأرض" الى سُرّةٍ قماشيّة يُخزّن الخبزُ الناشف فيها عند الترحال أو التشرّد.
أبناء قرية الشيخ مؤنس الذين تم تهجيرهم من أرضهم عام 1948 عادوا إليها بوصفهم مُشرّدين في رمزيّة البُقج المُعلّقة بين سقفٍ وأرضٍ، لا هُنا ولا هناك؛ هُم المكانُ المُرتحل المُهجّر، لا المكان المُستقرّ الآمن، وهم ذلك "الانتفاء الجغرافي" الذي تحدثت عنه الشاعرة الفلسطينية ريم غنايم، في "سيرة المنافي، ص 11"، أو ما يُسمى اصطلاحًا انتباذ الفضاء (Heterotopia).
في استخدامات حنان أبو حسين للمادة (الطحين في "العجينة"، والطحين في خبز "البُقجة" اليابس) ارتحالٌ وملاذٌ في المعاني والصُور والتوظيفات في آنٍ معًا، وذلك عبر مادةٍ حياتية أساسيّةٍ للإنسان. في هذا الاستخدام تضمينٌ للفلسطيني المُهجّر اللاجئ الذي يعيش في المخيّمات التي هي مكانٌ لا مكان، وتضمينٌ لاغتراب اليهوديّ عبر تاريخه ثم استحواذه على هذا المكان تحديدًا. هنا يكون الملاذُ ترحيلٌ للآخر، ويُصبح غياب الـ 300 لاجئ أو مهجَّر حضورًا كثيفًا في أفق المكان الذي اختيرَ لعرض المُنشأة دون غيره.
لا يمكنني فصل "الأب" الشخصي الذي لعب دورًا إشكاليًّا في حياة فنانتنا وبين الأب الرمزي. ثمة في هذا العمل وظيفتين متناقضتين متجاورتين للأب: الوظيفة الوقائيّة والوظيفة التحريميّة. كما يُشير العمل الى النكوص الاجتماعي المؤقت الحاصل في الإيماجو Imago الأبوي. (في صورة الأب الغائب والأب المخزيّ). من الصعب بمكان فهم تداعيات التعقيد القائم في علاقة "الابنة – الأب" إلا عندما ننظر الى الأب بوصفه ممثلًا رمزيًّا للنظام الاجتماعي.
ليس الأب الرمزيّ كائناً واقعيّاً، بل هو وضعيّةٌ تشابُكيّة ووظيفة معقّدة أشبه بمتاهة المواسير في هذه المُنشأة. هذه الوظيفة ليست سوى شكل فرض الـ "قانون" وتنظيم الرغبة داخل فراغات التعقيدات النفسيّة؛ وظيفة الأب الحقيقيّة هي، في الأساس، توحيد (وليس أن يضع على مرمى النقيض) الرّغبة والقانون. ورغم أن الأب الرمزيّ ليس شخصاً واقعيّاً بل وضعيّةً داخل النظام الرمزيّ، إلاّ أن الابن (الذكر)، رُغم ذلك، هو القادر أن يحتلّ هذه الوضعيّة عبر القيام بممارسة الوظيفة الأبويّة، لكنه يظلّ عاجزًا أن يحتلّ هذه الوضعيّة كاملةً، ومع ذلك، فإن الأب الرمزي لا يتدخّل عادةً في هذا التجسيد إلاّ على شكلٍ مُحتجب كتسلّل الزيت في دهاليز المواسير المُعتمة؛ من خلال توسّط خطاب الأم السائل بصمتٍ كمعاريج الحياة نفسها.
شكّل الأب الرمزيّ عنصراً أساسيّاً في بُنية النظام الرمزيّ؛ وما يميّز النظام الرمزي للحضارة عن النظام المُتخيّل للطبيعة، هو رسم الخط السُّلاليّ الذكوريّ المنطلق في فضاء المنشأة واقفًا بثباتٍ، يدوس بأقدامه على "تنكاتٍ تنضح بزيت الأنوثة المُحتَجِب". الأب الرمزيّ هو كذلك الأب المَيِّت؛ الأب الذي يُقتلُ على يد أبنائه.
إلى جانب الأب الرمزي (الشخصيّ/ الجمعيّ)، ثمة أب مُتخيّل في تركيبيّة المُنشأة، هو عبارةٌ عن إيماجو مركَّب من جميع البُنى المُتخيّلة التي تبنيها الفنانة في خيالها حول شخصيّة الأب منعكسةً في "إيماجو" المُنشأة. قد تنطوي هذه البُنى المُتخيّلة على علاقة ضئيلة مع الأب كما هو في الحقيقة. فيمكن أن يُرى الى الأب المُتخيّل بوصفه أباً مثاليّاً شافيًا كالزيت فوق تعب الجسد، أو بوصفه، على العكس تماماً، "الأب الذي خَصَى طفلَه". فهو الإله الحامي والشافي، وهو الأب المُرَوّع في آنٍ معًا.
الأب: إيماجو بُنى متخيّلة
"هَدم الأب" – [منشأة تركيبيّة، 2019]
بين الأب الرمزي والأب المتخيَّل يبزغ سؤال "المادّة" و "الشّكل/ التصميم" داخل المنشأة: من هو الأب الواقعي؟
الأب الواقعيّ هنا لا يكون سوى "الخاصي الأكبر" أو " أداة الخَصْيِ" التي تحتلّ أنثويّة الفراغ العام للمُنشأة والمكان (بلدة الشيخ مؤنس الفلسطينية برمزيتها). هنا يبزغ سؤالٌ آخر بالضّرورة: من هو المخصيّ/ الأنثويّ داخل السرديات السياسية المعقدة المرتبطة بالمكان؟
الأب هنا موجودٌ في المواسير المتشابكة المتسلسلة (ذكوريًا) عبر تاريخ المكان والمجتمعات الإنسانية، والتي تُحيك متاهةً تتصاعد في الهواء اللايقينيّ، بينما الأم/ الابنة موجودةٌ على الأرض اليقين تمدّ هذه السلالات بالزيت الحيّ الشافي.