الفنّ ملاذًا: عن التجربة الفنية التشكيليّة عند الفنان الفلسطينيّ فؤاد إغبارية
من ذكريات المكان، إلى الذاكرة التفصيليّة البصريّة للفنّان الواعي بقضايا مجتمعه وصراعاته مع الواقع اليوميّ، يُبدع التشكيلي الفلسطينيّ فؤاد إغباريّة، ويوثّق في فنّه خرائط المكان الفلسطينيّ وحدوده في تجربته الفنيّة، ومعه كان هذا الحوار.
ولد فؤاد اغبارية في قرية مصمص عام 1981. حصل على اللقب الاول من اكاديمية بتسلئيل بالقدس عام 2004 وعلى اللقب الثاني من جامعة حيفا عام 2014 ويعتبر من فناني الجيل الذين يعيدون باستمرار تعريف معنى أن تكون فلسطينيًا. يخلق اغبارية عالمًا من الألوان والتفاصيل داخل عمله ويأخذنا إلى عالم الذاكرة، إلى الفضاء الداخلي للواقع الفلسطيني ودوائره الحميمة وينتج التناغم بين عناصر هذا الواقع، ويجعله حادًا وواسعًا ومتنوعًا، وبالتالي فهو يدقّ وتدًا في أرضية هويته البسيطة المعقدة.
زياد حمود: الذاكرة والمكان فنّان يغلقان دائرة العمل الفنيّ وأشكال التعبير عنهما من خلاله. حدّثني عن لحظة انفجار الوعي بهما في مستوى الواقع وتسللهما إلى مستوى العمل الفنيّ عندك؟
فؤاد إغباريّة: ينصَبّ تركيز قسم من مُنتَجي الفنيّ على توثيق ذاكرة المكان. وحين أذكر المكان أخُصّ قرية مُصمص التي وُلدتُ وترعرعتُ فيها، ومنها استمددتُ إلهامي: من عالم الطفولة بين أسوجة الصبّار، والبيت القديم، وعبق الزعتر، وحقول الكِرْسَنّة، وذكرياتٍ خاطفة لجدّي وجدّتي، وقطعان الأبقار والأغنام في مواسم الحصاد، وكروم الزيتون.
وُلدتُ لعائلةٍ متواضعة في قرية مصمص، في عام 1981. ربّاني أبٌ يعمل مُدرِّسًا للغة العبرية، وأمٌ تعمل كربّة منزلٍ وتتحلّى بثقافةٍ لافتة. وبين الشدّة واللين تراوحت تربيتُهما لي. أمّا فرادة عائلتي فتكمُن في الوشائج الإنسانية المتينة التي تخلّقت بين أفرادها، وكانت هذه الخاصيّة السبب في الإغداقِ عليّ بالحنوّ والسخاء عند العطاء، الأمر الذي ولّدَ داخلي حنينًا وشغفًا دائمين للّقاءات العائلية. هذه اللمّات التي تميّزت بعبق الحكايات التي قصّها على مسامعي كلٌ من جدّي وجدّتي في ليالي الشتاء الباردة، فغمرتني بالدفء وأيقظت داخلي الحنين.
تبعا لهذه الحالة-اللين والشدة بذات الوقت- توطنت في شخصيتي عدة عوالم -الشاب الملتزم بحدود واضحة تجاه الحياة التعليمية -والمثابرة في الدراسة، والشخصية متلاشية الحدود -الجريئة والباحثة .
كان لقائي مع المحيط القريب جغرافيا وثيق ومتراصّ -الأرض والمكان- جبال الروحة واللجون والتي رصدت خطوات قدميّ بعثراتها وثباتها - من الحياة الريفيّة استمدَّت معظمُ أعمالي إلهامها، مُوثّقةً حبًّا جمعني بمكانٍ حوّطني. ولوحةٌ تصوّر منظرًا بانوراميًّا كفيلةٌ باصطحابنا إلى جبالٍ ووِهاد تقتطِعُ استرسالها الشوارع أو الوديان. إنّه الرسم الانطباعي الذي أقتنصه من وحي خيالي، بعد أن حُفر في الذاكرة. هذا المنظر الشموليّ الذي يحمل بين جنباته روح جبال الروحة أو وِهاد اللّجون أو حتى تلك الحقول النائية التي رُحت أجول يومًا بين منحنياتها وانعطافاتها طفلاً فضوليًّا وشابًّا مُغامِرًا.
في طفولتي اعتدتُ التسكّع بمفردي، وأحيانًا رافقتُ أهلي، وفي الحالتين كنتُ متيقّظًا لهمسات الطبيعة وهمهمات الكون، تلك التي تنفلتُ تارةً من هنا، وتارةً من هناك. لا أُخفيكم أنني ارتعدتُ لمرّاتٍ من خوفٍ تملّكني، ولكنّ قوّةً داخليّة استحوذت عليّ ودفعتني إلى المواصلة والاستمرار. هبّات النسيم الخفيفة على حيطان بيتي في اللّجون، والخروجات الصباحيّة لقطف ما طابَ من الثمار، وقطرات الندى الناعمة، والأشواك التي لم تترك مكانًا في جسدي إلاّ ووخزته، والتوت البريّ، وعرائش العنب، والتين، والرمّان، والصبّار، كلها أجزاء شكّلت معًا صورةً تكامليّة من واقع المكان الذي كان، وأيقظت داخلي تساؤلاتٍ عديدة حول صيرورته بعد سيرورته.
الخطوط والألوان التي توشّحت بها الجبال والوديان في الماضي رسخت في الذاكرة وتجذّرت، ودفعتني إلى رسم بورتريه شخصي مُشبعٍ بالألوان ذاتها. في هذا البورتريه رسالةٌ مُبطّنة تشي بالمُبالغة في الدمج بين الإنسان والمكان كوحدةٍ واحدةٍ غير قابلةٍ للتجزئة. للوهلة الأولى، يبدو البورتريه لقيطًا غير ذي صلةٍ ببقيّة الأعمال المعروضة، ولكنّ رسم البورتريهات لا يتوقف عند السطح ولا يكتفي بمدلولٍ خارجي أحاديّ المعنى، وإنما يتعدّاه موغلاً في عمق الإيحاءات والإحالات وتعدّد الإسقاطات والدلالات ممّا يتطلّب استقراءً للعمل لا مجرّد قراءة.
ز.ح: كيفَ استشرفتَ طريقَ الفنّ منذ الطفولة، من أين بدأت لحظة الانطلاق الكبرى، وكيف صُقلَ وعيك بالصّلة العميقة ما بين عملك كمبدع وبين شقّ طريق لهويّتك وصراعاتها عبر وسيط الفنّ؟
ف.إ: إنّ اللغة البصريّة التي أعبّر فيها عن ذاتي المرهونة بالذاكرة هي في الواقع لغةٌ أكتب بواسطتها - وعلى طريقتي- مُذكّراتي، لينتصب البروتريه الذاتي مشبوحًا على حائط الحاضر كشاهدٍ على زمنٍ مضى.
بداية الموهبة وانكشافي على عالم الرسم كانت وليدة انكشاف على رسمة متكررة كان والدي يرسمها لي ولإخوتي عبارة عن طير حمام يحمل غصن زيتون -رسمة تكررت بإتقان حتى باتت طقس من طقوس جلساتنا مع والدي والمحيط العائلي.
بدأت بمحاولة تقليد أثمرت مجموعة كبيرة من الرسومات جعلتني مصدر فخر للعائلة والأصدقاء وبت طفلا مطلوبا للحضور مع كل زيارة لأصدقاء الاهل لكي اكشف لهم عن رسوماتي .هذه الحالة دفعتني بقوة لأن أنتج .وتلقيت الدّعم الماديّ والمعنويّ من الأهل بتزويدي بكل ما أحتاج لتحقيق موهبتي على أكمل وجه
تطورت موهبتي وانكشفت على عالم الفن بعدما بدأت بالتعلم في مرسم الفنان فريد أبو شقرة والذي امدني بالدعم التقني والفكري -بدأت بزيارة صالات العرض والمتاحف بعمر صغير وبانت معالم عالم الفن في أفقي بشكل واضح.
اتخاذ القرار بدراسة الفنون اكاديميا حمل في طياته الكثير من التخبط -والصراع تحقيق حلم ام تحقيق واقع -المجتمع ورؤيته لعالم الفن بشكل مهمش والخوف من المستقبل الاقتصادي الغير مضمون –
عندما التحقت بأكاديمية بتسلئيل للفنون كانت شخصيتي السياسية غير ناضجة بما فيه الكفاية-لم تتح لي الفرصة من قبل لمواجهة هذا العالم بشكل مباشر، كان الصراع الفلسطيني والإسرائيلي متأججا ولكن العولمة كانت سطحية -كنت ادري ولا ادري بذات الوقت -مقتطفات تحوم في ميادين الاخبار المقتضبة في التلفاز والراديو .
أن تنعتق من بيئتك الحاضنة المليئة بالذكريات وتنتقل للمعيشة بجيل 18 عاما في مدينة القدس المليئة بالواقع لم يكن سهلا وتخمرت تلك السنوات مواقف كثيرة حددت في شخصيتي الذاتية الكثير وعصفت في شخصيتي الفنية والتي باتت تخرط في كياني عوالم جديدة فبت ابحث بين تلك العوالم -الشخصي -الاجتماعي والسياسي تبعا لهذا اللقاء المباشر مع الطرف الاخر للصراع.
أثناء فترة دراستي في أكاديميّة بتسلئيل، تناولتُ أعمالي بأسلوب التفكيك وإعادة التركيب، مُتّخذًا من قاعدة "التوسيخ والتنظيف" منهجًا، فقد جرت عادتي في طفولتي على تفكيك الألعاب وتركيبها من جديد. أردتُ أن أمحو السنّاج والسخام عن الوجوه القبيحة، وأكشف بطريقة جدليّة - ديالكتيكية المفارقة والقطبيّة بين القبح والجمال، وبين الأسود الفاحم والأبيض الناصع. في تلك الفترة، كانت لي بعض الاجتهادات في إحياء فن الأنماط الزخرفيّة وإعادة قولبتها، من خلال الرسم بالفحم والرصاص والطباعة الحجريّة (ليتوغرافي). حاولت أن أُدخل الرموز الثقافيّة الموروثة في مُعترك المدارس والمذاهب الفنيّة البعيدة عنّي وجدانيًّا، وأن أصف ثنائيّة القبح والجمال، وأقترح حلولاً للتضادّ القائم بينهما.
ز.ح: لكنّك عدتَ إلى حياة أخرى، هبطت من العالم النظري إلى العالم الواقعيّ. كيف تمّت عمليّة الحفر في الواقع من قلب المكان ورموزه، وأين ذهبتَ في مقولتك التشكيليّة بهذه المعطيات؟
ف.إ: بعد تخرّجي اخترتُ الرجوع إلى السكن في أم الفحم، وكسب لُقمة عيشي كمعلّم سواقة. خلق هذا الاختيار عندي حياتيْن متوازيتيْن: الحياة "الحقيقية"، والحياة الفنيّة. مثّلت هذه الفترة بالنسبة لي فجوةً بين الروتين اليوميّ الباهت وبين حياتي المتوهّجة كمُبدع، ولذلك حاولت التشبثّ بمنابع الإلهام كي لا أحيد عن الفن، ولمعت في ذهني فكرة اقتياد فرقةٍ من الكشّافة إلى ماضيَّ الشخصي، وإلى تلك المَشاهد والمناظر التي زخرت بها طفولتي في قرية مصمص، علّي أُعيد اختبار تُخوم المكان وملامحه ولكن كإنسان ناضجٍ هذه المرّة، مُتّزنٍ ومُكدّس بتراكمات الوعي الاجتماعي والسياسي، بعيدًا عن سذاجة الطفولة. وهنا اكتشفتُ رمزيّة الصبّار؛ إنه رمز البقاء! حتى في المطارح التي خلَت من أهلها وفي القرى المُهجّرة ظلّ الصبّار صامدًا كمَعْلَمٍ راسخٍ في المشهد، ليشهدَ على وجود من كانوا، ويقف بقامته الشائكة كناطورٍ لا يغمض له جفن.
ز.ح: تأخذ نبتة الصّبار منحى دلاليًا في مجمل الفن التشكيلي الفلسطينيّ؟ كيفَ ترسّمُ علاقتك معها على المستوى السياسيّ والهوياتيّ المحليّ؟
ف.إ: يظهر الصبّار في أكبر وأضخم أعمالي مُزدانًا بتطريزٍ فاقعة ألوانه يبعثُ على الأمل والتفاؤل، ويتجلّى - بطُرقٍ شتّى- تمجيدُ طبيعته الدوريّة وغير القابلة للاندثار. رسمتُهُ حائطًا أو جداريّةً شائكة، ولكنّي لم أنسَ إثقالَه بالثمار التي تنضوي على ذاكرة حلوة المذاق. عندي، في بعض الأحيان يمثّل الصبّار عالمًا يكاد يكتمل، بوافر أوراقه وثماره، وفي أحيانٍ أخرى يبدو أقلّ حياةً وأشدّ تشظيًا، ليُمثّل الخراب. ولكن خرابه مؤقّت وزائلٌ لا محالة، فمن وسط تشظيهِ يقوم الصبّار لينمو من جديد ولو شُجّ رأسه، فيورِق ويؤتي ثماره الحلوة ثانيةً وكأنّ خرابًا لم يكُن، كطائر الرخّ يقوم من بين الركام ومن تحت الرماد.
في مرحلةٍ متقدّمةٍ من العمل الفنيّ تناولتُ الصبّار من منظورٍ آخر؛ منظور التفسّخ، كدلالةٍ على تفسّخ المجتمع العربي الفلسطيني الذي أنتمي إليه. أخذتُ أملأُ المساحة البيضاء بنموذجٍ من أوراق الصبّار الخرِبة، مضمونها اللوني هو مسحات من الأصفر وخطوطٍ من البني، وفي هذا دلالة لونيّة على انعدام وجود كتلةٍ متماسكة يمكن القبض عليها. في أعمالٍ أخرى يحظى ذلك المنظر الذي يراودني منذ الطفولة بتسطيح جرافيكي زخرفي فاقدًا لتدويره، تعبيرًا عن الألم والتفجّع على المكان الذي نال منه الحطّاب، حين تبدّى على هيئة جرّافات تقضي عليه وتدوسه. في صميم هذا التسطيح نقدٌ واحتجاج على سياسة الدولة التي لا تُتيح إمكانية العيش في المشهد المحفور في ذاكرتي منذ الطفولة وتعميره، ليفقد - عطفًا على فجاجة السياسة- ماهيّته.
في أعمالي الأخيرة تظهر معاناتي العميقة النابعة من أزمة المكانة والهوية في إسرائيل، حيث يُنحّي التأمّل النقدي بقيّة الألوان التي تُختزَل حتى تقتصر على تدرّجات الأصفر والبني، ويعتري الشخصيات التي أتناولها تجريدٌ كبير. في عملي "حاجز" (מחסום) أصِفُ جنديًّا يُصوّب بندقيّةً إلى رجلٍ فلسطيني، ويأمره بخلع ملابسه. هذه اللوحة ليست إلاّ شهادةً على تجربةٍ شخصيّة عايشتها حين درستُ في أكاديميّة بتسلئيل وسكنتُ في ضواحي القدس، حيثُ اضُطررت يوميًّا إلى عبور الحواجز الأمنية.
ز.ح: في أعمالك الأخيرة، تركنُ إلى ديناميكيّات من نوع آخر في التعبير الفنيّ، اللون وأشكال التعامل معه هو أحد أهمّها.
ف.إ: في السنوات الأخيرة باتت أعمالي تعكس البحث في تلك النقلات والمسارب بين التقنيّات الأسلوبيّة والمنطلقات الفكريّة، فأنا أتحرّك بين كلا العالمين الفكريّ المحسوس والتقنيّ الملموس، مُحاولاً إيجاد تعبيرٍ تجريبي داخل اللون نفسه أو حتى ما وراءه. تتميّز هذه الأعمال بمسحات حرّةٍ للفرشاة وبخطوطٍ أفقية وأخرى عامودية محفورةٍ بالسكين، وكأنّ فيها لُحمة الغَزْل. أمّا تدرّجات اللونين الرمادي والأسود فتُضفي عنصر الحركة والديناميكيّة على اللوحة، ليضجّ الأصفر ويُشعّ طاغيًا على بقية التدرّجات، دون أن يُفقدها اتّساقها أو يمسّ بانسجامها. تُكسبُ تقنيّة "الحفر في اللون" الرسم المسطّح شيئًا من العظمة والحدّة، حتّى يُخيَّل للمشُاهِد الذي يُمعن النظر عن كثب أنّني استخدمتُ الخيط والإبرة، إذ تبدو الخطوط المحفورة كنسيجٍ من القماش. تُثير هذه التقنيّة في الحفر ذكرى ارتسمت في مخيّلتي منذ عهد الطفولة لرجلٍ يصنع مكانس القش مُستخدِمًا الخيط والإبرة. فأنا لا أزال أذكر كم انتظرتُ بلهفةٍ "صانع مكانس القش"، الذي كان يُعرّج بقريتنا بانتظامٍ في مواسم الحصاد. بفارغِ الصبر ترقّبتُ تلك اللحظة التي أجلس فيها إلى جواره كي تتسنى لي مشاهدته أثناء صنعه للمكانس بحسٍّ إبداعيّ وخفّة في الأصابع.
الحفر في اللون هو عمليّة مضاعفة، تكشف وجه المساحة وتخفيه في آن. في أعمالي الجديدة أجنحُ إلى التعبير عن مَواطِن وأبعادِ المُعاناة التي أعيشها، بما في ذلك البُعد الجمعيّ، مع نقدٍ ذاتي قدر الإمكان، كي يكون اشتغالي الفني وثيق الصّلة بمجتمعي وقضاياه بمُجمل حمولتها.