شهادة خبير: صور ناشئة ميدانيًا
ينضم القارئ في كتاب أيال فايتسمان الجديد الى المؤلف في تحليقٍ فوق مناطق متنازع عليها في الشرق الأوسط، ويتابعه وهو يرسم تواريخ، ايديولوجيات، تقنيات وسرديات ضالعة في الاقصاء الرسمي واقتلاع البدو سكان النقب. روتم روزنطال تستعرض "حدّ الصحراء، خطّ المواجهة: الكولونيالية كتغيير للمناخ في النقب" وأساليب عمل فايتسمان في بحثه الثقافي-البصري-القضائي
أيال فايتسمان، حدّ الصحراء، خطّ المواجهة: الكولونيالية كتغيير للمناخ في النقب. تل أبيب: زوخروت-ذاكرات ودار النشر بابل، 2015، 115 صفحة
يقطع كتاب أيال فايتسمان الجديد، بنظرة من أعلى، مناطق في أرجاء الشرق الأوسط تعيش سيرورة تغيّر سريع من الناحية المناخية والجغراسية (الجغرافية-السياسية)، ليواصل حتى يغوص في رمال النقب، جهاز القضاء الاسرائيلي، البيوت المهدّمة والعائلات المهجّرة. إن الانتقال من منظور الطيّار الى الواقع القاسي الذي ساهمت هذه النظرة في تشكله على الأرض – وهما مستويان متوازيان يتداخلان وينجدلان معًا خلال القراءة – هو شيء آسر لا أقلّ. فكتاب فايتسمان هو تحقيق نادر في المنظومات التي تستخدمها أجهزة حكومية بالوكالة لغرض اقتلاع مجموعات سكان، وفي الأجهزة المكلفة بتغيير وجه المنظر الطبيعي وفقًا لايديولوجيات سياسية. وبواسطة التمعّن في تمثيلات بصرية مختلفة (خرائط، صور، صور جوية)، يكشف فايتسمان الطابع المتملّص لحدود المناخ وظروفه الثابتة، فرَضًا، ويحاجج بأن العلاقات التبادلية بينها تجسّد مواجهات سياسية في اسرائيل وما بعد اسرائيل. ان صورة الخط التي ينتجها فايتسمان امام أنظارنا هي صورة ملتبسة، متملصة ومتعرجة، وهي تصف الصورة الملتبسة، المتملصة والمتعرجة لمنطقة حدود صحراء النقب. هذا الحد الطرفي، أو "خط الساحل"، كما يكتب فايتسمان، يصعب إدراكه وتحديده. فأن تكون حاضرا في الصحراء، أو على وجه الدقة، أن تتأمل في خطوط حدودها المتعرجة، معناه أن تكون في داخل منطقة متنازع عليها، تتميز بحدود غير موجودة وسكان تم إقصاؤهم.
عُرض حدّ الصحراء، خطّ المواجهة في المرة الأولى كشهادة خبير أمام الجلسة الختامية للجنة الحقيقة والمسؤولية الاسرائيلية بشأن أحداث 1948-1960 في الجنوب، والتي نظمتها جمعية زوخروت-ذاكرات. فايتسمان، مصمم معماري وبروفيسور للتصميم المعماري في غولدسميثس في لندن، هو مؤسس، واليوم مدير معهد أبحاث المعمار القضائي (Forensic Architecture)، الذي يدمج بحثًا حيّزيًا في أطر سياسية وقضائية. هنا تبرز تقنيات البحث التي تطورت في هذه المبادرة: كشف وتحليل صور جوية من الحرب العالمية الأولى، خرائط من أطالس اسرائيلية، وثائق أرشيفية، توثيق تاريخي من الفترة العثمانية، ووضعها مقابل وقائع جيولوجية، شهادات في محاكم ومقابلات ميدانية من اسرائيل/فلسطين راهنًا. هذه جميعها تستخدم لتجسيد العنف المنهجي الذي اعتُمد ضد البدو المهجّرين في النقب ولكشف مصادره التاريخية. تروي هذه الشهادة متعددة الطبقات أيضًا قصة أوسع – هي قصة التدخل البشري في البيئة ونتائجه المدمرة، التأثير الكولونيالي على المنطقة، انعدام العدالة الدستورية، وفي غضون ذلك تكشف المنهجيات والممارسات التي تعرّف عمل فايتسمان نفسه.
يبدأ الكتاب من الموقع الميداني، المرئي، في صورة خراب: في 12 حزيران 2014، هدمت الشرطة الاسرائيلية بيوتًا سكنية ومباني أخرى في العراقيب، على مسافة غير بعيدة من بئر السبع وبمحاذاة مقبرة مسيّجة. كانت هذه المرة الـ 65 (من بين 92 حتى كتابة المقال) التي تهدم فيها دولة اسرائيل هذه البلدة البدوية منذ العام 2002، حيث عاد السكان الى الموقع الذي سبق أن تم طردهم منه قبل خمسة عقود. إن تاريخ قرية العراقيب البدوية ومصيرها المرّ مرتبطان بشكل وثيق مع الخطوط التي يتقصّاها فايتسمان: خطوط الجفاف، خطوط المنخفضات، خطوط الحدود، خطوط الساحل وخطوط الطقس، التي تمتد شرقًا وغربًا. يفكك فايتسمان العلاقات الشائكة بين هذه الخطوط وبين وكالات، أجهزة، سلطات وحكومات تسيطر على تعبيراتها وشكل تفسيرها. هذه الخطوط هي البعد الثابت في بلاد صاخبة، تتغير دون توقف ولا حدّ لها: يتم استملاكها، السيطرة عليها، واستغلالها من قبل سلطات تحلّ محلّ السكان، المناخ والظروف الجغرافية وفقًا لاحتياجات سياسية واقتصادية.
يحدد فايتسمان مسارًا مناخيًا لغرض الاشارة الى السكان البدو المقتلعين، وكذلك الى مجتمع المستوطنين الآخذ بالتطور والذي حلّ محلهم. فيشير الى قرارات محاكم اسرائيلية تتعلق بالمجموعتين والنتائج التي تركتها القرارات على الأرض. حين يصل الى الحجارة الجيرية الرخوة والقاسية في الخليل، يلاحظ الكتل المحفورة التي تم بناء جدار الفصل بها. الخطوط الجوية التي تقوده نحو اتجاه البحر الميت، تمر في مزرعة نوكديم، فوق بيت وزير الخارجية السابق ووزير الأمن الحالي أفيغدور ليبرمان، وفوق المستوطنات القريبة من القدس؛ بينها معاليه أدوميم، إحدى كبريات مستوطنات الضفة الغربية، التي أقيمت على أراضي عشيرة الجهالين. وهذا مجرد مثال واحد فقط على التعقيدات التي يكشفها فايتسمان خلال تقصّيه مسارات جغراسيّة لنزاعات محلية واقليمية.
تطرح القراءة النقدية التي يجريها فايتسمان للصهيونية تحديات أمام المنظومات التاريخية وزوايا النظر التي اعتمدتها لغرض خلق هذه المواقع. مسارات الخطوط تفكك العلاقات الشائكة بين الصهيونية والصحراء: فالأولى رأت في الثانية تجسيدًا لأمثولتها الأساسية – بلاد فسيحة وخالية يجب العمل على تخليصها واعادتها الى عهد عظمتها اليهودية بواسطة التقدم التكنولوجي وقدرات الصهيونية المتعددة (أي ما يسمى رؤية "إحياء القفر"). والصحراء تعكس ما ليس في مقدور الانسان عليه: منطقة موحشة هائلة المساحة، موقع لما لا يُحصى من أحلام والقليل القليل من الانتصارات، ارض ذات ظروف مستحيلة، يخضع كل البشر فيها الى سلطة قوانين الطبيعة، مهما كان وضعهم القومي أو المدني. مقابل ذلك، كما تحاجج هذه الشهادة، فإن طوبوغرافية المكان أيضًا هي أداة حكومية تبلور أشكال التمثيل والتأويل، والتي تعكس بدورها منظورات سياسية ومواقف متغيرة تتراوح بين الرسم بأسلوب توراتي لدى موثّقين كولونياليين من القرن التاسع عشر وبين تعاطي حكومة اسرائيل مع الأرض وأهلها.
استندت دولة اسرائيل الى حجج بيئية وقانونية لغرض تسويغ هدم العراقيب. خلال الحكم العثماني، تم تصنيف الأرض التي لم تُفلح لمدة ثلاث سنوات على أنها أرض "موات" وجرت مصادرتها. عام 1948، وكذلك عام 1967 في سياق مختلف، حين سعت اسرائيل الى إثبات أنه ليس هناك أراض بملكية بدوية أو عربية في المناطق التي احتلتها للتوّ، قام خبراء قانونيون بإعادة إحياء ذلك التصنيف مستخدمين اياه لغرض مصادرة الأرض التي تم احتلالها. لقد اقترحت في موقع آخر أن هذه الأرض الموات يمكنها أن تشكل فئة تتيح طرح أسئلة أوسع بشأن الهوية في حيّز الثقافة والفن: تقع في اطارها تلك الأرض الموات على طرف الحيّز المدني، وقد تم تملّكها أو فصلها، لتعيد تعريف الحيّز بمجرّد وجودها.1
إن تعاطي فايتسمان البصري والسياقي مع التغيّرات الجغرافية، المناخية والجيولوجية يبدو كمحاولة لخلخلة الحجة الأساسية للدولة ضد المهجّرين. في حين حاججت اسرائيل ان الأراضي لم تكن مفلوحة، يكشف فايتسمان بمساعدة زملائه في معهد أبحاث المعمار القضائي، عن وثائق وأدلة بصرية تُظهر بوضوح أنه تمت فلاحة الأرض على مرّ مئات السنين. وقال فايتسمان لشاي زمير في مقابلة معه نشرتها مؤخرا يديعود أحرونوت: "هذه منطقة يستحيل وفقًا للزعم انتاج زراعة فيها، وبالتالي ليس فيها بلدة ثابتة واحدة ولا يوجد لأي شخص حق عليها. لذلك، فإن الصحراء تابعة للدولة التي يمكنها أن ترمي فيها كل نفاياتها – أفران ذرية، لاجئين، سجناء، مصانع ملوثة. كل ما لا يريدون رؤيته يدفعون به هناك {...} هذه ماكينة واحدة نشطة مؤلفة من المحاكم والشرطة والمنهال، حيث يعملون معا لغرض اخراج سكان عاشوا مئات السنين على أرضهم، ورميهم في بلدات لا يمكن الاعتياش فيها، مثل مخيمات اللاجئين. إن النكبة البدوية تحدث الآن. هذه ليست سيرورة تاريخية قد انتهت ويجب انتاج أيام ذكرى لها. الآن عام 48 ويجب النزول الى الارض للدفاع عن هؤلاء الناس بالأجساد".
أبحاث وتقصيات فايتسمان مكنته من تقديم التاريخ المفصّل للتقنيات التي استُخدمت من أجل الحصول على المواد الحيوية لاتخاذ قرارات دولة اسرائيل القضائية. مثلا، يصف الأيام الأولى لاستخدام التصوير الجوي لأغراض المسح والمتابعة في المنطقة، والذي قام به طيّارون من بفاريا وسلاح الجو البريطاني، حيث يصف الأخير الأسلوب كـ"كولونيالية جوية" (86). ومنذ عام 1921، كما يكتب، كان تشرتشل قد أيّد استخدام الطائرات لأغراض التوثيق، المسح والرقابة في صحارى أطراف الامبراطورية. حدود الصحراء قد مثّلت بالنتيجة الممرّ بين أنظمة رؤية امبريالية ذات زوايا نظر مختلفة. هكذا نجد اليوم أن هناك جذورًا كولونيالية لمناطق المواجهة، والتي تراقبها اليوم طائرات صغيرة بدون طيار. اضافة الى المتابعة البصرية، يشير تحليل فايتسمان للصور الجوية الى ما يسميه "حدّ مدى الرؤية": المواضيع الممثلة في الصورة والنيغاتيف نفسه يجب أن يُفحصا معًا، لأن لكليهما توجد "طوبوغرافية مادية" خاصة (92-93). لهذه الصور والنيغاتيفات التي بحوزة المشاهدة ماضٍ – كلاهما تم تصويره، قراءته، واستخدامه من قبل منظورات ايديولوجية محددة. المشاهدة/القارئة مهمة هي الأخرى هنا، حين تجتاز النصوص والخرائط محاولة استجلاء المنظر الطبيعي وماضيه. لذلك، لا يُنظر الى الصور على أنها تصف وضعًا قائما معطىً، بل كمواضيع تعكس علاقات بين مواضيع مادية أخرى. لاحقًا، ينوّه فايتسمان الى أن الصور في الكتاب هي مقاطع صغيرة من سيرورات سلب بعيدة المدى: "مع كل مدّ وجزر في طرف الصحراء، تنشأ صورة جديدة على الأرض".
يمنح فايتسمان وجوهًا وأسماء للسكان المسلوبة ارضهم وحقوقهم في الصحراء، ويلقي الضوء على نضال عائلتي الطوري والعقبي من أجل استعادة سيطرتهم على أرضهم. بورتريهات أبناء العائلة تظهر في أواخر صفحات الكتاب، بعدسة الفنان ميكي كرتسمان. لقد التقينا حتى هذه النقطة الخرائط التي حسمت مصيرهم، وكذلك الجوانب العسكرية للصور الجوية خلال أوقات المواجهة والحرب. نحن نحلّق مع المؤلف فوق سطح الأرض، نتابع الشكل الذي يحدد فيه تقنيات، سرديات وسيرورات ادارية تعرّف العنف المؤسسي وتقصي مجموعات سكان. في نهاية الكتاب فقط تتغير النظرة منتقلة من الخط الى الأرض، لغرض اللقاء مع أهلها الذين أزيحوا جانبًا. تبدأ البورتريهات بالظهور حين نعود الى نقطة البداية: حين يكون الشيخ صياح الطوري يصف عادات الدفن لدى الأهالي، نجد أنفسنا مرة أخرى في المقبرة، في قلب حيّز الأموات، في أرض ميتة امتصت رغمًا عنها المعاناة المشتركة، الآمال القومية التي خابت والمآسي الشخصية.
- 1. للاستزادة حول هذا التصنيف، يُنظر: البحث الذي أجراه أورن يفتحئيل وساندي كيدار وأحمد امارة، والذي يقتبسه فايتسمان "قراءة مجددة في قانون ’النقب الميت’: حقوق الملكية في الحيز البدوي"، مشباط فممشال، 14، 7(2012). كذلك، يُنظر: فيلم رعنان ألكسندروفيتش من العام 2011، حكم القانون (2011، 81 دقيقة). للتعمق في المسألة، معرض Dead Lands: Karkaot Mawat, الذي كانت كاتبة هذه السطور قيّمة له، وعرض في غاليري NURTUREArt في بروكلين بين 15 نيسان و15 أيار 2015 (نيويورك).