ايماءة اليد ويعيش الملك المخلّص

الى أية درجة يمكن لمعرضي رسم أن يكونا مختلفين؟ داني ياهف برؤون عن معرضَي أمير نافيه ويتسحاك ليفنه في غاليري زومر

Advertisement

1. أمير نافيه

يُعرض هذه الأيام في الفضاء المركزي لغاليري زومر معرض أمير نافيه الذي يحمل اسم "فحص كلى". خلافا لمعرض مايا غولد الذي كتبتُ عنه مؤخرًا، وكان يتميّز بالضبط الفكري والتنفيذ المشدد بدرجة ليست أقلّ، والذي تضمن بداية، وسطًا ونهاية، فإن نافيه يعرض رسومًا مفككة من ناحية فكرية، وتم تنفيذها بعفوية وعدم ايلاء اهتمام كبير. لا أقصد بهذا شيئا سلبيًا، بل بودي فقط وصف ما تلحظه العين. وبالفعل، فإن نص كيرن غولدبرغ المرافق للمعرض، يتحدث عن قماش مشدود بعفوية وقيم شكلانية مشابهة تُستخدم حاملا للمضمون: "أطرافها المفككة ترمز الى سيرورة فناء"، أو "رسومات بالحد الأدنى ترمز الى حركة".

 

Amir Nave Untitled (The Day Before Today) 2016 184.5x194.5cm Oil and Graphite on Canves.jpg

أمير نافيه. بدون عنوان (يوم قبل اليوم). زيت وغرافيت على قماش. 184,5*194,5 سم
2016. بلطف الفنان وغاليري زومر للفن المعاصر.

 

مع ذلك، يمكن العثور على منطقٍ ضابطٍ ومنظِّم في رسومات نافيه، مثل "ضآلة المادة" – حرفيًا وبحسب النظرية التي وضعتها وكانت قيّمة لها سارة برايتبرغ عام 1986. أفكر بكل هذا الطيف، ابتداء من الألواح الخشبية لدى رافي لافي، بما عليها من خربشات وخدوش، مرورا بأعمال الكولاج لدى هنري شلزنياك ويئير غاربوز، ووصولا الى الوحل لدى موشيه غرشوني. رسومات نافيه تحتضن الضآلة المادية نفسها - بدرجة أقل من الاسرائيلية الجديدة او التل-أبيبية التي تتحدث عنها برايتبرغ، وأكثر فيما يخص المادة نفسها: الحامل العفوي – قماش وورق في حالة نافيه – يستوعب كل شيء. أي أن قابلية رؤية الحامل، وعدم الالتزام، المفترض، هي صندوق عدّة يبني ذاته. من ناحية الرسام (هكذا وفقًا لفهمي)، فإن عدم الالتزام المذكور هو مسألة حاسمة، لأن الأطراف التي لم تُجمع معًا بعد بوسعها الالتقاء المرة تلو الأخرى. ولو استخدمْت الوجه الثاني للعملة لقلت: الأطراف لن تنجح أبدًا بالالتقاء معًا.

ولكن، وهي لكن تقلب الطاولة، امكانية ربط قماش بآخر بواسطة خيوط ثخينة، نهايات الاطراف التي لا تصل اطراف اللوحة ولا تحيطها بل تبقيها مكشوفة للأبصار، هي مسألة خيارات. وحتى خيارات تكتيكية؛ أي خيارات مدفوعة بالرغبة في قيادة سيرورة حتى استنفادها (استراتيجية؟). من الصعب عليّ الاعتقاد بأن نافيه يقص القماش هكذا فقط كي لا يغطي الاطار. لذلك أتوقف عند كلمة "خيار" لأنها تشير الى قصد مخطط وهي تناقض تماما كلمة "عفوية". هذا يفسر الى حد بعيد الحيرة المحتملة أمام لوحات نافيه في المعرض. بالتالي، فالأسئلة التي سألتها لنفسي كانت: الى أين يقود كل هذا؟ ولماذا تلفت الاهتمام؟

الإجابة على تلك الأسئلة ليست قاطعة. فرسومات نافيه لا تنتج نفس النّحو الذي يرغب بمعنى "استراتيجي"، او بفرض فهم عقلاني بخصوص شيء ما. قد يكون هذا مخيّبًا لمن جاء بتوقعات من نوع معيّن، وقد يكون منعشًا لمن جاء بتوقعات أخرى، أو بدون توقعات بالمرة. أي أن رسم نافيه يتم في منطقة بينيّة للجمالية العفوية. مرة أخرى، الكلمة نفسها. هذا نوع من الرسم الذي يفخّم القدرة الاستعراضية النابعة من صندوق عدّة محدد جدًا. استعراضية الرسم عند نافيه مدهشة. انها استعراضية تقدم "ايماءة اليد"، رهافة الحس للون، الفهم الكامل للمنظور والقدرة على المناورة بين المنظور البانورامي والسخيّ وبين ذلك المنقبض، المكتظّ، وما الى ذلك. تميل قائمة القيم هذه في لوحاته الى التقريب بين مشاعر من أنواع مختلفة، قلما توجد فعلا أية روابط بينها وبين ما هو مرسوم: عنف يرافقه اكتظاظ، جنسوية قد تظهر بنفس الاكتظاظ، الخوف من الموت مع كل ما يخطر بالبال. وحدة، يأس وجودي، هزيمة الجسد البشري، اخصاء، وغيرها. ان رسم نافيه يتناصّ مع الجميع.

 

Amir Nave Brothers, 2013, Oil and Pen on Paper, 46x32 cm. Introspection Exhibition 2016 אמיר נוה בוחן כליות.jpg

أمير نافيه. شقيقان. زيت وقلم حبر على ورق. 46*23 سم
2013. بلطف الفنان وغاليري زومر للفن المعاصر

 

نافيه رسام موهوب، ويعرف حجم المخاطرة الكبير في مثل هذا الاستعراض، وحجم الذنب الكبير الذي يرافق هذه القدرة على تصوير العالم (ربما أن أوري ليفشيتس هو أفضل مثال على قدرة الرسم المدهشة التي لا تتلاءم بالمرة مع تقدير المؤسسة الفنية والعالمين بخفايا الأمور.. بطبيعة الحال نجح ليفشيتس كثيرًا خارج تلك المؤسسة ولم يتوقف عن الحقد عليها). لذلك، فالرسومات، وخصوصا في الأعمال الورقية، تتمازج ببعضها أو تكاد تبهت، وتغيب في خط واحد واهٍ داخل بياض الورقة. أنا أستخدم كلمات ذات هيئة شكلانية لغرض وصف حالة كان يمكن ربما (لماذا ربما؟ بالتأكيد!) استخلاص عبرة حكيمة منها.

رسم نافيه ببساطة جميل. فهو في توجهه العفوي منضبط لا ريب. لا يمكن بالمرة تجاهل قدرته على فهم قيم رسم شاعرية توجّه وتتوجه الى الشعور، وتتواصل معه. رسم نافيه يصل بتلك القيم الى أقصاها. وهو يتوجه، سلبًا أو إيجابًا، الى قاسم مشترك واسع – ويمكن لكل واحدة وواحد العثور على نقطة تماثل في هذه اللحظات الخلابة. تكتب غولدبرغ: "الرسومات تصف مشاهد تمثيلية أو اجتماعية. حتى ان إحداها تدعى ’شقيقان’". بعد مضيّ المُتعة الأولية في ازاء تلك اللحظات الخلابة، أفكّر: كنت أريد أن أعرف أكثر، مثلا عن هذين الشقيقين. وأنا لا اعرف. فالرسم لدى نافيه بهذا المفهوم هو محصلته. جميل لأنه جميل، ومثير للانفعال لأنه مثير للانفعال. إن مثل هذا الحشو، مهما يبلغ من الحكمة، قد أبقاني غير راضٍ.

 

2. يتسحاك ليفنه

يعرض يتسحالك ليفنه في فضاء المشاريع داخل الغاليري معرض رسم بعنوان "مكاشفة". الى أية درجة يمكن لمعرضي رسم أن يكونا مختلفين؟ يختلف الرسم لدى ليفنه الى حد كبير عنه لدى نافيه. وهو يختلف في كل شيء تقريبا، ما عدا كون المعرضين ينتميان للوسيط ذاته – الرسم. معرض ليفنه ليس أقل من نموذج للرسم في معرض نموذجي. أي أن اللوحات وشكل تثبيتها يـُطريان الواحد للآخر، ويفسر هذا منطق ذاك، ويدعمان بعضهما البعض. غولدبرغ كتبت أيضًا النص المرافق لمعرض ليفنه، نص ممتاز وموجز يشمل جوهر الأعمال والشكل الذي ينعكس فيها وعي ليفنه.

 

אין עוד מלבדו 2015 טכניקה מעורבת י ליבנה 60+60 סמ.jpg

يتسحاك ليفنه. لا شيء سواه. تقنية مختلطة. 60*60 سم
2015. بلطف الفنان وغاليري زومر للفن المعاصر.

 

قطعت أعمال ليفنه شوطًا كبيرًا جديًا منذ رأيتها لأول مرة. ربما كان ذلك في معرض استعادي بمتحف تل أبيب؟ المسألة لديه هي تشفير ايماءة رسم لصالح رسم تقني، كما يبدو للوهلة الأولى. جميع الأعمال بدون استثناء بحجم متماثل ومربع وتبدو كما لو انها رُسمت بآلة ميكانيكية أو تكنولوجية. والأمر ليس كذلك طبعًا، لأنها مرسومة يدويًا. اللونية تتغير وكذلك التقنية (زيت، رش على ألواح فورمايكا)، وكذلك الخلفية، التي تشكل لوحة بحد ذاتها. هذه حواريّة داخلية للرسم لا تتوقف للحظة ولا تنجرف الى تصريحات تلقينية او لتربيت ذاتي على الكتف. يتم هناك اقتباس غابي كلزمر وربما آخرين؛ كل هذا ببراءة وبدافع حوار داخلي مقنع، بينما ننال نحن المشاهدين فرصة لنكون ذبابة على الحائط لنصغي للحواريّة. هذا رائع وليس مفهومًا ضمنًا حقًا.

 

המחיר לא סופי 2015 י ליבנה טכניקה מעורבת 60+60 סמ.jpg

يتسحاك ليفنه. السعر غير نهائي. تقنية مختلطة. 60*60 سم
2016. بلطف الفنان وغاليري زومر للفن المعاصر.

 

المضمون بدوره يتغيّر من لوحة الى اخرى أيضًا. تظهر في قسم منها جُمل قصير تجعل من اللوحات، كما تكتب غولدبرغ، "اعلانات او لافتات لتتراجع الحبْكات والتراكيب وتتحول الى خلفيات". الجُمل مأخوذة من عوالم عقارات مختلفة، مثل "دار مؤلفة من غرفة رائعة"، اعلانات جنسية مختلفة، مثل "أنا بانتظارك"، شعارات دينية مثل "يعيش الملك المخلّص" وغيرها. قسم من اللوحات تتسلى بالعمق الوهمي للرسم وتطرح أسئلة عن السطحية، العمق والوهم. ولكن، عمليًا، هذه ليست أسئلة غريبة عن المضمون – ملك مخلّص وسطحية، عمق وعضو جنسي انثوي ينتقل الى تاجر لدى من هنّ "بانتظارك". سطحية؟ بوسعكم الاختيار. ليفنه يجدل معًا بذكاء الشكلانية والمضمون ويصهرهما الى ما يظهر كحقيقة مطلقة، ستتفكك أو تُنسى اذا ما نقلنا نظرنا الى اللوحة (الاعلان) المجاورة، أو تلك المقابِلة لها.

 

י ליבנה טכניקה מעורבת 60+60 סמ 2015 (2).jpg

يتسحاك ليفنه. بدون عنوان. تقنية مختلطة. 60*60 سم
2015. بلطف الفنان وغاليري زومر للفن المعاصر.

 

هناك موتيف واحد يتكرر في عدد من اللوحات: ساعة تماثلية. "ساعات حائط" تسميها غولدبرغ. وهي تضيف بُعدًا آخر للأعمال؛ وكأنه كانت تنقص اللوحات أبعاد حتى الآن. الاضافة محمودة ولكنها لا تسبب لي الراحة. ساعات ليفنه، ربما بسبب جيلي، تذكرني بالساعة على الخلفية السوداء في القناة الأولى والوحيدة، التي كانت تتكتك قبل بدء برنامج اقترب بثه، مثل نشرة الأخبار أو برامج الأطفال، أو - "الأسوأ" – بدء البث باللغة العربية. الساعة هي ساعة هي ساعة، بالطبع، دالّ ساطع على الزمن بكل معانيه – حركة، نظام، حياة وموت، وما الى ذلك. في حالة لوحات ليفنه، كل تأويل لمفهوم الزمن وارد ومقبول. ولكن يبدو لي أن المفضّل منها لديّ هو المقدمة المقتبسة من التلفزيون الاسرائيلي: فضاء يفصل بين أزمنة مختلفة – بدء برنامج ينتظره الجميع؛ زمن يشير الى نفسه كموجود؛ دال ومدلول معًا. الساعات مُفرغة من المضمون وهي "تعلن الزمن/الساعة" فقط  (telling the time)زمن يعود الى نقطة غير قابلة للاستيعاب لجوهر غير تأويلي ويضيف طبقة ملساء الى الطبقات الكثيرة جدا في لوحة ليفنه. هذا ببساطة ممتاز. مرة أخرى، إذهبوا لمشاهدة معرضه قبل أن ينتهي.

 

 

عُرض معرضا أمير نافيه ويتسحاك ليفنه، في غاليري زومر حتى 19 اذار الفائت