وجهتا نظر (القسم الأول): رسالة الى طيّار رافض
خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982, انتشرت في مدينة صيدا الساحلية قصة راحت تتفاعل وتكبر حتى درجة الأسطورة: إحدى الطائرات الحربية الإسرائيلية التي أُرسلت الى مخيم اللاجئين المجاور للمدينة تراجعت عن أداء مهمتها – بدلا من تفجير مبنى المدرسة في المخيم، رمى الطيّار القنبلة في قلب البحر. في مقال من ثلاثة أجزاء كتبه لـ توهو نوءا سيمبليست، يغوص في أعماق عمل أكرم زعتري: رسالة الى طيّار رافض، والذي أنجزه الفنان بوحي هذه القصة الحقيقية.
هذا المقال هو تأمّل معمّق في عمل أكرم زعتري (Zaatari) رسالة الى طيار رافض (Letter to a Refusing Pilot) إنشاء فيديو وأفلام عُرضت للمرة الأولى في بينالي فينيسيا عام 2013. مثلما يتضح من عنوان العمل، فإن أحد أهم مركباته هو رسائل تبادلها فنان لبناني مع طيار حربي إسرائيلي سابق. وبودي في هذا المقال المقارنة بين هذا العمل وبين كتاب يصف عرضًا شارك فيه زعتري، محادثة مع سينمائي إسرائيلي خيالي (A Conversation with an Imaginary Israeli Filmmaker), والمحاججة بأن هناك محاولة في أساس العملين لإنشاء علاقات تبادلية حوارية.
"الحوار" فكرة مشحونة جدًا في سياق إسرائيل ولبنان، بكونهما دولتين معاديتين الواحدة للأخرى. القانون اللبناني يحظر على مواطن الدولة التراسل أو اللقاء مع مواطن إسرائيلي. كذلك، هناك قانون يقيّد لقاء المواطن الإسرائيلي مع مواطن لبناني أو مراسلته. بنظرة أوسع، يصطدم مفهوم الحوار بسلسلة أخرى من التعقيدات، وهذه المرة في سياق الدبلوماسية الإسرائيلية والفلسطينية. منذ اتفاقيات أوسلو (1993-1995), حين أجريت المفاوضات التي مكّنت إجراء محادثات مباشرة بين إسرائيليين وفلسطينيين، وصار الأمر قانونيًا في إسرائيل، شكل مفهوم الحوار مركز عملية السلام. وفي تسعينيات القرن الماضي فتحت هذه العملية الباب ليس لتحركات دبلوماسية فقط بل أيضًا لأشكال تعاون ثقافية واكاديمية. أسوة بذلك، حاجج كثيرون بأن مبادرات التعايش هذه أدت الى تطبيع الاحتلال وتجاهلت الديناميكية غير المتكافئة لميزان القوى بين الطرفين1. ونتيجة لذلك، تعاطى كثيرون في إسرائيل وفلسطين، وفي المنطقة بأكملها، بتشكيك واضح مع تشكيل العلاقات بواسطة الحوار. وقد نُظر الى الحوار بكونه غطاءً للاحتلال المتواصل، والذي فُرض بشكل عنيف من خلال مصادرة أراضٍ، هدم بيوت، إقامة مستوطنات، والمزيد من الأساليب والممارسات على الأرض. يتجسّد هذا التشكيك خصوصًا في مواقف الـBDSالتي تدفع إستراتيجية نقيضة من الفصل، بما يشمل المجالات الثقافية والأكاديمية2. وفي هذا السياق يبيّن اللقاء بين زعتري وبين الطيار وكذلك بينه وبين السينمائي أن العلاقة الشخصية تحمل في طياتها معاني وتأثيرات سياسية. لغرض استيضاح كيفية حدوث ذلك بدقة، في هذه الحالة، سأقدم أولا وصفًا لعمل رسالة الى طيَار رافض.
خلال الإجتياح الإسرائيلي للبنان في صيف 1982, انتشرت في المدينة الساحلية صيدا قصة راحت تتفاعل وتكبر حتى درجة الأسطورة: لقد أرسلت طائرات حربية إسرائيلية لقصف عدد من الأهداف. إحدى الطائرات وصلت الى مخيم اللاجئين عين الحلوة جنوبيّ صيدا. وحين اقتربت من الهدف، لاحظ الطيار أن المبنى هو المدرسة التي تعلم فيها وهو طفل. وفقًا للقصة، عاشت أجيال كثيرة من عائلة الطيار في صيدا كجزء من مجتمع يهودي مزدهر لكن لم يعد قائما اليوم. بعد أن عرف المدرسة، انحرف الطيار عن مساره وتوجه نحو البحر حيث ألقى القنابل. بعد ساعات قليلة قصف طيّار آخر المدرسة ودمر أجزاء منها.
عمل أكرم زعتري: رسالة الى طيّار رافض، يستند الى هذه القصة. ولد زعتري وترعرع في صيدا. عام 1982 وقف على شرفة بيته وشاهد الطائرات الحربية الإسرائيلية وهي تقصف التلال المجاورة. التقط صورًا للدخان المتصاعد من بين أشجار الأرز في الأفق، بكاميرا والده الذي عمل خلال 20 عامًا مديرًا لمدرسة صيدا الثانوية، التي تدور القصة حولها. في ضوء ذكريات الفنان حين كان فتى خلال القصف والعلاقة التي ربطت والده بالمكان، يدمج العمل "رسالة الى فنان رافض" شقاوة هادئة وحميمية من فترة الفتوّة، مع الإجتياح العنيف المندلع من السماء. هذا عمل يتناول أيضًا وجهات نظر متقاطعة لشخصين. زعتري يقتبس في النص المرافق للمعرض عن جان لوك غودار (Godard) في فيلمه موسيقانا (Notre Musique, 2004):
عام 1948 سار بنو إسرائيل في الماء نحو أرض الميعاد. الفلسطينيون ساروا في الماء نحو الغرق. لقطة ولقطة معاكسة. الشعب اليهودي يعيش فيلمًا. الشعب الفلسطيني في فيلم وثائقي.3
زعتري يقارن من خلال ايراد هذا الاقتباس علاقات إسرائيل-فلسطين مع علاقات إسرائيل-لبنان. وهو يتابع مستعيرًا تقنية "اللقطة واللقطة المعاكسة" لغرض تناوُل وجهات النظر المتقاطعة لديه ولدى الطيار.
في الإنشاء الذي عرض في بينالي فينيسيا يوجد بث فيديو كبير، فيلم 16 ملم يتم عرضه بشكل متكرر، ومقعد فارغ في قاعة عرض. المقعد ينتظر الطيار، ويشير إليه بوصفه المشاهد الوحيد للأفلام. المقعد الفارغ يجعل العمل بأكمله يبدو مفتوحًا، كرسالة لم تلقَ ردًا، وهو يكشف أيضًا الفرق بين وجهتي النظر في العمل. الطيّار موجود في فضاء العمل كذات غائبة – جسده وصوته موجودان في الخيال فقط – وهذا على النقيض التام للفنان، الذي يأخذ على عاتقه وجهة نظر الراوي. الطيّار، موضوع القصة، يظهر بالأساس كفرضية. كذلك، فإن المقعد الوحيد يشكل دعوة موجهة الى الطيّار – دعوة قد احترمها حين زار فينيسيا في تشرين الأول 2013، من أجل الجلوس على المقعد الفارغ.
فيلم الـ16 ملم الذي يشمله الإنشاء، صيدا، 6 حزيران، 1982، هو تصوير متواصل لصورة مركبة – تشكيلة مؤلفة من عدة صور. إنها صور التلة المقصوفة التي التقطها زعتري عام 1982، الصور التي ظهرت في فيلمه السابق: هذا اليوم (This Day, 2003) مع عدد من التغييرات الهامة. عُرضت الصور في فيلم: هذا اليوم، للمرة الأولى ككينونات متميزة، صور وثّقت لحظة معينة وتم الاحتفاظ بها في ألبوم. ولكن حين أنتج زعتري الصور المدمجة الجديدة، قام باستخدام الصور المختلفة لإنتاج كاملٍ جديد، تشكل بطريقة واعية للربط الصناعي وتقوم بكشفه4. في المرحلة التالية، صور زعتري فيديو للصورة المركبة بلقطة متواصلة طولا وعرضًا، بشكل يقود عين المشاهد من نقطة الى أخرى داخل الصورة. نحن نتحرك من قصف الى قصف، نمرّ داخل دمار عنيف، نتوقف بشكل خاطف في نقاط ملاذ توفرها أشجار سرو عالية أو سماء زرقاء صافية. وهكذا فإن فيلم الـ16 ملم هو علنيًا الصيغة الأخيرة للعمل الذي يعيد تفحص نفس الصور وذاكرة اللحظة نفسها.
عمل الفيديو الكبير، الذي يجري بثه في مركز رسالة الى طيار رافض، يبدأ بكاميرا مركبة على طائرة صغيرة تتحرك بمتحكّم عن بعد. وهي تقلع من سطح بيت في حي الروشة، على ساحل بيروت. الصورة تتبدل الى صور جوية لمعمار صيدا بالأسود والأبيض، ثم الى الطاولة الضوئية، أشبه بالصور الأولى لفيلم هذا اليوم.5 حين تتم إنارة الطاولة الضوئية في الفيلم، تتلألأ مصابيح نيون في فضاء الإنشاء أيضًا، ويبدو اننا موجودون في الصندوق نفسه، ونتحول الى جزء من الرواية المقدمة على الشاشة. لا يقوم زعتري بتشويش خمول مشاهدة الفيلم، بل يدخلنا الى قلب الأرشيف، الى الفضاء الهادف لتنظيم ثقافة التاريخ البصرية والمادية. تقوم يدان ملفوفتان بقفازات بيضاء بنقل سلسلة صور على عرض مساحة مضاءة من الخلف. نرى صورًا عائلية – امرأة تستعد للتصوير مع طفلين بجانبها، أم تساعد رضيعًا على مداعبة كلب، وفتى يقوم بحركات أمام الكاميرا. بعد ذلك، ترسم اليدان بقلم رصاص مبنى غامضًا على ورقة بيضاء، ورسمة تبدو مثل شجرتين تنتصبان أمام بيت. جرس المدرسة يُقرع، والرسمة التالية تتم على ورقة مطوية بشكل طائرة.
في المشهد التالي من عمل الفيديو يظهر طلاب المدرسة في صيدا، اليوم، وهم يقفون في طابور تحت أنظار أحد المعلمين التي تراقب. طلاب المدرسة يتبادلون الأحاديث مع بعضم البعض ويسارعون في الممرات نحو غرف الصف. بعد هذه الصور ليوم اعتيادي في المدرسة، ينتقل الفيديو الى مجموعة فتيان يركضون في الشوارع، يدخلون معًا أحد المباني، ويهرعون صاعدين الدرج نحو السطح. وهناك يقومون بكثير من الاتقان بصنع طيّارات من أوراق امتحان تم تصحيحها، ويطيّرونها عن السطح. تهزّ الرياح الطيارات وهي تحلق ببطء نحو الأرض بأجنحتها الصغيرة. وفي لحظة ما، تقوم مجموعة فتيان أخرى بطيّ أوراق وصنع طائرات جديدة، لكنها تتجمع معا كسرب من الطائرات الحربية. اللعبة غير الضارة تتحول في لمح البصر الى تدريب عسكري، وتتقاطع خيالات الطفولة مع هدير الطائرات في حين نرى صور أرشيفية للمدرسة، التُقطت من تلة مقابلة لها. الصور منثورة على الطاولة الضوئية وفوقها وُضع أيضًا جهاز آيباد يبث مقطعًا من فيلم وثائقي إسرائيلي يُظهر اجتياح لبنان عام 1982. وحين نصغي الى صوت المذيع الإسرائيلي وهو يصف بفخر العملية العسكرية في عين الحلوة، باللغة العبرية، تتحرك يد وتلامس صورة المدرسة. كل لمسة إصبع تشعل في الصورة لهيبًا رقميًا ونروح نتخيّل، مع المؤرشِف، المدرسة وهي تنفجر وتتدمر، على الرغم من رفض الطيار. الطيار الرافض أشار الى انه لم يكن مستعدًا للمشاركة في الحرب الدائرة وكأنها لعبة حاسوب.6 حين بنى زعتري المشهد الذي يمكن للمسة فيه أن تنتج تفجيرًا، تطرّق بالأساس الى هذا النوع من النقد.
الطيّار في القصة هو حجاي تمير. وقد شارك بالفعل في تلك الغارة وقرّر ألا يقصف المدرسة، ولكن ليس لأنه ترعرع في لبنان.بل اتخذ القرار لأنه كان مصممًا معماريًا وعرف أن المبنى هو مدرسة وليس منشأة عسكرية أرسله قائده لكي يقصفها.7 ترعرع تمير في كيبوتس هزوريع وأنهى دورة طيران عام 1968. ويقول أنه تدرب وفقًا لتقاليد الطيران الاوروبي، التي تشدد على اللياقة في الطيران وتفضّل الديناميكا الهوائية على قوة المحرّكات. ونتيجة لذلك، كما يقول، فإن "فكرة الطائرة كمنصة للسلاح كانت غريبة عليّ ولذلك استمتعت اكثر بالقيام ببهلوانات جوية أكثر من القصف. ومنذ كنت طيارًا شابًا في الخدمة الالزامية، لم يمتعني ذلك"8. خدم تمير كطيّار في حرب الاستنزاف (1967-1970), ويدّعي أنه شعر بحدوث شيء في تلك الفترة جعل سلاح الجو الإسرائيلي يترك ما يسميه بالتقاليد الأوروبية لصالح الأسلوب الأمريكي القائم على القوّة. استدعي الى خدمة الاحتياط عام 1973، وتم إسقاط طائرته في سيناء خلال إحدى الغارات. غادر الطائرة وهبط بالمظلة على أرض سيناء حين كانت قوات مصرية تطلق النار عليه، الى أن أنقذه طاقم دبابة إسرائيلية. بعد الحرب تسجل لتعلّم التصميم المعماري في معهد التخنيون، وحين تم افتتاح معرض زعتري كان ما زال يعمل في التصميم المعماري، خصوصًا في مشاريع الاسترجاع والحفظ.9
حين استُدعي تمير مرة ثانية لخدمة الاحتياط في حرب لبنان، كانت تساوره الشكوك بشأن دوافع الحرب. ووجد أن معظم الجنود الذين خدم معهم كانوا "مندفعين للمعركة ومتلهفين على الزناد". "ومن يعلم مثلي كمصمم معماري صعوبة "ن تبني مدينة"، قال لهم، "لذلك فلا تفرحوا على الأقل حين تدمرون بيوتًا. بناء مدينة يستغرق أكثر بكثير من إصابة هدف".10
خلال تنفيذ العملية في عين الحلوة، بجانب صيدا، أمر ضابط الاتصال تمير بقصف مبنى كبير على سفح التلة. فكّر تمير في أن المبنى يبدو كمستشفى أو مدرسة، ونقل تساؤلاته الى الضابط. الضابط قال إن هناك شخصًا يطلق النار من المبنى وأنه يجب عليه مواصلة المهمة. تمير لم يلقِ القنبلة، متذرعًا بوجود خلل، ولكن طائرتين وصلتا بعده دمرتا المبنى الذي أُرسِل لهدمه.
في تموز 1982، بعث تمير رسالة تضامن الى الكولونيل إيلي غيفع، ضابط فرقة مدرعات رفض المشاركة في الهجوم على بيروت. وكتب تمير أن هذه هي ثالث الحروب التي يشارك فيها، مما شكل له تحديًا نفسيًا وأخلاقيًا، لأنه لم يشك في أن قسمًا من الأهداف التي تم قصفها لم تكن أهدافًا عسكرية.11 في شباط 1983 نشرت لجنة التحقيق بخصوص مجزرة صبرا وشاتيلا استنتاجاتها، وعلى أثر النشر استقال أرئيل شارون من وظيفته كوزير للأمن. تمير استعاد الثقة في الجهاز العسكري، لأن التوبيخ الرسمي حسب رأيه أشار الى درجة معينة من المسؤولية الأخلاقية من قبل القيادة المدنية.12 عام 1988, حين كان عمره 42 عامًا تم تسريحه من الخدمة العسكرية في إطار تقليصات.
تم إسكات قصة تمير داخل الجيش ولم يعرف ما حدث في صيدا سوى مجموعة قليلة من أهله وأصدقائه. ولكن في العام 2001، بعد اغتيال صلاح شحادة بقنبلة وزنها طن ممتفجرات ألقتها على المبنى الذي كان فيه طائرة F-16قتلت 15 انسانًا وجرحت مئة آخرين، شعر تمير أن من واجبه إسماع صوته.13 وفي مقابلة لجريدة "هآرتس" روى كل تاريخ خدمته العسكرية، بما في ذلك شكوكه في قرارات إسرائيل العسكرية.
في نيسان 2010 كان زعتري فنانًا ضيفًا في مختبراتدوبرفيلييه (Le Laboratoires d’Aubervilliers) في فرنسا. خلال مكوثه هناك، أجرى محادثة عامة مع السينمائي الإسرائيلي آفي مغربي. المحادثة، التي روى فيها زعتري القصة مرة ثانية، نشرت في كتيّب بغلاف برتقالي اللون، عنوانه محادثة مع سينمائي إسرائيلي خيالي. في تموز 2012، اطلع المؤرخ المريكي ست. أنزيسكا (Anziska) على الكتاب حين كان يجري بحثًا في مؤسسة الصور العربية (the Arab Image Foundation) في بيروت. خلال القراءة لاحظ انزيسكا أن الطيار هو حجاي تمير. وقد كان تعرّف على تمير قبل ذلك بسنتين، حين أجرى بحثًا في إسرائيل. فقد التقى مع زوجة تمير بالصدفة في دكان، وبدآ يتحادثان. سألته ماذا يفعل في إسرائيل فقال لها إنه يبحث المنظورين الإسرائيلي واللبناني بخصوص الحرب عام 1982. فقالت له انه ملزَم بالتقاء زوجها، الذي شارك في تلك الحرب كطيّار. ولم يمر وقت طويل حتى التقى أنزيسكا تمير وأجرى معه مقابلة استمرت عدة ساعات.
إتصل أنزيسكا مع زعتري والتقى معه في بيروت، حيث حكى له عن الطيار حجاي تمير. سأل زعتري عما اذا كان يمكنه أن يرسل لتمير نسخة من المحادثة مع سينمائي إسرائيلي خيالي. (14) "لربما تطور هذا الى مواصلة المحادثة"، كما قال. وبما أنه لا توجد خدمات بريدية بين إسرائيل ولبنان، فقد أعطى زعتري انزيسكا نسخة من الكتاب ليأخذه معه الى لندن ومن هناك يرسله الى تمير الذي يسكن في يافا. في ايلول 2012 بدأ تبادل الرسائل بالبريد الالكتروني بين زعتري وتمير. كان انزيسكا ضمن قائمة المراسلات، ويقول إنه "مع كل رسالة وصلت بريدي، كنت أشعر بتصحيح بطيء لشرخ تاريخي". بعد فترة سأل زعتري اذا ما كان يمكن أن يلتقيا. بما انه لا يمكن لهما الدخول الى دولة الآخر، لأن الدولتين ما زالتا في حالة حرب، فقد توجب عليهما اللقاء في مكان ثالث، وكان بهذه الحالة روما. على مدار عدة أيام التقيا في قاعة فندق وتحدثا مطولا. تمير سأل زعتري قبل ذلك إذا ما كان يتوجب عليه إحضار شيء، وردّ زعتري بأنه سيسعده رؤية صور قديمة، رسومات ووثائق أخرى من ألبومات عائلية. هذا تلاءم مع انشغال زعتري الدائم بأراشيف خاصة وعامة، وشكل أيضًا نقطة انطلاق لمحادثة بين الرجلين اللذين كانا فعلا جزءا من تاريخ الحرب بين دولتيهما، لكنهما لم يكونا ملتزمين بذلك التاريخ.
تم إدخال عدد من تلك الصور التي تبادلها تمير وزعتري في لقائهما الى الفيديو: رسالة الى طيار رافض والكتيّب الذي رافقه. وفيه صور من طفولة زعتري ولكن تغيب عنه صور تمير – إذ جرى تقليص ست صور منها فقط الى وصف كلامي، بضمير الغائب. طلب تمير من زعتري عدم نشر الصور لكنه سمح له بوصفها، وشكل هذا الطلب بالنسبة الى زعتري تجسيدًا لصعوبة العمل ضمن سياق الصراع القائم والمستمر. فقرر احترام طلب تمير من خلال الاعتراف بجميع المخاوف والترددات التي تكمن فيه.
إحدى هذه الصور توصف كصورة لتمير بالأسود والأبيض وهو في الـ18 أو الـ19 من عمره، على شاطئ يافا أو حيفا. وأخرى صورة عائلية، بالأسود والأبيض أيضًا. وهناك صورة منظر لتسعة بيوت متماثلة في كيبوتس هزوريع، وورقة من ألبوم عليها أربع صور يظهر فيها والد تمير كعامل في كيبوتس. الأوصاف الكلامية للصور تؤدي هنا وظيفة الموازي الكلامي للصور الفوتوغرافية. تم وصف كل صورة وكل فضاء بشكل مباشر جدًا، لكن بعضًا منها يبدأ بالتلميح الى وجود علاقات شخصية.
هناك صورتان تظهران تمير بلباس عسكري. في إحداهما هو متدرب بكلية الطيران، يقف حاملا خوذته المستندة الى خصره. وفي الثانية يرتدي لباسًا عسكريًا لكنه يتحدث بالهاتف. الطيار في هذه الصور معروض كجندي في الجيش الإسرائيلي، ولكن بطريقة أقل تفاهة مقارنة بالصورة المتخيلة لطيار حربي رافض.
يتضمن الكتيّب أيضًا خمس صور لزعتري، وتظهر أيضًا في الفيديو15. زعتري فيها تصوّر فيها وهو طفل، محاط بورود ومبتسم. جاء في الكلام المرافق للصورة أنه كان طالبا في كلية الفرير-ماريست (Frères Maristes Colleg) لكنه قضى نهايات الأسبوع مع أسرته في حديقة المدرسة الثانوية في صيدا، والتي أدارها والده لمدة عشرين عامًا. بالنسبة لزعتري، كما ورد، كانت المدرسة حديقة لذكريات الطفولة. تظهره إحدى الصور في العاشرة من عمره، يقف أمام تمثال ألفرد بصبوص ، الذي يظهر هو الآخر في الفيديو.
الصورر وأوصافها هي التوثيق الأساسي المتوفر من محادثة زعتري وتمير، وتشكل عنصرًا بنيويًا هامًا في العمل: رسالة الى طيار رافض. مصطلح "العقد المدني للتصوير" الذي صاغته المنظرة وباحثة الثقافات البصرية أريئيلا أزولاي، يمكننا من فهم هذه الصور، أو بالأحرى فهم الأراشيف المتداخلة لزعتري وتمير، كفضاء توثيق خطابي discursive) 16). تعتقد أزولاي أنه يمكن للتصوير إنشاء فضاء مدني، يقوم على النظرة، الكلام والفعل، حيث يمكن للأشخاص ان يتوجهوا الواحد للآخر، بصورة غير خاضعة لاملاءات السلطة السيادية .17 بهذا المفهوم، فإن الصور التي عرضت طفولة زعتري وتمير قد اقترحت تعريفًا موسعًا للمسائل القومية التي حفظها كل منهما في طفولته. زعتري كشف علاقته الشخصية مع المدرسة، والتي كان تمير قد رآها حتى ذلك الحين من خلال مهداف الطائرة. وقد وسّع هذه النظرة وضمّنها صورا خلابة لعائلة تستجم في حديقتها، أو لتمثال معروض بفخر في ساحة البيت، وكشف تمير تاريخه الشخصي الذي تضمن علاقته الشخصية بالطيران والمعمار. ينشئ زعتري في عمل الفيديو بانتوميما رمزية لهذا الخطاب، حين يضيء الطاولة الضوئية ويحرّك الصور عليها، وكأنه يريها لشخص ما. هذا الفعل يدعونا الى الانضمام لمحادثة عن معنى تلك الصور، حين نحلّ محلّ تمير الغائب.
في القسم التالي من المقال سأتناول فكرة الديمقراطية الخطابية بواسطة مفهوم إضافي، الجمالية الحوارية (dialogical aesthetic) للمؤرخ وناقد الفن غرانت كستر (Kester) وسأستخدمه لتحليل المحادثة بين زعتري وتمير، ومحادثات أخرى أيضًا بين زعتري وآفي مغربي.
وجهتا نظر (القسم الثاني): علاقات تبادلية حواريّة
وجهتا نظر (القسم 3): أشكال من الرفض
- 1. سمعت هذا الادعاء مرة تلو الخرى خلال السنوات 2012-2014 خلال محادثات مع قيّمين وفنانين فلسطينيين، كانوا ناشطين في تسعينيات القرن الماضي.
- 2. حول السياسة المفصلة لمقاطعة إسرائيل ثقافيا، يُنظر الرابط: https://bdsmovement.net/cultural-boycott
- 3. أكرم زعتري. رسالة إلى طيّار رافض. (الجناح اللبناني، بينالي فينيسيا الـ55، 2013)
- 4. TJ Demos, The Migrant Image: The Art and Politics of Documentary During Crisis (Durham: Duke, 2013), 188.
- 5. في أوائل الستينيات مرّ ميشيل إكوشار (Ecochard) طيّار ومعماريّ، فوق مدرسة الفرير في الرميلة المحاذية لصيدا. وقد وثق عملية البناء من خلال الصور. في الموقع تحته، أشرف شريكه أمين البزري (El-Bizri) على العمل. إكوشار كان طيارًا وبنى أيضًا عمارات كثيرة في لبنبن، بينها مشروع تعمير - عمارات شعبية أحاطت بمدرسة صيدا الثانوية.
- 6. أفيحاي بيكر، "لماذا رفضنا"، صحيفة "هآرتس"، 25 أيلول 2002 (بالعبرية)
- 7. تجدر الاشارة الى أن زعتري أيضًا هو مهندس معماري، وكانت هذه نقطة تماس بينهما جذبت اهتمامه
- 8. أفيحاي بيكر، "لماذا رفضنا"، صحيفة "هآرتس"، 25 أيلول 2002 (بالعبرية)
- 9. تمير يقيم ويعمل في بيت فلسطيني عتيق في يافا، قام بترميمه.
- 10. أفيحاي بيكر، "لماذا رفضنا"، صحيفة "هآرتس"، 25 أيلول 2002 (بالعبرية)
- 11. أفيحاي بيكر، "لماذا رفضنا"، صحيفة "هآرتس"، 25 أيلول 2002 (بالعبرية)
- 12. من مقابلة للكاتب مع حجاي تمير، تموز 2013
- 13. بتاريخ 22 تموز 2002, ألقت طائرة إسرائيلية قنبلة بوزن طن على بيت في غزة. القنبلة قتلت صلاح شحادة، قائد الذراع العسكري لحركة حماس، وقتلت مساعده، وقتلت أيضًا 13 مواطنًا فلسطينيًا. ووجدت لجنة عيّنها رئيس الحكومة في حينه، إيهود أولمرت، ردًا على احتجاج لمنظمة "يوجد حد" ومنظمات اخرى على الفِعلة، بأن الجيش تصرف بشكل سليم. براك رفيد، "تقرير: قتل المواطنين الفلسطينيين الـ13 خلال اغتيال صلاح شحادة كان غير مقصود وغير متوقع". هآرتس، 27 شباط 2011.
- 14. أكرم زعتري. محادثة معمحادثة مع مخرج سينما إسرائيلي خيالي اسمه آفي مغربي. مختبرات دوبرفيلييه، صندوق كاديست للفنون، منشورات ستينبرغ، 2012
- 15. من اللافت التنويه الى أن كتيّب المعرض مطبوع على ورق جرائد، بصورة جريدة. كانت هذه طريقة نشر الأخبار الأساسية خلال الحرب الأهلية في لبنان.
- 16. أريئيلا أزولاي، العقد المدني للتصوير (إصدار ريسلينغ، 2006).
- 17. المصدر نفسه