ملذّات الجسد الاخر
أهو رسّام ذوّت النظرة الغربية الاستشراقية، فنانٌ من الدرجة الثانية حاز اعترافًا كجزء من قيام التيت مودرن بدفع ضريبة كلامية للمجتمع الهندي البريطاني، أم فنان يقترح نظرة حادة، مركبة وتخريبية للهوية، المجتمع والجنسانية؟ بار يروشلمي يكتب لمجلة توهو عن المعرض الاسترجاعي للرسام المولود في الهند بوبن كاكار في متحف تيت مودرن
بالنسبة للزائر الغربي الى شبه القارة الهندية في القرن التاسع عشر، كان اللقاء مع الحلم الإستشراقي بمثابة حقيبة مليئة بالمناديل الملونة والرغبات المحظورة. ومع توالي القرون أيضًا، يبدو أننا لا نخفف من التمسك بتلك الحقيبة الساحرة. لقد كان المشرق وما زال "أفيونًا للشعوب" بالنسبة الى الغرب الحديث.
إن الدخول الى المعرض الاسترجاعي لبوبن كاكار (Bhupen Khakhar) في تيت مودرن (Tate Modern) لا يؤكد هذيان الثقافة الاستشراقية فحسب، بل يعطينا جرعة زائدة منها. معرض كاكار، وهو شخصية غير معروفة كثيرًا في حلبة الفن المعاصر في لندن، يمكّن من فتح كوّة على العلاقات المعقدة بين الهند والمملكة المتحدة. إن حقيقة اختيار التيت تخصيص المعرض الاسترجاعي لأحد الفنانين المهمين في الهند اواخر القرن العشرين، هي جزء من مسيرة مصالحة طويلة ومستمرة تجريها هذه المؤسسة مع الأصوات غير المسموعة في تاريخ الفن. إنها محاولة (فاشلة أحيانًا) لتوجيه الأنظار نحو مصادر معرفة وسرديات بديلة، أو موازية، تُعزف كأسطوانة مشروخة في دماغ كل من ترعرع في حضن تاريخ الفن الغربي.
أثار معرض كاكار الذي افتُتح في حزيران الماضي أصداء غاضبة غير قليلة لدى مجتمع الفن في الهند وبنغلادش، إثر النقد الماحق الذي كتبه جوناثان جونز (Joness)، الناقد الفني في جريدة "الغارديان”. إدعاء جونز بسيط: ليس واضحًا لماذا اختار التيت إنتاج معرض استرجاعي لفنان مثل كاكار (والذي يعتبر انه "تقادم زمنه، فنان من الدرجة الثانية عالق في شرنقة عصر الفن التصويري الجديد لسنوات الثمانين")، في حين يضطر فنانون مثل ديفيد هوكني (Hockney) وفرانك اورباخ (Auerbach) الى الاكتفاء بمعارض جانبية في تيت بريتين (Tate Britain). ما الذي يجعل من هذا الفنان مهمًا مقابل فنانين آخرين معاصرين؟
هناك صعوبة معينة في المشاهدة الأولى لأعمال كاكار (1934-2003), الذي يستخدم بشكل تظاهري حقيبة الثقافة المشرقية نفسها. رسوماته التي تتميز بحشد من الاقتباسات من الميثولوجيا الهندية، تنتج صفحة من الثقافة البصرية المشفرة، خليطًا من الرموز التي تفتح نافذة على حياة الفنان اليومية، لكنها تبقي المتلقي الغربي عاجزًا عن فهم ما يراه. في أحد أعمال المعرض المبكرة، واجهة معبد هندوسي 3 (Interior of a Hindu Temple III), من العام 1965, نشهد تبلور لغة الرسم لدى الفنان. فهو يجرّد المعبد الى حدود أيقونة أساسية، تبزغ علينا من ثلاثة ازواج عيون مرسومة على رقائق ألومنيوم ملصَقة. المعبد كأنما يعيد نظرة نحو المشاهد. لا يعمل بوصفه صورة بل يؤشر على تشفير ثقافي يبقى عسيرًا على قراءة الزائر العابر للمتحف. هذا العمل الأولي هو مؤشر على الآتي في أعمال كاكار، الذي يلعب بالأيقونوغرافية الهندية كأداة إغواء وتواصل مع المشاهد.
كان كاكار في الـ 13 من عمره حين انتهت السيطرة الكولونيالية البريطانية على الهند عام 1947 وأعلنت الهند الحديثة عن استقلالها1. وينتمي الى الجيل الذي عاش أحداث التقسيم الدراماتيكية. عمله كرسام هو نتاج واضح للانشغال في الهوية التي تتراوح بين المحلية وبين التأثيرات الخارجية، الأوروبية بمعظمها. هذا انشغال معروف لكل من يعيش في ظل ثقافة احتلال، لكن كاكار يلعب دورا مزدوجًا في لوحاته. فهو يعرف تمام المعرفة تاريخ فن اوروبا ويشخص نفسه كمكمل درب تيار البدائيين Primitivism وفي مقدمتهم روسو (Rousseau). رسوماته بمثابة سوبرماركت لاقتباسات من الفن الغربي، ولكن كاكار يؤسس على هذه الاقتباسات هويته الخاصة، المحلية؛ "يركب على الموجة" الأوروبية الحداثوية.
في عمل لاحق قليلا، جندي موكتي باهيني مع بندقية (Mukti bahini Soldier with a Gun) من سنة 1977, يظهر بورتريه "مقاتل لأجل الحرية" في بنغلاديش، مرسوم حاملا بندقية موجهة نحو صدره، ومن حوله مشاهد مدفعية وجنود يوجهون أسلحتهم الى الشخصية المركزية. الرسمة تتطرق مباشرة الى مقاتلي حركة حرب العصابات في بنغلاديش والذين شاركوا في حرب استقلال بنغلاديش. هناك شيء ما في أسلوب رسم كاكار يذكرني بمشاهد من الفن الاسرائيلي تحديدًا – يحضرني بورتريه مع وردة (1922) لرئوبين رابين، على خلفية تل أبيب وهي قيد البناء، أو مناظر طبريا لناحوم غوطمان. الطابع المحليّ يظهر على الفور حتى لو لم يكن محلي أنا. أوصاف "جسد-منظر" تلك، هي ما يصبو إليه كل من ينشغل بمحاولة تعريف هوية داخل أرض أجنبية.
لو عدنا الى نقد جونز للمعرض، فيبدو أن اللوحة بالنسبة الى الناقد تقاس وفقا لقدرتها على تلبية معايير ثابتة مسبقًا لتاريخ الرسم الحديث. وفقًا لهذه المعايير، لا جديد تحت الشمس في عالم كاكار وهو يشكل ماكينة نسخ لا أكثر للرومانسية الحداثوية. صحيح أن جونز يطرح أسئلة جيدة بخصوص المنظومة الداخلية لبناء القيمة في عالم الفن (يصعب تجاهل أن قيمة أعماله ستزداد بأضعاف في السوق الآن) – وانا مثله أتذكر قائمة لفنانين مثل كاكار ممن لم يتخطوا باب التيت مودرن – ولكنه بتمترسه في موقفه يظل متعاميًا عن مضامين أخرى يطرحها المعرض، وخصوصًا نافذة الفرص التي يعرضها لهويات غير غربية.
مثلا، لا يمكن قراءة المضامين البصرية في أعمال كاكار من دون الإقرار بالعلاقات التي تطورت بين نظرة بريطانيا الى المشرق في القرن الـ19 وبين المنظومة الاجتماعية في الهند على امتداد قرون. في عدد من الأعمال، يبدو أن كاكار يختار بشكل علني وتظاهري تبني لغة الغرب البصرية، مثلما في عمله بطاقات مرسومة من القرن الـ19 التي كانت شائعة في أرجاء الامبراطورية البريطانية وصوّرت مشاهد من الحياة اليومية في مناطق تحت سيطرة المملكة. في سلسلة أخرى من الرسمات، بورتريهات من السبعينيات، يتأمل الفنان في شخصيات مختلفة داخل نسيج حياة مدينته: مصلّح الساعات، عامل تنظف النوافذ، مدقق الحسابات، هاتا-يوجي خلال تأمّل. يبدو أن كاكار نفسه عمل مدقق حسابات معظم حياته، ويبدو أنه كان يعرف عن قرب أوضاع مَن رسمهم بشخوص مجهولة الهوية، أشخاص عالقون داخل طبقتهم ووظيفتهم. وتتراوح نظرة كاكار في هذه الأعمال ما بين السذاجة والتأمل الحاد في المنظومة الاجتماعية المحيطة به، حيث تسعى رسماته الى إضاءة الشخصيات عديمة الأسماء التي تؤلف عالم "الكاستات" الهرمي الذي يعيش فيه.
الرسمة بعنوان رجل مع جندل (1989, Man with Cataracts) هو بورتريه ذاتي يلامس شغاف القلب، تبدو فيه عينا الفنان مثقوبة بعشرات السهام الصغيرة، تذكيرًا بمرض الجندل الذي عانى منه لسنوات طويلة. وهو ينظر الى الأمام بنظرة عمياء، فترى عيناه شيئا ما لا نراه نحن. أسطورة النبي الأعمى الذي يرى ما يتجاوز الواقع المادي تتجسد من خلال بورتريه الفنان الذي لا يرى. لاحقًا، يصعب عدم الابتسام مقابل الفكاهة الذاتية في عمل الكهل من فاساد الذي كان لديه خمسة قضبان لكنه عانى من انف سائل (1995,An Old Man from Vasad Who Had Five Penises and Suffered from a Runny Nose) وتظهر فيه شخصية جالسة ذات خمسة أعضاء جنسية موجهة الى جميع الجهات – تصويرًا لرجل متقدم في العمر يغمره الفحش، وهو عمل يلمّح الى الكوسمولوجية الهندوسية بمختلف آلهتها عديدة الأيدي.
عمل آخر يظهر انشغال الفنان بالجسد والجنسانية هو ياياتي (Yayati, 1987), الذي يستند الى قصة من سلاسل قصص "بهاغافاتا بورانا" (Bhāgavata Purāṇa), أحد النصوص المؤسسة في الأدب الهندوسي، وهو يروي قصة الملك ياياتي، الذي لعنه والد زوجته فشاخ قبل الأوان. الإبن الصغير بورو (Puru) يشفق على والده ويقدم اليه شبابه مقابل كهولته. وتنتهي القصة حين يقوم ياياتي، بعد ألف عام عاشها ومارس فيها ملذات الجسد، بنقل الشباب الى ابنه حين وجد أن الحياة الدنيوية عديمة المعنى. ومنذ ذلك الحين وهب نفسه الى الجانب الألوهي للروح التي لا عمر لها. كاكار يعطي تأويلا إيروتيكيًا ومليئا بالرغبة للحكاية نفسها. بورو الشاب ذهبي الشعر يحلّق فوق ياياتي، الذي يستلقي تحته بعضو جنسي منتصب – في تصوير شاعري للرغبة المطلقة في التوحد مع الحبيب، وكذلك تعبيرًا عن العلاقات المشحونة بين رجل شاب ومسن، وموازاتها بالعلاقات بين الوالد والابن في القصة الأصلية.
يظهر كاكار في هذه الأعمال كسياسي شرس ويقظ. صحيح انه يقيم حوارًا مع الثقافة الغربيّة في رسماته، لكنه لا يسارع الى التماهي معها ويظل ملتصقًا بتظاهريّة بلغته المحلية والشخصية، التي تخلط موروثات محلية مع سردية حياته الذاتية الحميمية والجسدية. كاكار الذي اهتم بموروث الباكتي (Bhakti), ممارسة روحانية ترفع لواء التسليم المطلق بحب إله معين، اختار استخدام لقاءاته الجنسية كمفرقعات حسيّة تضيء نموذجًا لعالم فكري تتم فيه معايشة الهوية الذاتية قبل كل شيء بواسطة مصفاة أيقونوغرافية الموروثات المحيطة بها.
من قام مؤخرًا بزيارة المعارض المتبدلة في تيت مودرن يعرف بالتأكيد منسوب الحذر الخانق الذي يغسل فيه قسم التعليم بنجاعة كل معلومة "إشكالية" مطروحة في فضاء العرض، الى درجة فقدان المضمون. صحيح أن النصوص تسرف في القصّ عن شخصية كاكار الجريئة كمثلي علني وعن تناوله التظاهري لوصف علاقاته مع عشاقه على مر السنين، وتعيد التذكير كيف استطاع ممارسة هويته بحريّة خلال سنوات مكوثه في بريطانيا، حين كان حظر المثلية ما زال ساريًا في الهند. مع ذلك، من الصعب عدم الانتباه الى التنبيه الذي ينطوي على مفارقة ساخرة عند مدخل إحدى غرف المعرض، اذا تحذر المشاهدين من صور "ذات مضمون جنسي". ويبدو أن التضارب المعلوماتي يشير الى محدودية خيال المؤسسة، التي تفضل عرض صورة أحادية البعد للواقع، ومملة في لياقتها السياسية، بدلا من اعطاء الأبعاد الحقيقة والمركبة لحياة الفنان وأعماله، إذ أن هويته السياسية لا تقتصر على حبه لرسم أعضاء جنسية منتصبة.
يصل المعرض ذروته في سلسلة رسمات أنجزت في أواخر حياة الفنان، والذي توفي بمرض السرطان عام 2003. المشاهد الايروتيكية غنيّة الألوان من حياته السابقة تستبدل برسمات قاتمة عن الحياة في ظل المرض. لحظات المعاناة والبؤس مصورة بسخاء عارم، مثل يوميات خاصة محتشدة بكرونولوجية حياة تتبدد، أشبه بنظرة الى دواخل جسد الفنان. في عمل صغير بألوان مائية، مغر سيرلانكا (Sri Lanka Caves, 2002), الذي أنجزه قبل موته بسنة، يبدو انه لم يعد ليه ما يمكن نقله تصويريًا، وكل ما تبقى مجموعة من الأكوام الشبيهة بالغائط، وهو عمل يكشف بنظرة متعمقة صورًا بالية منحنية داخل شبكة أنفاق معقدة. لحظات الفنان الأخيرة هي شهادة مثيرة للإنفعال على الشكل الذي تتغير فيه الرسمة نفسها. الانشغال الذاتي بالجسد المريض يتحول الى جراح تترك آثارها على الورق. يبدو أن كاكار يعيش الرسمة في نهاية حياته بأكثر أشكالها جسديةً. إنه يترك انشغاله كراوي حكايات ويتوجه الى بحث فعل الرسم الأساسي: طبقات من اللون المتراكمة واحدة فوق الأخرى، شهادات ذاكرة لجسد فانٍ.
من الصعب معرفة كنه الأسباب التي دفعت التيت الى إقامة معرض فردي لفنان مثل كاكار. بنظرة منظوماتية، تجدر الاشارة الى أن المعرض افتتح الى جانب معرض استرجاعي ضخم للفنانة منى حاطوم (Hatoum) نجمة الشرق الأوسط، ما يزيد حدة السؤال حول ديمومة رسمات كاكار التصويرية عالية العفوية. هل هذا المعرض مجرد "ضريبة كلامية" يدفعها المتحف للمجتمع الهندي في بريطانيا، ام ان هناك سببًا خفيًا جريئًا لدى مؤسسة تسعى الى قلب طابعها؟ كاكار هو فعلا طير أبلق في دهاليز المجد اللندني، ولكن حقيقة نجاحه في التملص من الرادار حتى اليوم هي ما تزيد جاذبيته – متسلل جاء من عالم آخر لكي يترك بصمته، وكتذكير بوجود تفرعات ومسارات تفوق وتتجاوز ناقدًا فنيًا بريطانيًا واحدًا.
**المعرض الاسترجاعي لبوبن كاكار "لا يمكن إرضاء الجميع" ("You Can't Please All"), قيّمان: كريس دكرون ونادا رازا (Raza), عرض في متحف تيت مودرن من 1 حزيران حتى 6 تشرين الثاني 2016.
يشدّ الاهتمام في هذا السياق معرض "نقطة التلاشي"، الذي كانت أور تشوفا قيّمة له، وعرض قسمه الأول في شهر كانون الأول 2015 في بيت الكرمة، حيفا، وقسمه الثاني في أيار 2016 في آرتبورت، تل ابيب. تناول المعرض السرديات المشتركة للشرق الأوسط وشبه القارة الهندية في السنتين 1947-1948.