في حوارٍ أجرته معها مجلّة "لير" الفرنسيّة، في تشرين الأوّل من العام ١٩٩١، تقول مارغريت دوراس Marguerite Duras بعد أن سألها الصّحافي عمّا إذا كانت تفضّل الحديث عن أشياء ترغب في إخفائها: "ما أخفيه دومًا قصص غراميّاتي. إنها لي وحدي وليست لأيّ شخصٍ آخر".
تمنيّت طويلًا لو أن منزل عائلتي، حيث تأتي الطفولة الآن سريعةً وبليدة، قد كانت له حديقة واسعة مثل الحديقة التي سوّرت بيت دوراس بعد أن انتقلت إلى نوفل لو شاتّو neauphle-le-château.
يمرّ الزمن، نعيش ثم نموت، ودوراس في بيتها، جالسةٌ إلى طاولة خشبية مع نظاراتٍ سوداء سميكة، وإسورةٍ فضيّة في اليد، تنظر نحو الأزرق الذي يختفي من خلف النافذة مثل غشاوة الظهيرة، ومن بعيدٍ لا يسمع سوى صوت الآلة الكاتبة وهي تضرب وتتنهّد، تأنّ وتصغي، تقفُ وتتمهّل.
"كيف تصفين علاقتك بالرّجال؟" تسألها ليوبولدينا، الصحافية الإيطالية التي حملت أوراقها وذهبت للقائها في منزلها في إحدى ضواحي باريس. "ينبغي أن نحبّهم كثيرًا كي نتحمّل حاجتهم الدّائمة للاقتحام، والتحدّث وتأويل كلّ ما يحصل لهم ومن حولهم".
أحبّت دوراس الرجال مثلما أحبّت السفر، لحقتهم أيضًا من مكانٍ إلى آخر، بعيونٍ مفتوحة، تسمع وتسجّل، وأيدٍ مشغولةٍ بالكتابة. لم أعرف أحدًا مولعًا بالكتابة مثل دوراس، بكل وحشيتها وبهيميتها والأمكنة الناقصة التي كانت تدخلها بشراسة، من دون أن يرفّ لها جفن. ولعل هذا ما دفعها كي تقع في حبّ شابٍ مثليّ في نهاية حياتها، تكبره بأكثر من ٢٨ سنة. لخمس سنواتٍ كتب يان أندريا Yan Andréa رسائل مطوّلة لمارغريت، الجميلة الفظّة، بعد أن قرأ كل كتبها، وجمّعها، ولم لا؟ فمن الممكن أن يكون قد أخذها معه في نزهاته في كوبا والأرجنتين حيث يلتقي برجالٍ يقبّلهم وينام معهم ويقرأ لهم مقاطع طويلة من كتب دوراس، المرأة الوحيدة في حياته.
فجأةً يدخل يان حياتها، باقة ورودٍ وكأس ويسكي على الأرجح، أو زجاجة نبيذٍ، وخمس سنواتٍ من الكتابة المطولة لامرأةٍ بعيدةٍ، تعيش في منزل ضخم ولا تهتم إلا بالكتابة، كانت أمرًا كافيًا ليصبح يان، عشيقها الصغير، المثليّ، الرقيق والناعم. من يان ليميه اسم عائلته الأساسي إلى يان أندريا الاسم الذي منحته إياه دوراس، المتسلطة، المرأة الأكبر سنًا والأكثر تجربةً وخبرة، إذ خطر لها أن تمنحه الاسم الأخير لوالدته عوض اسم عائلة والده الأساسيّ. من يان ليميه إلى يان أندريا، ولاحقًا إلى يان أندريا شتاينر Yan Andréa Steiner الكتاب الذي ستكتبه عنه لاحقًا. هذا الحب الذي يسيل من المنافض والفازات، وألفة الأماكن الرطبة، لم يكن ليكونَ أكثر اكتمالًا.
"كلّ الرجال مثليون" تصرّح دوراس " قاصرونَ على أن يعيشوا حتّى تخوم الشغف. جاهزون على أن يفهموا فقط أولئك الذين يشبهونهم. رفيقُ الحياة الوحيد الحقيقيّ في حياة الرّجل لا يمكنُ إلاّ أن يكونَ رجلًا آخر. في هذا العالم، المرأة متوارية في مكانٍ بعيد، يختار أن يزوره الرجل وينضم إليه بين وقتٍ وآخر ".
يكتبُ كريستيان بوبان : "يمكننا أن نمنحَ وفرةً من الأشياء للشخص الذي نحبّه. كلمات، راحة أو لذة ما. لقد منحتَني أكثر الأشياءِ ثراءً ألا وهو الفقد. كانَ من المستحيل عليّ أن أتجاوزك وكنت أشعرُ تجاهك بالفقد في كلّ مرة أراك فيها. بيتي النفسي، ومنزلُ القلب كانا مغلقينَ بالدرجة عينها. لقد حطمتَ المصاريع ومن حينها لا ينفكّ الهواء المثلجُ، الحارقُ، وكلّ الضياءات عن التصدّي لها. "
في فيلمٍ لها بعنوان أغاتا والقراءات اللامحدودة "Agatha et les lectures illimités" يقرّر الأخوان أن يلتقيا في شقةٍ منزويةٍ على طرف البحر. إنه اللقاء الحاسم والأخير قبل فراقهما الحتميّ، في تلك الليلة تودّع آغاتا أخاها وتودّع معه الحب الذي لا يمكن أن يكون. حين يتحدثان يكاد الواحد منهما لا يلتفت إلى الآخر. "هذا الظلّ الذي يترك نفسه فوق شفتيك ويجعلك مرغوبًا بحرقة."، " أتطهّر من صورة جسدك الضائعة في ظلّ البحر". "سأرحل لأحبّك دومًا في هذا الألم الحيوانِ الجميل، لعدم امتلاكك". كلها جمل لا يمكن أن توضع بصورةٍ عرضيّة في الفيلم، ولا في ذاكرة الكاتبة/المخرجة نفسها. قراءات آغاتا اللامتناهية هي المونولوغات الصامتة التي لا يمكن للحب أن ينتقل خلالها إلى حيز التشكل أي ال "acte" الحقيقي والفعلي، إنه حب لا يمكن اجتساسه من الخارج ولا يمكن النظر إليه من مسافة. إنه موجود وجاثم مثل حيوان مبتل في مكان ما، معبّر عنه وملموس لكن حياة آغاتا لا يمكن لها إلّا أن تتشكّل حول هذا الفقد نفسه، تمامًا مثل لول فشتاين في رواية أخرى لها.
الحب في كل مكان، يطاردنا تمامًا مثل شبح هاملت. ينتظر الفرصة الجيدة كي ينقضّ، يتربّص في الزوايا ويتأمل. في الحدائق العامة يجلس العشّاق على المقاعد معًا، ويمسكون بأيدي بعضهم بعض، في الأفلام يقبلون بعضهم، على الشارع يضحك الواحد منهما للآخر، في المقاهي يتفحصون بعضهم، يبتسمون، يرسلون قبلات لاهثة في الهواء. تكتب جوزيفينا فايسنس Josefina vicens: " فقط في جسد الشخص الذي أحببناه طويلًا تصبح علامات مرور الزمن غير مرئية ويصبح التقدم في السن مع ذلك الشخص طريقةً أخرى لعدم التقدم في السنّ حقًّا."
أفتح سجلّ هاتفي، شبان كثيرون نمت معهم، قبلتهم في أمسيات حانية. في علم أصل الكلمات يقال أن كلمة رغبة في اللغتين الفرنسية والإنجليزية Désire على سبيل المثال من أصلها اللاتيني desiderare وبعد أن تطورت على مرّ العصور، وبعدما وقعت نظرات الناس على النجوم وافتتنوا بضيائها، عنت في الأصل "العطش للضوء". أن ترغب شخصًا ما، في لغة أجنبيّة على الأقل، يعني أن تعطش للضوء الذي يخرج منه. فلنتخيل هذا المشهد معًا: يحبّ أحمد صديقه سامر، مثلما تحب سمر صديقتها سعاد، مثلما يحب أسعد صديقته ديما. ثلاث قصص معقولة يأخذ الحب فيها منعطفات متباينة لأن التجربة دومًا بريئة مهما اجتستها الأيدي في العتمة، في عالم هشّ وكثير العطب، لكن الحميمية فيه لا يمكن أن تضلّ طريقها. لا أفهم فعلًا لماذا يجد الناس هذه القصص بغيضة، في عالم كهذا هذا أقصى ما يمكن للناس أن يفعلوه هو أن يحبوا ويُحبّوا.
أشك دومًا في تجاربي الحميمة، لا أعلم في أي عالمٍ مخادعٍ من الأحاسيس أقيم، كل شيء يبدو زائفًا، تمامًا كما كان بروست يغير أسماء العشاق في رواياته كي لا يحب رجلان بعضهما. يصبح آلبير، آلبيرتين وتغرق السمكة في البحر.
"نحو أيّة مياهٍ آسنة من الحنان العذب نسير ؟ في النهاية سنكتشف جيّدًا. سأحاول الاتصال بك غدًا" تكتب دوراس ليان، فجأة يغدو العالم أجمل وأقلّ حرقة. لعلّ هذه هي اللحظة نفسها التي صرخ فيها فاوست غوته : "قف أيها الزمن، ما أجملك!"
يحب المرء طويلًا. يحبّ حتى تحمرّ عينيه، وتنزف يداه البيضاوين. لكن الحبّ نفسه لا يدوم، يتعثر ويتشتت، يضيع في الأزقة. في فيلم "دموع بيترا فون كونت المريرة" ، les larmes amères de Petra Von kant لفاسبيندر Fassbinder تحمرّ عيون تحمرّ عيون بيترا من هذا الحب. تأتي كارين فجأة إلى حياتها المقفلة بإحكام في مشهد مينمالستيّ، تنظر الامرأتان في عيون بعضهما البعض ويكون اللقاء كفيلًا كي تهبطا في أرواح بعضهما البعض.
"لقد تغيّر العالم، العادات تبدّلت والأخلاق أيضًا، لكن الخوف من الحبّ، الخوف من ألاّ نكون محبوبين، الرغبة في إنقاذ الآخر، هي أمورٌ دائمة في حيوات البشر" يكتب فاسبيندر في مقدمة الفيلم.
لقد تغيّر العالم فعلًا. فرضت جائحة كورونا مسافات جديدة، بنت غرفًا بين شخصين، فصلت بعض الأهل عن أولادهم، الإخوة عن رفقاءٍ لهم في مدينة ما، والأحبة عن معشوقيهم. لكنها في الوقت عينه أعطت أهميةً جديدة للشرفات التي كانت أماكن إيكزوتيكية، تفصلُ بين الحيّز الأليف (البيت) والمكان الدّخيل(الشارع، البناية المجاورة، المدينة من بعيد). من على الشرفات سمعنا الناس تغني لبعضها البعض، ومن الشرفات أيضًا ولدت قصص حبٍّ جديدة، شبيهة قليلًا بحقول الألغام. "أنا هنا" يقول العاشق لمحبوبه" أسمعك وأراك وأهتم لأمرك لكننا لن نلمس بعضنا اليوم، من هنا، من هذه المسافة سأحبك وسأطمئن عليك وسأراقبك. ربما هذا سيجعلنا حميمين أكثر".
في ظلّ كورونا، أذكر أني قضيت ليلةً مع شابٍ جاء إلى منزلي مع ماسكٍ وقبعة، لم أكن أرى إلّا عيونه ونظراته. الرغبة في عيونه كانت كافية لأن أكون معه. على الأقل استطعنا أن نلمس بعضنا، فقط بالإشارات، نضحك على بلاهة الوجود وعلى الأمراض والحياة والعالم الذي في لحظة ما، تغيّر هكذا مثلما تسقط حبّة برتقالٍ على الأرض في مغيبٍ ممطر.
إذا أردتُ ترجمة مفردة "l'abri" في الفرنسيّة، فإنها تعني "مأوىً"، وإذا أردت أن أنطلق من هذه الكلمة لأشكّل جملة حميمة ف سأقول" j'suis à labri de mon amour" أي حرفيًا أنا في حماية الشخص الذي أحبّه/أحبّائي. تأتي كلمة "Abri" من اللاتينيّة "apricari" وقد عنت في البدء "أن يتعرّض الواحد للشمس، أو أن يتدّفأ بها" لو انطلقت من هنا، فإني حين أستعملُ المفردة في جملةٍ ما، حتى لو فقدتْ هذه الكلمة معناها الأصليّ مع التطور الكبير الذي أدخل على اللّغة وغيّرها، فإني بشاعريّة غير مقصودة من طرف أي متكلم أقول أنني أتدفّأ بالشخص الذي أحتمي به مثلما أتدفّأ بالمكانِ الذي ألجأ إليه.
لطالما كانت اللغة حميمية في تعاملها مع مواضيع مشابهة.
في الحبّ كما في الكراهية، تكونُ اللغة حافزنا. نكتبُ رسائل مطولة حين نحبّ، حين نتألّم من أحبتنا أيضًا وحين "نشرب النّخب الأخير" على طريقة آخماتوفا.
في فيلمٍ لإنغمار برجمان بعنوان "After the rehearsal" يقولُ هنريك فوغلر المخرج المسرحيّ، في مشهدٍ عابر : "قال طبيبٌ نفسيٌّ ساخر أنّ درجة حرارة الحبّ لا يمكن قياسها إلا بحرارة الوحدةِ التي سبقته". اليد دبقة، يكثر ماؤها، لذا من المرجّح أن تغيب مع الوقت من جيوب معاطف الآخرين ومن على ظهورهم، لأن حب شخصٍ ما، هو نزهة أيضًا على دراجة.
ربّما علينا أن نتعلّم كيف نحبّ من جديد، في عالم توجد فيه اليوم أنماط مختلفة للعيش، حتى لو كانت مغرقةً في النّسيج التاريخيّ والذاكرة الأنثروبولوجيّة. نحنُ نبني اليوم عوالمَ كثيرةً في ظروفٍ مغايرة، نطرق أبوابًا جديدةً أيضًا، نتناول فيها أسئلة الهوية والحميمية وماذا يعني أن نحبّ في زمنٍ كهذا. لم ينته "كازنا" بعد، أضواء العيد ما زالت واضحة وبقوة، حتى لو خفتَ بريقها بين فينةٍ وأخرى، نعيش ونحلم ونتأمل في علاقاتنا. أن نقبلَ اليوم حبًا بين رجلين أو امرأتين لا يجب أن يكون سؤالًا أكاديميًا. إنه لأمر حميم قبل كل شيء آخر. في السابق كان الإنسان البدائيّ، جارنا الأوّل، مهما اختلفت تسمياته، يرسم نقوشًا على الكهوف بهدف فهم المحيط الذي يعيش فيه والتعبير بطريقة أو بأخرى عن شيء ما، وجد طريقه بين الغابات والظلال، اليوم نعرض لوحاتنا في كل الأماكن، فوق البراد في مطابخنا الصغيرة، وفي غرف نومنا وفي الصالون بالإضافة إلى المتاحف التي أحب أن أذكرها في أسفل القائمة. العالم يتغيّر، لأن الزمن يمضي أيضًا ولأننا لو مهما حاولنا أن نخدع أنفسنا، فإننا سابقون على التاريخ، ومتقدمون عليه.
نصنع قصتنا ونحرفها، مثلما نحبّ شخصًا ما، في أي بلدٍ كان، لأننا نريد أن نصنع قصصنا وأن نطورها وأن نعيش أيضًا في هذه المتعة التي هي الحياة.
سنتذكر دومًا موئل حبّنا الأوّل. هناك حيث يبدأ كل شيء بنظرة خفيفة، بمروٍر رقيق، بلمسةٍ ناعمة مثل وردة محفورة عميقًا في كتابٍ سحريّ. فلنؤمن أنَّ الورودَ المزروعة بعناية، سوف لن تذوي فوقَ أسرّة الآخرين وفي حدائقِ بيوتهم. فلنؤمن أنَّ القصصَ الجميلة ستعيشُ حتّى لو تلفَ الكتاب وضاعت أوراقُه.