زيارة الاستوديو القادمة التي نجحت في آخر المطاف بإجرائها لم تتم في استوديو أصلا. مرة أخرى حاسوب، عنبال هوفمان وأنا نتحدث كل واحدة من بيتها. هذا يليق بزيارة الاستوديو التي ليست بالاستوديو، ضمن الزاوية التي تتواصل بتأخير دائم، وبلقاء مع بيان اعتزال.
مرة أخرى أتأخر. الفنانة أثارت فضولي بمحاضرتها حول التخمة في مؤتمر مانوفيم الأخير، حيث اخذتنا في رحلة من ماركس حتى ماكس ستوك. كانت الأعمال التي عرضتها متخمة كالمدن الصاخبة، مثل المعماريات المصغرة المبنية من أكياس نايلون، قش للشرب واسفنج لغسل الاطباق، مثل تشارلي تشابلينات صغيرة مسجونة بين الدواليب المسننة للماكينة الرأسمالية (هذه بالطبع الفطريات الضئيلة من البروليتاريا هي التي جعلتني أفكر بمخلوقات الصغيرة. البلاستيك الصناعي يرسلني إلى المصنع التشابليني).
رأينا في المحاضرة الكثير من جوانب الاستوديو، والفنانة ترتدي شخوص عاملة مهنية: تقوم بلحام المعدن، القص بالمنشار، الخياطة، الإلصاق، والتركيب. ولكن كما ذكرت، فاتتني زيارة الاستوديو خلال السنة والنصف المنصرمة من الكورونا. "أنا اخطط للاعتزال"، تصرح وتجعلني أفكر بسلسلة من الفنانين الذين صرحوا بأشياء مشابهة، وبما أنهم رجال فقد أخذ كلامهم بجدية كبيرة. أفكر بذلك الشخص باعتزاله الذي ينطوي على امتياز لعبة الشطرنج، والتي كانت ليس أكثر من انهاء حين كان يواصل العمل سرا على عمله الاخير – وكشف ذلك فقط بعد موته. هو أيضا كان مجتهدا. على الرغم من الشخصية ذات الطابع الريدي ميدي التي خلقها قبل ذلك لنفسه، ونتيجة لهذا لعالم الفن كله. لقد امتهن بالتزام وبشغف العمل اليدوي ضمن سيرورة الإبداع.
ترافقني على الدوام كعاشق أسطوري روح الشاعر الذي تحول إلى فنان، وصرح في جيل الأربعين حين قام بفكرة معاكسة دخل فيها إلى عالم الفن، وهو أيضا فكر أنه بوسعه أن يبيع شيئا وينجح في الحياة، في لحظة لم يكن فيها جيدا فيما يفعله بالمرة. ولكن على النقيض منه، هوفمان موجودة في لحظة جيدة جدا فيما تفعله، ولكنها بعد أن باعت شيئا، أي عملا لمتحف اسرائيل، تفضل الاعتزال من النجاح وهي بكامل الوعي.
وفي حين أنني كآخر متوافقات الجنس بنات البطرياركية، أعيش قصص حب روحية مع أرواح رجال أكبر مني بعشرات السنين، فإن عنبال هوفمان تلاحقها أرواح نساء، وأولاهن حنه ارنت. ترافق ارنت كل المحادثة في نقد العالم النيوليبرالي، وهو عالم توقعته وفيه تتحول تقنية جميع جوانب وجودنا إلى الإنتاج على نحو مدمر (أشبه بالرغبة في نقل الانطباعات إلى الورق، على الرغم من ان المحادثة تمت بدون تسجيل وبدون قائمة ملاحظات في الدفتر). ولكن إعلان الاعتزال يرافقه بالذات رجل أبيض صاحب امتيازات، هو لورانس العرب، في اللحظة الاستثنائية التي اعترف فيها بكونه صاحب امتيازات. تروي هوفمان كيف أن لورانس رفض لقب الفروسية والميداليات والتشريفات التي أرادت ملكة بريطانيا ان تغدقها عليه خلال عودته من رحلاته، لأنه رأى في كل ما فعله رسالة نفذها باسم المملكة العظيمة، ولولا ذلك، لكان رجل آخر قد قام بذلك مكانه وبدوره. أن تكون هذا أو تلك الموجود او الموجودة في الوقت الملائم، في اللحظة الملائمة – كأداة بأيدي منظومات ضخمة، هذا ليس في سيطرة الشخص الذي حظي بالمكانة، ولم يتم ذلك حتى بتأثير منه. وليس في عالم الفن أيضا. الحرية المنشودة، التي تبحث عنها الفنانة في فعل الإبداع، ليست موجودة كطموح، كأمنية. خطة الهرب لدى هوفمان: أن تتحول إلى فنانة وشم.
أطلب منذ الآن تسجيل دور لعمل وشم. أتخيل كيف ان آلهة المصير سوف تضحك (تحدثت هوفمان عن التقدم داخل عالم الفن بوصفه فعلا بتدخل من أصبع الهية، وأنا أسعى لطلاء هذا الاصبع بلون أحمر قانٍ، او ربما مع لمعة). وذلك حين ستصاب الفنانة التي تحوّلت إلى عاملة وشم بالصدفة، أمام سلسلة جامعي الفنون الذين سيطلبون أن تعمل وشوما لهم كاستثمار في عمل الفن، وينالون مكانة ويملئون الدور لديها.
هوفمان لا تقتنع. اختيار استبدال النحت بالوشم يليق بطابع عملها: أعمال الانشاء لديها المبنية من أبراج بابل تعج بالتفاصيل، ذات وجود مؤقت وعابر. في نهاية المعرض تتحلل هذه الأعمال إلى عناصرها الأولى، "مثل أثاث ايكيا التي يحاولون بيعها او إعطائها لآخرين في سوق الأغراض المستعملة"، تقول. "عنصر السخرية لن يتجاوزني"، تقول الفنانة التي تتعهد بأكثر شيء مؤقت وسيكون بالنسبة للزبون أكثر شيء أبدي – وشم سيحمله جلده إلى أن يتحلل جسده.
يليق بهوفمان الانتقال إلى العمل على الجسد الذي يتحرك في الحيز، وذلك بعد أعمالها التي يتم التقاطها ومعالجتها بشكل حسي، جسدي. انا أفكر بالفطريات الضئيلة في عملها "انها في كل مكان!" من العام 2014، التي جعلت المشاهدين يستلقون في الوقت الحقيقي لزيارة المعرض كي يتمكنوا من رؤية التفاصيل عن قرب. أشاهد هذه التفاصيل لاحقا عن بعد من خلال صور الفنانة، المؤسسات التي عرضتها، وأفهم ان التوثيق الأكثر دقة وكمالا للأعمال هو لدى المشاهدين، وأن وظيفة مؤرخة الفن في الغد، هي التجوّل في شبكات التواصل الاجتماعي بدلا من النبش في الارشيفات، بحثا عن كل تلك الصور والتوثيقات التي تتراكم من العمل المؤقت إلى "السحابة الأبدية" – مثلما قالت الفنانة.
اتخيّل أين ستترك هوفمان فطرا من الحبر على جسدي، لو اعطيتها مساحة للعمل. جسدي كفضاء للعرض، جسدي كمتحف يحفظ الأعمال، إلى أن يحل المسقبل ومعه نهاية المتحف الذي يقدس ويكرس الماضي.
إن التيقظ من علامات القوة في عالم الفن والذي يقود إلى الاعتزال منه لصالح عمل الوشم، تجعلني أفكر بالفنانة الناشطة في مجتمعها، التي تمنحه خدماتها بشكل مباشر، بدلا من رأس المال المهيمن الذي يحدد مسارات حركتها. على نحو رومانسي اتخيل الفنانة حين لم تقم لنفسها متاحف ذات منظومات مغتربة لأصحاب وظائف عديمي الوجوه.
هوفمان المتيقظة تجيبني أنها تفكر فقط بتقديم خدمات. وفي خيالي زبائن سيطلبون منها فطرا وفي خيالها – ربما زهرة شائعة؟ وربما عموما "نحاتة تنتج أشياء"، مثلما عرّفت نفسها – هل الاتجاه المهني المنطقي للهرب بالنسبة اليها سيكون أصلا مجال تقويم الأسنان؟ أسالها. فتضحك، "لا اعتقد ذلك". بالطبع انا أفكر بنفسي. روحها المكافحة النقدية لن تتهادن وفقا للآمر الجمالي النيوليبرالي الذي يطالب جميع الابتسامات بان تكون متماثلة او على الأقل ان تطمح لتلك التي في اعلان معجون الاسنان، في حين ان ايًا من تلك الابتسامات ليس "طبيعيا" – مثلما تذكرنا دانا هراوي.1 هوفمان، في التهجين الذي تقوم به بين الطبيعي والصناعي، تستخرج من علب معجون الاسنان حلزونات.
هوفمان لم تصل إلى الاستوديو في السنة والنصف الأخيرين من الكورونا. أشبه بمصير جميع الأمهات، تقول، "كانت تقلي كرات اللحم". هذه الأشهر الطويلة لم تسمح لنا بالتجول أو لربما حكموا علينا بأن نتقوقع. معرض قمة اليومي الذي افتتح ببيت تيخو في تشرين الأول 2020، كان مغلقا لمدة أشهر. بعد هذه الفترة ما كانت بحاجة إليه هو العلاقات الإنسانية، كما تقول وأنا أعود إلى فكرة عاملة الوشم كفنانة اجتماعية، تعيش على تواصل مباشر وقريب مع مجتمعها. تتحدث هوفمان عن أهمية الحيز العالمي، السابق للسياسي، والذي تصيغه على خطى ارنت. تفكر بالمشاهد حين تنتج عملا جديدا – كيف يمكن الكتابة من دون التفكير بالقارئ؟ تسأل باستهجان، وترن لديّ كساعة منبهة. لم يكن بوسعها أن تنتج بالاستوديو حين كان الحيز العلني مغلقا ولم يبق سوى الحيز الخاص، دون بلاغ للهرب من البيت، دون إمكانية للنجاح، بينما انا – أسعى للقيام بزيارات استوديو، كرد على إشكالية فضاء العرض الخاضع للرقابة تحت تعليمات الوباء. هل سألتقي هناك فقط آباء ذوي امتيازات، ابقوا امهات في البيوت ليقلوا كرات اللحم؟
تصريح اعتزال هوفمان يأتي خلال الأزمة الكبرى للوباء. حنه ارنت في كتابها "الحالة الانسانية" تقول إن كلمة "العيش" باللغة اللاتينية مرادفة ل"أن تكون بين الناس" (inter homines esse)، وكلمة "الموت" مرادفة ل"الكف عن التواجد بين الناس" (inter homines esse desinere).2 تعليمات التباعد الاجتماعي هي بالتالي عقوبة بالموت.
لربما أطلب من هوفمان وشما لأحد اكياس النايلون التي تحبها – غير قابلة للتآكل حتى فناء الجنس البشري كله.
رد عنبال هوفمان في البريد الالكتروني بتاريخ 28 تشرين ثاني 2021:
مرحبا ميخال، اليوم، فقط بعد اسبوع، أخيراً جلست بجانب الحاسوب ونجحت بالتفكير لدقيقة بشكل نقي.
واضح لي أن هذا وضع مؤقت وغدا ستقبض عليّ الفوضى مرة ثانية... قرأت النص، عدة مرات، وأنا سعيدة اننا تحدثنا وانك كتبتيه، هذا يجعلني أشعر بأنه قيل فعلا بشكل علني بأنني لا أريد أن أكون فنانة بعد، والأهم، أن هناك من يهمه ذلك. اعتقد انه لن ينتبه أحد إلى انني اختفيت من الميدان.
فنان يقيم معرضا مرة بالسنة او السنتين، اذًا لا مشكلة في أن تختفي بهذا الشكل. نحن ببساطة لا نصل إلى التقاطع التالي، هناك من سيحتل مكانك، والعالم سيواصل أداءه كما هو.
لو كانت لديّ أي ملاحظة، فهي لربما ان النص يعرض بدقة مضمون المحادثة، ولكن الطريقة التي كتب فيها، بدون تشديدات وبما يشبه السلاسة من أمر إلى آخر، بدون فكرة مركزية وبدون دراماتيكية، هو ما يجعلني لا ابدو كمن أشبه نفسي، كأنك قمت باخت أعي، بعض الشيء...
أشعر كما لو أنها قصة قصيرة خيالية، عن تلك وذلك وليس عن أشخاص حقيقيين مع مشاكل حقيقية ولكن هذه مسألة أسلوب وإن كان يميّز الكتابة فليس من شأنه أن يغيّر من جودة النص أو درجة الاهتمام الذي يثيره. إنه جيد ومثير كما هو. انا ببساطة أكثر دراماتيكية في الواقع كما اعتقد...
بالاضافة إلى ذلك غدا تبدأ دورة الوشم، وهذا يثير فيّ الانفعال وكذلك بعض الخوف. فيما عدا ذلك هناك تطعيم للأولاد وعيد الأنوار وعيد الميلاد. ونأمل أن لا يكون هناك إغلاق وأن يهطل المطر ايضا. إلى اللقاء حاليا عنبال.