حرروا الفتيان الجنود لدى سالفا كير
يتطلب الطابع المتطرف للاستخبارات الأمنية في جنوب السودان بقاء المشاركين في هذا التقرير بهويات مجهولة. من بين الأمثلة التراجيدية، قتل "الطفل الضائع" من جنوب السودان والمواطن الكندي ريتشارد لوكيه واختطاف الصحفي كلمنت لوتشيو لومورانتا، وهي تشكل برهانًا على الخطر المحيق بالحياة المرتبط بالنشاط من أجل العدالة للاجئين في السودان اليوم.
أبراهام منجتوبا
لقد رسمت يده بحركة خفيفة نطاق القصة الإنسانية. روى لي أبراهام داخل مقهى شاي صيني في ذروة شتاء كاليجاري، تفاصيل حكايته. "لقد غُصت في غياهب التاريخ" قلت له بدهشة. مرت علينا الساعة الثامنة. وطلبنا شرابا أخيرا بواسطة شاشة التابلت التي تعمل باللمس والمثبتة داخل طاولتنا.
لقد طلبت جمعيات محلية ووسائل إعلام نشر قصته. "لم يكن بوسعي أن أحكي لهم مثلما أحكي لك الان" قال بصوته الناعم. لغته الأم، لغة ديدينجا (Didinga) في منطقة إكواتوريا الشرقية (Eastern Equatoria) في جنوب السودان لا يزال صداها يتردد في لهجته مثلها مثل آثار اللغتين العربية والسواحلية. لقد تحدث بطبيعية أشبه براوي حكايات مخضرم وفي حوزته الكثير من الشهادات والرؤى.
يتذكر أبراهام في بدايات ذاكرته أنه انضم إلى عمه وإلى مجموعة من شيوخ القبيلة بوصفه الأصغر عمرا في معسكر متجول لرعاية الأبقار. منذ جيل السادسة وحتى جيل 12 سنة تغذى فقط تقريبا على حليب البقر الطازج مع إضافة دم البقرة من حين إلى اخر. على نحو متباعد مرة كل عدة شهور، كان المعسكر يقترب بمسافة كافية من إحدى القرى ليشتري بواسطة المقايضة طحين الذرة الذي اعتادوا على خلطه مع الحليب في عصيدة لزجة.
ما زالت قرية أبراهام نجتوبا (Ngatuba) التي تقع شرق بودي (Budi) بعيدة جدا عن الشارع الرئيسي. يجب السير مشيا من مدينة تشوكودوم (Chukudum) على امتداد نحو 12 ساعة عبر المناطق الطرفية الجبلية كثيفة النباتات في جنوب السودان. "إنهم لا يستعملون الكهرباء، الوقود أو الغاز. ليس لديهم حتى دراجات هوائية"، يذكرني أبراهام بابتسامة مسرورة. معسكرات رعاية البقر تتجول في أرجاء هذه المنطقة وفقا لتغير المواسم مثلما جرت العادة منذ وقت غابر.
قصته الأكثر أهمية تبدأ بسؤال مثير للفضول.
"أين قمت بثقب أذنيك؟"، تساءلت بسذاجة. في إحدى المرات حين توقف مع البقرات قرب إحدى القرى شاهد أبراهام راقصا تقليديا. لقد كان له حضور هائل في زيه المزين بالريش والحلي والألوان. رقص صاخب لافتا إليه الفتيات للواتي كدن يصبن بالدوار.
سارع أبراهام إلى المرج الفسيح من أجل ثقب أذنيه. فالقدرة على جذب كل هؤلاء الفتيات الشابات ورفع معنويات القرية بواسطة الرقص فقط، قد أسرت قلبه. ولكن على الرغم من ذلك وبخه عمه. وكان أبراهام يكن احتراما كبيرا لعمه الذي رباه طيلة هذه السنوات في معسكر الأبقار المتجول. وعلى الرغم من أن عمه كان من أبناء ديدينجا التقليديين، فقد دعم تعليم الفتيان وكان يبث روحا إنسانية هادئة ولافتة للانطباع.
"ما هذه العلامات؟" سألته ولقد عجزت عن رفع عيني عن الندوب العميقة على أحد مفاصل يديه.
"هذا بسبب مرض البوليو. لقد تعالجت بمساعدة دواء شعبي".
كان هذا أول انتصار له على الموت. بعد طفولته التي مرت في معسكرات رعاية الأبقار عاد إلى قريته وقد عزم على انهاء تعليمه في المدرسة الثانوية في توريت(Torit) عاصمة لواء إكواتوريا الشرقية. خلال مكوثه هناك أصيب بمرض البوليو وكاد يصبح عاجزا طيلة حياته. بمساعدة أعشاب طبية وقوة إرادته نجح مرة ثانية في الذهاب إلى المدرسة. لقد نجح العلاج بأعجوبة.
في صبيحة اخر امتحاناته ضجت أصوات الحرب. ركض الجميع نحو الغابة بينما هزت الانفجارات الأرض وامتلأ الجو بالدخان والشظايا. وهنا سمعوا صوت مكبر الصوت. لقد تحدث المتمردون عن طموحهم لتحقيق العدل والسلام في البلاد. بعد ذلك الصباح لم يبقَ أمام أبراهام الا الحداد على عمه الذي قتلته قوات المتمردين. وهكذا بدأت رحلته المثيرة للرهبة والإلهام إلى كينيا مشيا على الأقدام، فتى وحيدا في البراري نجح في البقاء على قيد الحياة على الرغم من الحيوانات المفترسة، العطش والجوع وقيظ الصحراء والحر.
يصف أبراهام ما مر عليه بوصفه مختلفا عما وقع "للأولاد الضائعين" الذين كانوا جزءا من تهجير لاحق أكثر. قصته قاسية هي الأخرى. فقد نجح في البقاء حيا بفضل تربيته الأولية إذ كان يعرف اصطياد الحيوانات بالقوس والسهم واختبأ من الفتيان المسلحين والمتعطشين للدماء الذين تجولوا في كل الأنحاء وقد حرقتهم الشمس.
جنوب السودان في الشتات
الصراعات التي نشبت في جنوب السودان منذ اندلاع الحرب الأهلية، في شتاء عام 2013 أدت إلى موت ما يقارب 400 ألف انسان وجعلت 200 ألف آخرين لاجئين مقيمين في ستة معسكرات تابعة للأمم المتحدة في أرجاء الدولة. يعيش أكثر من 5 ملايين انسان في انعدام الأمن الغذائي وبينهم 36 ألفًا على حافة الموت جوعا. هناك وحدة صحة نفسية وحيدة، تضم 6 أسرّة وأخصائيًا نفسيًا واحدًا، تعالج الصدمة الواسعة التي ضربت مجموعة سكانية يصل تعدادها 12 مليون انسان.
يعيش أبراهام اليوم في كندا، حيث يسكن 50 ألفا من أهل جنوب السودان ويشكلون جزءا صغيرا من نحو مليونين وأكثر من أبناء شعبهم الذين قُذفوا إلى الشتات. ومن مكان سكناه خارج المدينة يدير مركز السلام ماجي (Maji Peace Centre)، في إكواتوريا الشرقية ومن خلاله نجح في إعادة فتح العلاقات التجارية بين قبيلتي الديدينجا والتوبوسا (Toposa)، اللتين جبى الصراع بينهما حياة شقيقه وأجبر البلدة على الفرار نحو الجبال. صوته هو تمثيل أصيل لحياة مكرسة للمثل الاجتماعية الراسخة في التربية.
من بيته في كندا، مدعوما بموارد اجتماعية، يراقب أبراهام بشكل حثيث الشؤون اليومية في جنوب السودان مثلما يفعل سائر أبناء شعبه في الشتات. في بلاده الشباب معرضون جدا للتورط في العسكرة.
إن جرائم التجنيد والتدريب لفتيان-جنود، بعضهم أطفال في العاشرة ومعظمهم أبناء 14-15 سنة، هي جرائم قد تفاقمت في جنوب السودان، الدولة الأكثر شبابا في العالم، بعد أن اندلعت الحرب الأهلية ثانية، للمرة الأولى منذ إعلان الاستقلال عام 2011. بعد أن أطلقت عملية إبادة في العاصمة، جوبا، في 15 كانون الأول 2013 واصلت الحكومة المنتخبة الفاسدة إلقاء عبء الخدمة العسكرية على أعناق قاصرين سذج.
بعد المذبحة بدأت حكومة الرئيس سالفا كير مايارديت (Salva Kiir Mayardit) بتجنيد أطفال-جنود لخدمة عسكرية إجبارية، بزعم إحباط عمليات انتقامية. ولشديد الأسف فإن مثل هذه الجريمة الفظة ضد الإنسانية شائعة جدا في صفوف قوات متمردين منتفضين، ولكن فور اندلاع العنف الدموي في جوبا في كانون الأول في 2013، اجتازت الفظائع الحدود بين المعسكرات. منذ ذلك الحين عادت الحرب الاهلية الأطول في افريقيا الى الامة الأكثر شبابا في العالم، حيث قامت الحكومة المستقلة الأولى في جنوب السودان بإشعال لهيبها.
لم يخرج الكثير من القاصرين في حياتهم من قراهم إلى أن تم اغراؤهم واختطافهم من قبل ممثلي الحكومة. لقد تلقوا وعودا بمبالغ 500 جنيه كيني (5 دولارات)، وتم نقلهم بشاحنات إلى عناوين مجهولة. في إحدى القرى تم أخذ 400 طفل إلى معسكر درّب أكثر من ألف فتى وغالبيتهم فوق سن العاشرة بقليل. لا أحد يعرف عدد معسكرات تدريب الأطفال-الجنود في جنوب السودان.
يوم الاثنين 26 كانون الثاني 2015، هرب الفتيان ماركو وجوليوس من معسكر كان يتوجّب عليهم فيه الاستعداد لمعركة على خطوط الجبهة في دولة (Unity State) الغنية بالنفط. بعد يوم على فرارهما بدأ الضابط ديفيد ياو ياو (Yau Yau) من دولة جونجلي (Jonglei) بتسريح أطفال-جنود من بين قواته. وفي الأسبوع نفسه نقلت نشرات أخبار (Vice News) معلومات عن صفقة بين الأمم المتحدة التي قادت عملية تحرير أكثر من 3000 طفل في جيل 7-17 ممن كانوا تحت سيطرة المتمرد ديفيد ياو ياو. على الرغم من ذلك، فإن اختطاف جوليوس وماركو الذي اقترفه مباشرة نظام فاشل برئاسة الرئيس سالفا كير، يشكل انتهاكا غير مسبوق حتى ذلك الحين لحقوق الإنسان.
لقد قام أبراهام بترتيب الفرار الدراماتيكي لإبني أخيه من معسكر تدريب حكومي بجانب أكواتوريا الشرقية. في ساعة صباحية مبكرة من يوم شتوي في الغرب الأوسط الكندي، اتصل بالصبيين بعد نحو أسبوع على فرارهما من أجل التيقن أنهما استعادا الحرية فعلا. وقد نجحا في هذه الخطوة الجريئة بمساعدته المباشرة.
خلال محادثتنا كان الفتيان في الطريق إلى معسكر اللاجئين كاكوما (Kakuma) في كينيا، حيث يمكنهما هناك التسجيل للتعلم في المدرسة. لقد وصل أبراهام نفسه مشيا على الأقدام إلى نفس معسكر اللاجئين حين كان فتى في نفس الجيل وذلك خلال فرار يائس من أكواتوريا الشرقية التي مزقتها المعارك. في السنوات التالية نجح في تعليمه وتحول إلى صاحب حظوة ومثار حسد ضمن سياسة الهجرة الإنسانية للدولة الكندية.
لقد تحدثوا معا بلغة الديدينجا، وبعد تبادل التحيات الطويل بلغة جنوب السودان انتقلوا إلى لهجة أكثر جدية، فبدأ أبراهام بطرح أسئلة على الفتيين محاولا التغلب على الصخب الذي أحاط بهم.
طفل، لاجئ وشاهد
"كيف وصلت إلى المركز العسكري؟"، سأل أبراهام.
فأجاب الفتى الأكبر سنا:
"حين اندلعت الحرب الأهلية في جوبا، أجبِر جميع الفتيان على التجند للجيش. أخي غير الشقيق وأنا أخذونا إلى التدريبات بهدف المحاربة لصالح نظام جنوب السودان."
ألصق أبراهام الهاتف بأذنه محاولا التغلب على الاف الكيلومترات الفاصلة واختلاف وجهات النظر وسط خدمة هاتفية مشوشة من تلك البلدة الصغيرة في جنوب السودان.
"هل ذهبت هناك مع ماركو؟"، سأل وصوته يكشف قلقه على الطفل.
"كلا، لقد وصلت قبله. لم أعرف أن ماركو أيضا أخِذ من القرية. حين كنت في معسكر التدريب كان هؤلاء ممثّلي الحكومة الذين جاءوا لجمع الأطفال وإرسالهم إلى مدارس في أوغندا وكينيا. بعد كانون الأول 2013، قال ممثلو الحكومة، اذا كنت ولدا فيمكنك حمل السلاح والقتال."
سأل أبراهام، "في أي جيل يجب أن تكون حتى تتلقى بندقية وتحارب؟"
"لم أعرف شيئا بالمرة إلى أن أخبرونا أننا في جوبا. منذ أن ولدت كنت في القرية فقط. لم أسافر في حياتي إلى أي مكان، ولا حتى إلى بلدة مجاورة.
"[حين وصلت إلى جوبا] قالوا لي انني يجب أن اتدرب كي أصبح مواطن جنوب السودان. لكني لم أعرف الكثير عن التدريبات. حين وصلنا أنا وأصدقائي إلى تشوكودوم، كانت بانتظارنا 5 سيارات لتأخذنا إلى جوبا. نقلونا فورا من تشوكودوم إلى توريت وبعدها إلى جوبا. مكثنا 3 أسابيع في قاعدة عسكرية في جوبا.
"لم نعرف بالمرة انا وأصدقائي أين كنا. لقد بدت القاعدة العسكرية مختلفة تماما عن قريتنا. كنا معزولين. التدريبات صعبة وركضنا طيلة النهار. كانت مياه المستنقعات الموحلة والملوثة تغطينا وبعد ذلك ركضنا.
"لقد عاملونا بشكل سيء جدا وغالبا ما كانوا يضربوننا دون أي سبب. نمنا في ظروف بشعة. لا يمكن مقارنة هذا بأي شيء. كان غذاؤنا الفاصولياء وطحين الذرة بدون ملح أو زيت. كان هناك أكثر من ألف فتى كلهم قاصرون فيما عدا بعض البالغين. لقد أدركت أنهم يتعاملون معي كما لو أنني من ممتلكات الحكومة. لم تكن لي أية حقوق في معسكر التدريب وكان يتوجب عليّ القيام بكل ما يقولونه لي. وحين لم أفعل كنت أتعرض للضرب.
"كنا معظمنا في جيل أقل من 18 عام. أنا وأصدقائي كان عمرنا 15 عام."
"هل كانت هناك أحاديث عن حرب ضد دولة الوحدة؟"
"سمعنا أنه كانت هناك معارك في بور (Bor) وملكال (Malakal) وبنتيو (Bentiu)لكننا لم نعرف الكثير عن ذلك لأنهم لم يتحدثوا عن هذا بشكل علني. قال لنا ممثلو حكومة، إن كنت رجلا فعليك أن تحمل بندقية وتحارب. لكننا لم نعرف من كان يجب علينا أن نحاربه".
الهرب
"حين وجدني ابن عمي [جوليوس] خفف ذلك عليّ الكثير. وحين اتصلتَ بي، كنت على أمل أن نتمكن أنا وهو من الفرار من معسكر التدريبات"، قال ماركو. وتذكر كم كان متفاجئا حين عرف بوجود مخرج من المعسكر الرهيب.
"لقد كان ذلك شديد الخطورة. الكثير من الحواجز على امتداد الطريق. كان من الصعب على معظمنا الهرب معا من المعسكر. توجّب علينا أن نكون هادئين خلال تحركنا وأحيانا توجب علينا المشي لمسافة كيلومترات طويلة لأن الوضع كان خطيرا."
في الرابع من أذار 2015، كتب أبراهام لزملائه في أرجاء العالم: "آمل أن كل شيء على ما يرام. لقد هرب طفل-جندي اخر من ساحة المعارك، بعد أن نجا من معارك كثيرة في بنتيو. حاليا ما زال يختبئ في جنوب السودان لكنه سيترك مخبأه قريبا." لقد واصل جهوده أشبه بما فعله "الصالحون بين الأمم" الذين خاطروا بحياتهم من أجل مساعدة اليهود على الخروج بشكل آمن من أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية.
في 26 كانون الثاني 2019، حين كان أبراهام يصارع الشتاء القاسي في كاليجاري، تلقى مكالمة هاتفية من جنوب السودان. كان هذا رئيس القرية التي ولد فيها في أكواتوريا الشرقية حيث أخبره أنه في القريب العاجل سينتهي شق شارع من نابوتيبوت (Napotipot) إلى مركز السلام في ماجي. قيل له أنه تبقت 5 أيام فقط لإنهاء شق الشارع الذي سيوفر إمكانية تحرك أفضل إلى مركز السلام حيث سيتمكن السكان من البدء في حفر آبار.
"مركز السلام سيخلق الكثير الكثير من الفرص الجديدة"، كتب أبراهام منفعلا ومفعما بالأمل. "المجموعتان، الديدينجا والتوبوسا، ستتقاسمان الموارد المحلية بينهما. سيطور الناس إجراءات وخطوات بناء الثقة والسلم، نحو القيام بتعاون في مبادرات مستدامة".