حديث البلد #1 – هيثم (تشارلز) حداد

ميشيل نصار يحاور هيثم (تشارلز) حداد حول سيرورات عمله الفني، تناوله موضوعَ الجندر، الأزياء، الدين والتكنولوجيا

ولد هيثم (تشارلز) حداد في قرية البقيعة في الجليل. حاز اللقب الأول في تصميم الأزياء من الكلية الأكاديمية "شنكار" في رمات غان، حيث يربط ما بين التصميم الغرافيكي والرسم، ويتمحور في الفن المعاصر وتأثير تاريخ الأزياء عليه. كذلك، فهو يتطرّق الى سياسات الجندر بواسطة تصميم هويات تاريخية في سياق معاصر. شارك حداد مؤخرًا في معرض "دفتر" (2013) و"منام" (2014) – في إطار البينالي الدولي في قلنديا – وكذلك في معرض تانا ماتيا (2014) بالاشتراك مع عنات مرات. معرضه الأخير، "Amira/Ctrl + S"، الذي افتتح في معرض خشبة، يفحص العلاقات ما بين الذاكرة، الشعور والرسم الايضاحي الرقمي. يعيش الفنان اليوم في حيفا ويدير "تشارليز" (Tsharliz),  دكان قمصان T على الانترنت، حيث يصمّم لها نماذج مطبوعات.

أجريت المقابلة في بيته بشارع مسادا في حيّ الهدار، حيث يعمل هناك ويحفظ أعماله أيضًا. وقد واصلنا لمدة أسبوع بعد اللقاء توضيح أسئلة ونقاط مختلفة بواسطة الهاتف او الفيسبوك.

 

Haitham Charles Haddad. Lay/off

هيثم (تشارلز) حداد Lay/off

 

م. ن.: العيون حاضرة جدًا في أعمالك.

هـ. ح.: لست أدري ما هي قصة العيون. انا احب الوجوه. في بعض الأحيان أرسم وجوهًا فقط، او دمجًا لعدد من الوجوه معًا. ربما لأنني أميل في الواقع الى التأمل في الوجوه وتجاهُل الجسد. لا أنظر كثيرًا الى المؤخرات.

م. ن.: تحدثت عن البورتريهات وعن انبهارك من الوجوه. وهي بارزة في العديد من معارضك، بما فيه آخرها Amira/Ctrl + S. رسمتَ وجوهًا خالية من الملامح، رؤوس ثيران مثبتة على أجساد بشرية، أفواه متآكلة داخل حدقات عيون فارغة مرسومة على صور عائلية بالأسود والأبيض، بطباشير رقمية بألوان النيون. كأن هناك فعل تشويه مقصود بأعمالك، حتى في الأقنعة المرحة التي عرضت من خلالها تقاليد البورتريه بشكل تهكمي. من أين ينبع هذا؟

هـ. ح.: أعتقد أن هذا يعود الى نفسيّة سنوات العاشرة فما بعد من عمري، إذ كنت حينذاك طفلا قصير القامة، غير جذّاب بشكل خاص، ذكيًا ولكن بدون حياة اجتماعية. بعد فترة فهمت أن هذا يتلاءم مع شخصية الـ gothic-emo حتى لو لم ألبس الثياب السوداء ولم أضع جِل في شعري. أنا لا أعيش حالة اكتئاب لكني في الوقت نفسه لست أسعد إنسان في العالم. أعمال الرسم هي جزء مني ولا أقوم عادة بكشفها. هناك شيء مخيف في هذا، ودائمًا يقولون لي ان عليّ الذهاب الى طبيب نفسي.

م. ن.: ماذا؟

هـ. ح: نعم، فعلا، أصدقائي يقولون هذا. يعتبرون أن رسوماتي غريبة جدا. "إذهب الى طبيب نفسي، هذه الرسومات تعكس الأنا الداخلي لديك"، يقولون لي. وأنا أسألهم، "لماذا؟ هذا مجرد رسم". أنا لا أرى الجوانب المخيفة التي يرونها. الأمر مضحك، لأنه حين كنت طفلا كان كلّ شيء تقريبًا يخيفني. القطط.. هل تذكر فيلم "الخاتم"؟ لم أتمكن من النوم لعدة ليالٍ بعد أن شاهدته. الغريب ان شيئًا ما حصل بعد الثانوية. لا أعرف. لقد ترجمت مشاعر الخوف الى إلهام.

 

Haitham Charles. Trip-tych

هيثم (تشارلز) حداد. تريبتيخ
Trip-tych 2014. تصوير: بلال قرمان

 

م. ن.: هل تذكر أولى تجاربك في الرسم؟

هـ. ح: بدأت في الثانوية برسم فتيات عاريات على اوراق نوتة دروس البيانو. رسومات ليست متناسبة أو متناسقة تمامًا. معلمة البيانو رأت الرسومات واقترحت أن أتعلم تصميم الأزياء. كان ذلك في الصف العاشر أو الحادي عشر. اليوم، آمل أن أعمل يومًا ما بروفيسور في تاريخ الملابس. أريد أن أكون ذلك الهادئ الذي يعلّم عن الثياب. لكنني لست هنا، بل في مكان آخر.

م. ن.: لماذا لست هنا؟

هـ. ح: لأنني أسمع من أشخاص يقولون لي طيلة الوقت أن لا أحد هنا يقدّر أعمالي. ربما هذا صحيح، لست متاكدًا. مجموعة أشباه المثقفين الحيفاوية لا تتميّز بالدعم. هناك الكثير من الغيرة. من الصعب أن تنجح هنا. شريكتي سناء جمالية وأنا، نواجه دائمًا صعوبات في عروض السعر – نواجه ردودًا مثل "كثير غالي، كثير غالي، كثير غالي"، وهذا مُحبط. في جميع الأحوال، ينتاك هذا المكان. أنا أريد أن أرى العالم.

م. ن.: حيفا ليست بارزة في أعمالك، ليس على سطحها، على الأقل. فهل تتواجد تحتها، في العمق؟

هـ. ح: لا. انا أحب حيفا كمكان ولكن... لا أدري. أنا أهتم بالناس أكثر من المناظر والمباني.

م. ن.: الوجوه التي ترسمها تذوب داخل محيطها المادي.

هـ. ح: أعرف أن هذا سيبدو غبيًا، ولكنه بدأ من انعدام القدرة التقنية. لم اعرف كيف أرسم وجوهًا. لم اتعلم الفن. كانت لدينا في مدرسة الأزياء حصة رسم عُري مرة واحدة في الأسبوع فقط، على مدى سنة واحدة. كان هذا ممتعًا وتعلمت الكثير ولكن لا يمكن القول إنني أعرف اليوم كيفية رسم وجوه شديدة الواقعية. حين كنت أبدأ بالرسم كانت تظهر وجوه بلا بداية ولا نهاية، بلا ملامح واضحة، وعلى الأغلب – حتى قبل سنتين – كان لديها فراغات عيون ولكن ليس بؤبؤ عين. ربما ان الطبيب النفسي سيعرف السبب. يقولون لي انني أرسم نفسي دائمًا، لكنني أقول: هؤلاء مجرد ناس. معظمهم ملتحون. أنا أربي لحية منذ أكثر من ثمانية أعوام. في معرض تانا ماتيا، رسمنا أنا وعنات حوريّة بحر كثيفة الشعر وسميناها توته، وهو بالمناسبة وصف للكـُس.

 

Haitham Charles Haddad and Anat Marat. Tana Mahtiah

هيثم (تشارلز) حداد وعنات مرات. تانا ماتيا
2015. تصوير: تموز رحمان

 

م. ن.: لماذا اخترتما حورية بحر كثيفة الشعر؟

هـ.ح.: هذا جزء من الجماليّة الكويرية التي نحبها، عنات وأنا. مثل: أنا فتاة لكنني كثيفة الشعر، أو أنا شاب مع أحمر شفاه. أحب على وجه الخصوص رسم هذه الصور مع نص عربي، وعرض هذه المواضيع على أشخاص لم يعتادوا الانكشاف عليها. الحورية لا يجب أن تكون أنثوية. يمكن ان تكون كثيفة الشعر.

م. ن.: كيف جاء معرض تانا ماتيا؟

هـ. ح: أردنا صنع ربّ مزيّف في بلاد مزيّفة، والتهكّم على كل فكرة الأرض المقدسة. فحقيقة مجيء ناس من العالم كله الى هنا لشراء تراب وهواء، مسلية جدًا. لقد أنشأنا داخل بار في تل أبيب دكان أغراض تذكارية مع بطاقات بريدية وبوسترات وقمصان T  للألوهة، يبدو مثل دكان اغراض تذكارية في القدس. تلقيت انتقادات على أنني عرضت عملا في بار تل-أبيبي. كل مسألة الـ BDS جننتني. أنا أعيش وفقًا لذلك، أو أحاول أن أعيش على الأقل، ولكن هذا صعب. تلقيت إيميل من صديق، ورسالة نصف رسمية من آخر، ومكالمة هاتفية، قيل لي فيها كلها إن عليّ التفكير جيدًا أين أعرض أعمالي، لأن للأمر عواقب. شريكتي، عنات، يهودية، وحين رأى البعض المعرض قالوا "ها هما، فنانة يهودية وفنان عربي، قد سئما هذه البلاد، وهما ينتجان معا عالما موازيًا يمكنهما العيش فيه". لا بأس، جيد، ولكننا لم نفكر مسبقًا بمسألة التعايش اليهودي-العربي.

م. ن.: ما هو أول تأثير فني عليك؟

هـ. ح: ألفونس موخا (Mucha)، فنان غرافيكي من فترة الفن الجديد art-nouveau. سلافي من براغ إن لم أكن مخطئا. ذهبت الى معرض رسومات له هناك. احبه، هو وكليمت، كثيرًا. عبقريان. الجميع يكرهونهما الآن، الكيتش والأطياف اللونية الوردية، ومدوّنات الخليجي (المغنية M.I.A. لديها كليب "XXXO"، يستند الى بوستات الخليجي: ورود مع برَق، نمور ووحيدو قرن كأنها تطير). أنا أحب هذه الصور لأنها فظة. بدأ هذا في المدرسة، حين تعلمنا عن أمريكا اللاتينية والفن هناك. عندها بدأت أحب المسيحية.

م. ن.: أعمالك مليئة بالصور المسيحية؟

هـ. ح: هذا مضحك... لقد تربيت، ككل طفل مسيحي، وأنا محاط بصلبان وسلاسل ذهبية مع رأس المسيح المقطوع. لسبب ما صرت أحب الايقونوغرافية المسيحية. ولا اعرف السبب حتى. لم نكن عائلة متدينة بالمرة، وكان لديّ مسيح في الغرفة. هذا الدمج بين الزينة والعلامات والرموز – فكرة ان لكل شيء هناك معنى - هو كيتش الى حد بعيد. الطريقة التي تظهر بها ايماءات أيدي كل واحد من القديسين هي جزء من القصة.

 

Heitham Charles. In the Name of OMG

هيثم (تشارلز) حداد. باسم OMG
2014

 

م. ن.: ماذا بشأن الفنّ لديك؟ هل يوجد لكل شيء معنى؟

هـ. ح: لا! لا! كفى! خلص! يعتقدون دائمًا أنني حاذق جدًا لكنني مجرد ولد أهبل.

م. ن.:  تكتب في مقدمة Amira/Ctrl + S  أن التكنولوجيا الرقمية تحفظ الذاكرة، ولكن معرضك يدوّر ويستعيد صورًا قديمة، يغيّرها مرة بعد الأخرى، وهكذا يقدم ما يفترض أنه ذكريات كتجارب جديدة تستخدم للاستهلاك والتذكّر من جديد. كيف غيّرت معالجة الصور تعاملك معها ومع الذكريات الكامنة فيها؟

هـ. ح: المسح الضوئي للصور جاء كيلا تضيع، مثلما يمكن أن يحدث للصور الورقية. حين فهمت هذا، صارت فكرة الورق فجأة مشوّشة. لماذا يجب أن يكون الورق مهما للفن أو للذاكرة، في حين أننا نعي خطر تلويث البيئة وتدمير غابات الأمازون وما الى ذلك؟ فجأة تفهم أن هناك حاجة في وسيط جديد من أجل عرض الذكريات الجديدة. لذلك قمت بمسح الصور وبثّها على شاشات. والنسْخ أيضًا بدأ كمحاولة لحفظ ذكريات وهو أيضًا، كما قلت، انتج ذكريات جديدة. في البداية سألتْ جدتي، وهي موضوع المعرض: "ماذا فعلت بجدك؟". لكنها قالت في الافتتاح إن هذا هو أجمل احتفاء وتكريم يمكن أن يمنحه حفيد لجده.

م. ن.: لماذا اخترت الرسم على صور لجدك وليس جدتك؟ ما الذي كان في وفاة جدك بحيث مكّنك من ذلك؟

هـ. ح: لقد اخترت الرسم على وجه جدي لأن غيابه جعلني أخاف من أن أخسره. حين رسمت على عدد من بورتريهات جدتي، لم تكن عندي ذكريات منسوية اليها. يمكن إنتاج شيء حين يكون هناك غياب.  عندها تكون لديك سيطرة، قوة، وبوسعك ان تقرر ماذا وكيف ستتذكر، وبمساعدة برنامج رسم يمكن ان تقرر تكبير الأنف مثلا لو رغبت. لقد تحول المر الى هاجس. سيطرت على البكسلات. شوّشت وجه جدي وجدتي حتى كادا يختفيان.

 

_MG_0035_670.jpg

هيثم (تشارلز) حداد. فراغ. إنشاء
2014. تصوير: ربيع سلفيتي، البرنامج الدولي، قلنديا، حيفا

 

م. ن.: بمناسبة حديثنا عن الوسائط الرقمية، لاحظت ان لديك حساب تمبلر. كيف تؤثر شبكة الانترنت على عملك؟

هـ. ح: الموجة الجديدة من الفنانين موجودة في تمبلر. هذا يوفر لكل واحد منبرًا للتعبير الذاتي. ليس تمبلر فقط، بل تويتر أيضًا. هذا منبر مفتوح، يمكنك قول ما تريد، حتى لو كان إباحيًا أو مهينًا، هذا هو الانترنت. يبدو غير حقيقي لكنه حقيقي تمامًا. هذه هي الحياة. الروح. القصد أنك تظل حيًا حتى لو كنت ميتًا اذا كانت لديك صفحة على فيسبوك. هناك أشخاص يواصلون الكتابة على جدار أكبر المنتجين الذين كانوا هنا في فلسطين، مع أنه مات قبل سنوات طويلة. جميع الأفلام الغبية من التسعينيات تتحول الى واقع.

م. ن.: ما هو الموروث الثقافي الذي ترى نفسك تساهم فيه؟ هل تنظر الى نفسك كفلسطيني؟

هـ. ح: لا. انا لا احب التأطيرات، لأنه في اللحظة التي تؤطرني أصبح مسؤولا عن كل كلمة أقولها وتجعلني أشعر بانني يجب ان اكون أكثر حذرًا في عملي، فيما أفعله، فيما أظهره، فيما أعرضه وأين. أنا لا أريد أن اكون مؤطرًا كفنان فلسطيني، أو حتى، لمقتضى الأمر، كفنان. لا أعرف ماذا يعني أن تكون فنانًا. هل هو دراسة الفن في مدرسة مرموقة معينة، تدخين سجائر معينة، أو وضع قبعة معينة؟ ليس من السهل ان تكون مؤطرًا كفنان أو كمصمم أزياء. لو قال لي أحد "آه، أنت مصمم الأزياء!"، سأجيبه "لا، أنا من يخيّط. اذا أردت شخصًا يخيط لك بنطلونًا – تفضل، بسرور كبير".