فنّ كتابة الفراغ وفن رسم الفراغ، وفن تصميم الفراغ. كلّها تصبّ في فلسفة الفراغ التي تمنح قيمة ووجودًا له بصفته وجودًا ماديًا لا مجرّد خلاء لا قيمة لمعناه. هذه الفكرة الخطيرة للفراغ بصفته وجودًا هي ما يصنع تغييرا أو تحولا في العمل الفني، ذلك لأنه ليس غيابًا للأشياء بقدر ما هو شرط رئيسيّ للملاء، لحركة نحو حريّة الحركة، نشاط بيني ويؤسس توازنًا في اللوحة وهندستها ويؤثث للعمق الفراغي محيلا على الذاكرة والمكان والذات.
يقول اسكندر في تعريفه لعلاقته مع الفراغ:
"الفراغ مساحة الخيال، والخيال حقيقتنا التي لم نراها بعد، لكننا نعترف بها. هذه المساحة غير المدركة، هي مكمن وحيز مفتوح للمشاهد أو المتلقي، ليكمل الباقي من ذلك البياض الناصع، الغير مرحب به بشكل كامل"، وهو بهذا يجزم بحتميّة وجود الفراغ والهوّة والغياب كشرط يعرّف حضور الأِشياء في قلب اللوحة.
يغدو الفراغ هنا دفقًا شعريًّا يصل من جهة بين المتفرّج والمادة الفنيّة، ويفصل المادة الفنيّة عن نفسها في محاولة إعادة تصوّر للعلاقات الداخليّة في هذه المادة، في نفس الان. بالتالي، فإنّ الفراغ يحضر في أشكال متعددة منها تحويل المعلوم إلى مجهول، وفرض الصّمت على مساحات البياض مدعومًا بالإحساس بالألفة بدلا من الاغتراب عن محتوى الصورة.
الجانب الأول الذي يظهر فيه هذا الفراغ هو على المستوى البصريّ والذي يبدو واضحًا في قراره رسم بورتريهات بلا ملامح، حيث يبدو هذا التفريغ المقصود عملية تكثّف وتختزل بل وتحوّل (ميتامورفوزا) الوجه إلى مخزون دلاليّ يعبّر عن صاحبه. فتجد الخطوط الرفيعة وتجد الخطوط الداكنة والخطوط المائلة والدائرية والأفقية والعمودّية، تتجه شمالا ويمينا وإلى حركة صاعدة أو نازلة تتّخذ وضعيّة تأملية أو مسماريّة جامدة تستعيضُ عن فراغ الملامح بالأشكال الهندسية والخطوط وطريقة خطّها وصفّها وتكثيفها وتخفيفها.
في كلّ هذا نجد عُمقًا تفريغيًا للوجه يسنده امتلاء من نوع آخر عوض ذلك. هذه التقنية في التفريغ السريع والخطوط السريعة، عوض ضخّ التفاصيل في لوحات عريضة تكسر قانون الاتساق الفنيّ الذي يُلزِم بضرورة الحفاظ على التناغم بين عناصر اللوحة. وهذا بدَوره يثيرُ إحساسًا بالقلق لدى المتلقّي من جهة، وإحساسًا بالرّاحة من جهة أخرى، لأنّ هذا الفراغ يصبح فضاءً هجنيًا بينيًا يربط بين المعلوم والمجهول ويحفّز على التفكير في تعدّد المعاني من وراء هذا النقصان الكامن في العمق الفراغيّ.
النوع الثاني من الفراغ يرتبط باللون، حيث تصبح له في بعض اللوحات دلالة تجريديّة لأنها تركّز على شكليّة الأشياء دون وضع الهدف موضوعًا بعينه، فنرى أِشكالا تحكمها الألوان القاتمة والرفيعة والخفيفة دون نفور، والمتكسرة بمعنى المنتشرة والمتشطية رغم زخم حضورها القوي الذي يعبر عن ضجيج وتراصّ يؤثّر على العين لانتشاره في كل زوايا اللوحة. في هذا السياق يقول الفنان:
" لقائي بالألوان بدأ هادئًا، وعدت إليه بعد فترة نسيت فيها أني كنت أرسم مثل أي موهوب يحب الرسم، فالعشر سنوات ليست بالمدة الهينة أن تعيد فيها تعريف الشيء من جديد بالنسبة إلى نفسك وواقعك الجديد ربما. أي أن لقائي الجديد بالألوان كان قادمًا من صخب وضجيج رهيب في نفسي، كان عليّ ان أجد ما يزيح هذه الظلمة، ليس بمعناها المريح، ولم يكن هناك غير الألوان".
وفي هذا التأمل ما يثير التساؤل، فطريًا، حول غريزة التعامل مع اللون/الألوان واتخاذ الفراغ/الفراغات دورًا كبيرًا في اللغة اللونيّة. من هنا، فإنّ الخطوط العريضة للرماديّ، والأسود، والأبيض من جهة، تمثّل سيمياء بصريّة شكليّة تفتح الفراغات على بعضها وتشدّها بخيط رفيع عماده "بلاغة العين" على حدّ تعبير اسكندر، هذه البلاغة البصريّة التي تجعل من التقارب في الألوان نوعًا من الكاليغرافيا في فراغ سيبقى ثيمة تقابل اللون، ويحوّل ضربة لونيّة واحدة في لوحة تجريديّة إلى أيقونة بصرية تنتجها الفراغات.
أما النوع الثالث من الفراغ فهو نقصان التفاصيل، أو الوصول إلى الصورة اللامكتملة في أبهى تجلياتها. في لوحات سورياليّة يسكنها ضجيج التفاصيل، يبحثُ المتفرّج عن الناقص في قلب الممتلئ، فاللوحة بألوانها الحادّة هذه المرّة وثقل تفاصيلها التشكيليّة من مشمولات ايروتيكيّة ونفسيّة وطبيعيّة (السمك، الحمام، الزهور في الأصص، الديك، الأعضاء المبتورة إلخ) لا تعطي للمتفرّج مساحة يرتوي منها حتى النهاية، فاللوحات مسكونة بهاجس نقضان التفاصيل، وهو النقصان الذي يثبت حضورا دلاليا يعزّز انفتاح المرئي الضاجّ على التأويل: فالحزن مسكون بالأمل، والقاتم مسكون بالملوّن، والأسود مسكون بالأبيض والموت مسكون بالحياة، والغياب مسكون بالحضور.
تصبح ريشة صفاء سالم اسكندر وسيطًا بين الفكرة وغياب أو تغييب الفكرة، على حدّ تعبيره. فالغياب هو في حدّ ذاته، على حدّ تعبيره "النقطة التي تمحو، الهدف الذي تسيرُ إليه الفكرة، اللاوصول، أو تغييب أو ضياع الفكرة عمليًا".
هذا التّجوال بين الأفكار المغيّبة، يأتي عبر رسم المحو في العمق السوريالي والتجريديّ يخلقُ دهشةً، هو جوهر العمل الفنيّ، تتناسق فيه الألوان، تتنافر فيه التفاصيل، ويُعاد فيه تعريف الملاء البصريّ وعلاقته بالفراغ.
***
صفاء سالم إسكندر
من مواليد بغداد 1990.
حاصل على بكالوريوس علوم الكيمياء- الجامعة المستنصرية.
صدر له: (تنغيم سيرة الوردة -مجموعة شعرية) عن دار سطور-بغداد.
(طفولة چان) عن دار ومضة الجزائرية. (أغنيات لليوم التالي- مجموعة شعرية) عن دار النهضة العربية- بيروت.
(غرفة القارئ) عن دار الساعي- بغداد.
تُرجمت بعض نصوصه إلى الإسبانية، والإيطالية، والفارسية.