شكّل فنّ الحروفيّات عبر التاريخ الإسلامي القديم والحديث واحدة من أهم وأكثر التجارب جماليةً عبر مدوناتها الإبداعية والتغيرات التي طرأت على هذا الفن من تأصيل واستلهام الموروث إلى تفجيره تشكيليًا وابتكار طرز وتقنيات ديناميكية غير معهودة تقيم علاقات عميقة الصلة مع محتواها لتتلاحم معه حميميًا وينتج عن ذلك منتَج ذو طاقات تشكيليّة خلاقة قوامها الحرف.
يعودُ تطوّر فنّ الحروفيات العربيّ في حقل الفنّ التشكيلي إلى الرّغبة في تأسيس نواة هندسة تشكيليّة تجريبيّة قادرة على توظيف الحرف العربي وتثويره في حركة جريئة وواعية لقيمة الخطّ والقدرة الكامنة على تحويله إلى ممارسة فنيّة قادرة على مغازلة الحقول المعرفيّة الأخرى ومراكمة تجربة قادرة على بثّ طاقات تشكيليّة ابداعيّة روحيّة تتجاوز الزخرفة والبعد الأحاديّ وتفتح الحروفيّات على كرنفاليّة تناصيّة ديموقراطيّة.
يشكّل الفنان العراقيّ مرتضى الجصّاني ظاهرة بارزة في حضوره الفنيّ وعمله كحروفيّ تشكيليّ استطاع أن يشكّل بموادّه وعمله في فن الحروفيات التشكيليّ على انشاء مدوّنة فنيّة تشكيليّة نجح من خلالها في تقليص وتوسيع ومدّ وبسط الحروف في أعمال اصطبغت بصبغة تجريديّة تجاوزت مفهوم التقاليد والأعراف لهذا الفنّ. توليفة في غاية الدقّة بين الفن الحروفيّ والخط التشكيليّ التجريبيّ الذي يتبنّاه عبر ممازجة الحروفيّة بآلياتها الجماليّة- عناصرها اللونيّة وأبعادها الهندسيّة في المد والقطع والاستدارة والتكبير والتصغير، وتشكّلات الحروف أفقيًا وعموديًا وانحنائيًا- مع البُعد الثقافيّ-الفلسفيّ- الفكريّ- الحداثيّ في عمليّة تُخضع هذا الفنّ لتجريب متواصل قادر على ضخّ فوضى وانتظام جماليّين يحدثان هزّة في مفهوم المرئيّ والملفوظ.
لا ينفصل الجصّاني عن معمارية فن الخطّ العربي، لكنّه يتماهى مع أطروحة التجريب بصفتها ظاهرة ابداعيّة تحكمها الديمومة والمرونة في النفاذ إلى عمق الحرف العربيّ وقدرته على الإلهام والحركة، الكون والتقشّف، المدّ والجزر، وبالتالي توسيع دائرة الكلام عبر الاختزالات البصريّة.
في مجموعة حبر متمرّد(2017) يُطرح مشروع الخروج على قواعد الخطّ العربي وتتفوّق رؤية الجصّاني التشكيليّة على قواعد الخطّ العربي الصارم، حيث يتجاوز بعد الاهتمام بالجملة ولا تعود ذاتية الحرف-اللغة-الكلمات هنا خاضعة تماما لسيادة او سلطة نظام معرفيّ كلياني.
يتمثّل التوتّر والتنازع الحاصل في مشروع حالة تمرّد في نزوع الفنان نحو ممارسة جديدة لمفهوم الخطّ العربيّ وخروجه على التبعية لقوانينه الصارمة، فعوض الوضوح لجأ إلى التضبيب والغموض، وعوض المدّ لجأ إلى الاختزال، وعوض الشّرح والاتساع لجأ إلى الاختصار والتكثيف، وعوض قتل الحروف بإبرازها، لجأ إلى إبطانها بالزخرفة والتهجينات اللونيّة والهندسيّة وإحداث ثغرات بدلا من ملئها. يصبح الحرف جسدًا مغلقًا في رمزيّته، وبالتالي يخضع لميتافيزيقيّة محجوبة خفيّة بطاقات تأويلها، وهذا ما يفتحه أكثر على الفضول، حيث يصبح ال"شحّ" أو "التقشّف" دينامو العمليّة التشكيليّة، وضمان ديمومة سلطة الحروف – وبذلك يحقق في كنه مشروعه فكرة البصري والمقال، أي البصريّ التجريديّ والمقال الصوفيّ وبينهما نقطة لانهائيّة هاربة غير قابلة لتأويل بعينه يراها كل مشاهد من منطق مغاير. من هنا، تتجاوز رؤية الجصّاني في عمله التشكيليّ هذا تمثيل الخط متّجهةً نحو فن الحروفيّات كفعل كتابة جوهريّ مفتوح على سؤال التجريب الفنيّ.
ولربّما تنزاح هذه التجريبية نحو مسمّى تشكيليّ في منطقة يراها الجصّاني "رمادية بين الخط الكلاسيكي والتايبوغراف والتشكيل والتصميم وأزعم أنها منطقة غير مطروقة بالمرة ولغاية الآن لم أجد لها مصطلحا مناسبا". وهذه المنطقة الرماديّة التي يزاوج فيها الفنّان بحرفيّة عالية بين صلته العميقة بالخطوط العربيّة الكلاسيكيّة وأنواعها وتقنيّات التايبوغرافيّ في انتقاء الحجم والمباعدة والتباين بين الحروف وحساب النسبة الرأسية والارتفاع والعرض بما يتناسب مع تأصيل هويّة بصريّة للنصّ. هكذا يتحوّل العمل البصريّ الى لغة لا تقلّ في ثقلها عن النصّ المكتوب.
في مجموعة تواقيع (2018)، يقدّم الجصّاني رؤية عريضة وحداثيّة لهذه الرؤية، وفيها محاولة جريئة وحرّة في اختبار الحركة الديناميكية في سيكولوجية التوقيع وارتباطه بالمشاعر الذاتيّة. وفي مجموعة مكثّفة من التواقيع، ثمّة وضوحٌ عريض ومضبّب في القطعة الواحدة، اشتغالٌ على ألوان غامقة وباهتة، وخلفيّات لونيّة تُبرز سُمكَ التوقيع ومواطن قوّته وضعفه. يتحوّل التوقيع في كلّ مرّة الى عمل تفكيكيّ يبرز الاختلاف مع كلّ محاولة تكرار، ويمثّل الشخصيّات التي يحمل التوقيع أسماءها.
تكمن موهبة الفنّان مثلا في أعمال معرضه الموسوم ب مقامة الحب، وهو معرض شخصي أقيم في بغداد، المركز الثقافي العراقي عام 2019، حيث تشكّل ثيمة التنويع على كلمة (حب) والتعبير عنها برمزية كاليغرافية مع تكوينات مختلفة، إضافة إلى أعمال تعتمد على نصوص في العشق الصوفي، ركيزة هذا المعرض. لوحات يتمازح فيها البصريّ مع المقال مجددا ويظهر الأثر الفنيّ حاجبًا اكثر منه كاشفًا، يعاد تركيب الحبّ بأشكال لونيّة متمددة ومختزلة تتمازجُ فيها ألوان النار والعتمة والبياض، والخطوط الفسيفسائيّة للتعبير اللفظيّ تتجلّى فيه دهشة أونطولوجيّة رحبة بفعل الأثر الفنيّ. إذن، في عمله التشكيليّ يتّجه الفنان نحو تجريديّة شعريّة رديفة للرؤية الصوفيّة تُختزل فيها العبارة وتتّسع فيها الرؤية عبر قوّة البصريّ المتفاعل مع قوّة اللفظيّ.
تتجلّى أهميّة هذا الأثر الفنيّ في قدرته على عزل المفردة: حب، جوى، جنون، محبّة إلخ، عزلاً تامًا عن أي اتّصال بمفردات أخرى تقدّم لنا رسالةً في غاية الأهمية: وحدها الكلمة تقف ركيزة العمل- والفنان يخلق من حولها كرنفاليّة من الألوان والحركات الطويلة والقصيرة والمدّ والجزر الخطيّ، ما يحوّلها إلى كائن مفخخ بالرموز ومفتوح على رسالات عميقة دون حاجة لإطالة. هذه الحروفيّة التشكيليّة التجريديّة تدور في فلك العمل المجهريّ- العمل على أصل الجملة: الحرف وإبراز سلطته في تفجير المعنى إذا ما وقع فعل المساكنة بينه وبين عناصر ومواد لونية ورقمية ومؤثرات دقيقة تحجب جانبًا منه لتكشف جوانب أخرى.
هذا التكوين التهجينيّ الذي يدخل منطقة الوسط بحرفيّة عالية يتجلّى أيضًا في الحروفيات الراقصة التي يشتغل فيها الجصّاني على سيولة ثقافيّة عميقة تربط بين الخطّ العربيّ الذي يدوّن نصوصًا من الشعر الأندلسيّ في هيئة رقصات فلامينكو باستخدام تقنية الأحبار والديجيتال. سيولة تأخذ معها النصّ الشعريّ في رحلة دوران الجسد والتواءاته يضعنا أمام سطوة الجسد وسطوة الكلمة واتحادهما في كتل لونيّة صارخة واحتفاليّة تعيدنا إلى دفق وقوّة اللغة الثالثة المتكوّنة من اتحاد لغة الجسد مع لغة الحرف عبر وسيط التشكيل.
يهب الجسد الراقص لونيّة بصريّة وتتمازج معماريّتة الشعريّة مع دائرية ولولبية الخطّ بشكلٍ يحافظ على سريّة وغموض الفكرة الشعريّة من جهة، ويحتفي بكرنفاليّة صاخبة للجسد الراقص بهذه الأفكار في تنويعات الألوان وحركة الخطّ الحيّ مجددا.
ولا يتوقّف الفنان عن التشبث بهذه المرونة أو السيولة التشكيلية، فيه مجموعته: وهم، حيث يطرح فيها التعبير التجريدي الحروفي عن الوهم والإيهام البصري بتقنية الأحبار والإكريليك على الورق. تدخل المرونة في بعدي البصريّ واللفظيّ واللونيّ في هيئة تبسط لنا سطوة الإيهام البصريّ وتمدد الوهم في شكله الجميل، فيتجاوز حدود الإدراك المنطقيّ والتحكم، ويعيد تفكيرنا في وهم الصورة وتعريفنا لكيفيّة تصوّرنا للأشياء من حولنا- الكلمات والعبارات والوجود.
وقد تكون أكثر المراحل نضجًا نحو اكتمال الرؤية التشكيليّة نظريًا عند الفنان هي المرحلة الأخيرة (2023) في مجموعته الموسومة ب: شظايا، حيث يشظى الحرف والكتلة ويتطاير المعنى مجازًا، بتقنية الجرافيك على مخطوطات. بلاغة المادّة المصوّرة بصريًا، والمؤالفة بين القريب الأليف، والأليف المتشظّي، يمثّل لحظة انتشاريّة انفجاريّة تدعمها محفّزات كيميائيّة الألوان، وجهوزيّة الكلمة للطيران والانتشار في كل الجهات دون وجهة محددة. هكذا يتداخل الحرف في قلب اللون ليؤديا معا -كمنتج توأميّ آت من "أحماض نووية" مختلفة- وظيفة تحررية من هويّاتهما الأولية-الأولى. عوضَ الوقوف في مناطق الراحة التي يستقلّ فيها كلّ في حقله، يتجرأ الفنان على إقحامهما في المنطقة الثالثة الخطيرة التي يفقدان فيها صفاتهما الأولى لينطلقا في رحلة تحوّل بلاغيّة مجازيّة نحو التحرر. كلاهما مدعومان بظليّة ما تسترُ ما تبقّى من فكرة الحريّة وتترك العَين في مساحة التأمّل لفكرة التشظّي والانتشار.
هكذا، يبدأ مشروع الفنان العراقيّ الشاب مرتضى الجصّاني بخيط رفيع لكنّه واضح المعالم، ينسجُ عليه خيوطًا أخرى عمادها الألوان والحروف والمفردات بصفتها أجسادًا متحرّكة ومنزاحة في تقنيات قديمة حديثة، وهندسة معماريّة تشكيليّة تدخل في الكرنفاليّة التجريديّة، والصوفيّة المختزلة، وسيولة الجسد، وسطوة الايهام البصريّ، ومجهريّة المواد والعناصر، والشعريّة الانتشاريّة، لتصل بنا الى إضافة عميقة في هذا الحقل حول جماليات جديدة لفن الحروفيّات والطاقات الكامنة فيه على التواصل مع أسئلة عصره والتكيّف مع تكنولوجياته ليحدثَ انزياحات عريضة وجريئة تلعب في مساحة مستقلة يتفرّد فيها الجصّاني ويؤسس لغةً جديدة حيّة ومستقبليّة في حقل الفنّ التشكيلي العراقيّ والعربيّ.