
الذاكرة الجمعية الفلسطينية: موجهة نحو الحاضر ومنسية
بالنسبة للفلسطينيين المقيمين في فلسطين التاريخية ولمن يُطلق عليهم "اللاجئون الفلسطينيون"، لم تنتهِ نكبة 48 (الكارثة). تصوغُ هذه الذاكرة الهوية الفلسطينية، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل هو غياب السرد الذي استمر لعقود؟
تتناول نور سعيد بالتحليل العوامل التي تعيق المجتمع الفلسطيني ككلّ عن الاستثمار في الفنون، مع التأكيد على أهمية السرد وتوثيق التجربة الوطنية مقابل النسيان.
بينما الذاكرة هي مفهوم عادةً ما يقترن بالماضي، تُعدّ بالنسبة للفلسطينيين أحد العناصر الجوهريّة، إن لم تكن المركزية، التي تبلورُ هويتهم. غالبًا ما يُنسب شعب إلى دولة معينة، لكن الفلسطينيين يرتبطون كشعب بوضع إشكالي وكارثي في المقام الأول، يتمثل في عدم امتلاكهم لأرض تعادل دولة. هذا الفراغ المتواصل هو نتيجة الطرد وأشكال العنف الاستعماري المستمرة واليومية، سرقة الأراضي، التشريد، السجن، والقتل الجماعي، التي تلت أعظم حدث سياسي واجتماعي شهده المشرق عام 1948. بالنسبة للفلسطينيين، فإنّ عام 1948 لا يزال مستمرًا. وهذا يحوّل النكبة الفلسطينية من لحظة تاريخية أو من فقدان وقع في الماضي إلى فعل هوية: التغييرات المدمرة والوعي الصادم الذي خلفتهما النكبة في حياة ووعي الفلسطينيين لم يتم تجاوزه بعد.
يثير هذا الواقع تساؤلاً حول ما إذا كانت هذه الذاكرة، بتأثيرها على حياة الفلسطينيين المعاصرين، تحظى بالاهتمام الذي تستحقه، أم أن غياب السرديات على مدى عقود قد أسهم في تهميشها. بالنظر إلى المعاناة الهائلة التي لا يزال الفلسطينيون يواجهونها حتى اليوم، يهدف هذا المقال إلى معالجة مسألة النسيان كسبب محتمل لطمس القضية الفلسطينية وذاكرتها الجمعية.
فيما يتعلق بنكبة عام 1948، فلا يمكن تجاهل حقيقة أن الفلسطينيين هم شعب منقسم ليس فقط بفعل الأجيال، بل أيضًا بفعل أماكن الإقامة والمصائر. الفئة الأولى من الفلسطينيين التي يمكن تحديدها في هذا السياق هي الفلسطينيون المقيمون في فلسطين التاريخية، تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي، سواء في الضفة الغربية أو غزة، أو أولئك الذين أصروا على البقاء في أراضيهم ومنازلهم بعد قيام دولة إسرائيل عام 1948، على الرغم من اضطرارهم لتحمل جميع إجراءات الدولة الجديدة، التي أعلنت عن نفسها كـ"دولة يهودية" والتي خرجت حديثًا من كارثة شعبها.
الفئة الثانية من الفلسطينيين، الذين يُشار إليهم حتى يومنا هذا سياسيًا واجتماعيًا بـ"اللاجئين الفلسطينيين"، سواء كانوا في لبنان أو سوريا أو في دول أخرى، يعانون أكثر من غيرهم من الفلسطينيين. إذ بينما تكافح المجموعة الأولى للعيش في وطنها تحت وطأة الظروف القاسية المذكورة آنفًا جرّاء العنف الاستعماري في الأراضي المحتلة عام 1948 و1967، فإن المجموعة الثانية لا ينتمي فيها الفلسطينيون إلى أي دولة ولا يحملون جواز سفر فلسطيني (أو إسرائيلي) أو أي جواز سفر آخر يمنحهم أي حقوق مدنية.
لذلك، يمكن القول إن هاتين الفئتين من الفلسطينيين، أولئك الذين يعيشون داخل فلسطين التاريخية و"اللاجئين الفلسطينيين"، هم الأكثر قدرة على توثيق التجربة الفلسطينية، حيث إنهم يمثلون الفلسطينيين بغض النظر عن الجيل الذي ينتمون إليه، فهُم في مواجهة مباشرة مع الشّقاء المستمر وما زالوا يعيشون النكبة بشكل كامل. ومع ذلك، هناك نقص في السرديات التي توثق وتفصل تجربتهم الوطنية.
يمكن لدراسة العلوم الإنسانية والفنون بأشكالها المتنوعة أن تعزز فعل السرد، الذي يفتقر إليه المجتمع الفلسطيني نتيجة عاملين رئيسيين: الفقر والحصار، إضافة إلى الطبيعة المحافظة للمجتمع، وهي عوامل تحدّ من وعي المجتمع بأهمية الفنون وانخراطه فيها.
بالنسبة للمجتمع الفلسطيني، وعلى وجه الخصوص المجتمع المتواجد في فلسطين التاريخية التي تعاني من حصار اقتصادي وسياسي استثنائي، فإن الاستثمار في الفنون أمر بالغ الصعوبة. إذ أنّ مسألة تشجيع وحثّ الأبناء من طرف الآباء على دراسة الفن أو الأدب بشتّى تفرّعاته، هو أمرٌ نادر الحصول. في المقابل، نجد العديد من الآباء الذين يبدون رغبةً شديدة في أن يتّجه أبناؤهم إلى دراسة الطب أو الهندسة، على سبيل المثال لا الحصر (وهي تخصصات غالبًا ما تحظى بدعم أكبر بكثير من قبل المؤسسات الأكاديمية نفسها)، بغض النظر عن الشغف الذي قد يظهره أبناؤهم تجاه الكتابة أو العمل الدرامي أو المسرح أو السينما.
لا يختلف الوضع كثيرًا عند اللاجئين الفلسطينيين خارج فلسطين، وخاصة أولئك الذين يعيشون في مخيمات اللاجئين في سوريا أو لبنان، حيث تبدو الثقافة متشابهة ولكن الظروف أكثر تحديًا. وهذا صحيح بشكل خاص نظرًا إلى أن العاملين في مجالات العلوم الإنسانية غالبًا ما يحصلون على أجور أقل من الوظائف العديدة في المجالات الأخرى.
في هذا السياق، يجب التأكيد على الطبيعة المحافظة للمجتمع الفلسطيني كعامل ثانٍ يمثل عائقًا إضافيًا أمام ظهور القصص المروية كاملا أو الفنون بمختلف أنواعها وفي بيئات متنوعة داخل هذا المجتمع، ذلك لأنّ الفنون تتطلب بالضرورة بيئات مفتوحة لتزدهر.
ومع ذلك، يتم إيلاء اهتمام أكبر للسرد الفلسطيني والمحاولات التوثيقية لدى الفلسطينيين الذين يعيشون داخل إسرائيل. من المرجح أن هذا الأمر يتأثر بالأهمية الكبيرة التي توليها الدوائر الأكاديمية والمؤسسية الإسرائيلية للأدب والعلوم الإنسانية والجهود الفنية بشكل عام، لا سيما تلك التي تركز على الذاكرة الجمعية والسرديّة اليهوديّة كمقابل للسرديّة الفلسطينيّة.
ولا بدّ أن نذكر هنا أنّه على الرغم من أن الدعم المقدّم للفن والسرد الفلسطينيين ليس كافيًا، إلا أن العديد من الكتّاب الفلسطينيين والشعراء والباحثين والفنانين والكتّاب المسرحيين والممثلين الذين تدور أعمالهم ومشاريعهم حول القضية الفلسطينية والذاكرة الفلسطينية قد برزوا بين الفلسطينيين داخل إسرائيل، مثل ريم غنايم، شيخة حليوى، ريم بنا، باسيليوس بواردي، دلال أبو آمنة، وصالح بكري، على سبيل المثال لا الحصر.
الفئة الثالثة التي أودّ مناقشتها في هذا السياق هي فئة الفلسطينيين الذين عاشوا في الشتات على مدار أجيال وأصبحوا مواطنين في دول مثل أستراليا، كندا، الولايات المتحدة، والأردن وغيرها. على الرغم من أن الأجيال الجديدة من هذه المجتمعات الفلسطينية في الشتات تُظهر ارتباطًا عاطفيًا وثيقًا بأرض آبائهم وأجدادهم، إلا أن هويتهم الوطنية الفلسطينية أضعف من الفئات الأخرى فهم أقل احتمالًا لأن يكونوا وثيقي الصلة بالنكبة الفلسطينية، على سبيل المثال، لأنهم مواطنون في دول أخرى، منخرطون في أنماط حياة مختلفة هي في المقام الأول آمنة وأكثر ضمانًا لكرامتهم.
بصفتي فلسطينيّة قادمة من الضفة الغربية ولدي أفراد من العائلة يقيمون في الشتات (بعضهم ولد أصلا في الشتات) ويعيشون الآن في السويد، البرازيل، كندا، أو الأردن، يمكنني القول إنه على الرغم من "دعمهم لفلسطين" الذي يعبرون عنه عبر وسائل التواصل الاجتماعي وفي مظاهرات عرضية، فإن انخراطهم في القضية الفلسطينية يظل هامشيًا وعرضيًا. إنهم يعيشون حياة يومية مختلفة تمامًا عن تلك التي يعيشها الفلسطينيون المقيمون في فلسطين.
إجمالا أقول إنّه على الرغم من أن الذاكرة الوطنية الفلسطينية تمثل مثالًا واضحًا لذاكرة جمعية موجّهة نحو الحاضر والمستقبل، إلا أنها معرّضة لخطر النسيان والطمس بسبب عوامل الزمن، المتمثلة في تعاقب الأجيال، والمكان، المتمثل في ازدواجية الجنسية والشتات الذي يعيشه الشعب الفلسطيني منذ عقود. كثير من الفلسطينيين لم يعودوا فقط فلسطينيين أو فلسطينيين فعليين بالمعنى الكارثي-النكبويّ للكلمة، بينما يفتقر أولئك الذين هم كذلك إلى الحد الأدنى من الحياة الكريمة من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مما يعني أن توثيق أو سرد التجربة الوطنية إما خارج اهتمامات الفرد الفلسطيني الرئيسية أو ضمن آخر أولوياته.