تتكئ لوحة الفنانة التشكيلية نعيمة الملكاوي على حامل الألم الذي يلبس أحيانا جسدًا راقصًا والذي قد يخاله الناظر مرحا وفرحا، في حين أن واقع الامر ان حركة التمايل المتناغم في اللاتوازن حتى لا تنكشف عورة السقوط، فإبداعات الفنانة تضيئها انطفاءة الأرواح وهي في عزلة أمل خاص تقيم فيها الفرشاة المبضع مادام الأمل العام لا أمل له ولا فيه، فتمارس ذاك الارتداد الإحتمائي الفطري لثدي الطبيعة للتكفير عن عقوق النأي، دون تمييز بين روح صغيرة أو روح كبيرة، ولا تباين بين عمر ممتد أو عمر منكمش، هناك فقط مكيال غاية الابداع الذي تقبض على مجهره الفنانة وهي ترص مفردات العمل من خلال عملية التحجيم أو التضخيم.
تجميد ام تمجيد
المصوغ التشكيلي عند الملكاوي كناية عن سرد فني يسائل في آن ظل الانتفاض وضوء الرضوخ، لذا نجد حركة صراخ أشباه الشخوص تأتي تارة على شكل إيماءة خجولة أو كمون، وتارة أخرى على شكل نتوء أو تقهقر محتمية بدثار الشجر ملتحفة بجذوعه وأغصانه حتى يكاد يلتبس علينا المشهد إذ لا نعرف الحدود من يحتمي بمن؟ ولمن ينتمي حقيقة كل هذا الألم؟ وهل الفنانة بتجسيد هذه الأنة المشهدية تسعى الى تجميد أو تمجيد الألم؟
ففي غمرة الانهماك في النظر لمنجزها الفني، توقظ فينا عوالم الفنانة حاسة الانصات المبصر ،ويسائلنا هذا التجاور بين الأنسنة والطبعنة حتى نكاد نشك ان ذاك الالتحام ما هو في الواقع إلا مجرد انفصال، أو أن هذا الالتصاق مردّه شرود.
شجرنة الهامش
هل تسكن الأرواح المتعبة الشجر؟ هل الشجر بمثابة عازل للصعقة البشرية؟
فمن واقعية الألم إلى سورياليته نتعقب تجريبية تجربة الفنانة نعيمة الملكاوي في رحلة انتهاك لبكارة هذا السند التعبيري والذي لا تعتبره تأرجحا بل صيرورة ،فالإنسان المتعب وهو يرزح تحت وطأة الضعف الوهن والكدح، هذا الكائن الذي يعيش على الهامش خارج المجال البصري للحياة كان موضوعة لوحاتها والتي بتشخيصيتها -كمدرسة أولى امتطتها- منحت لملامحه المغيبة بالاسى منحة الحضور كاشفة في هذا الصدد:
" عبر الريشة الحركة والألوان كنت اقبض على حالات لأناس يعيشون على الهامش، وفي غمرة الحياة غالبية الأشخاص لا ينتبهون لمعاناتهم، فكنت أرسمهم لعلي أنصف أنصافهم الآدمية هذا الهم الإنساني لم يغادرني رغم نضج السنين و تطور تصوراتي الفنية التي مكنتني من كسب مهارات تقنية وخبرات فنية تؤهلني بالتعبير بأساليب أخرى او بالتحديد من خلال مدارس مختلفة كالسوريالية التي انعطفت إليها، فكلما توغلت في ملامسة الألم الجواني لهذا الكائن الآدمي من خلال التأمل في بواطنه وانقباضاتها الجوانية التي عكستها بحركة الأجساد المنتفضة في بعض اللوحات والتي تأخذ شكل الأنثى بجذوع تشبه أغصان الشجرة في اعمال أخرى، وما حضور الصورة الظلية الانثوية إلا لتجسيد الطبيعة الحبلى بالكائنات والمخلوقات التي هي في حركة دائمة، لذا تسكن لوحاتي تلك الشخوص الأنثوية الشجرية التي تكون في حالة راقصة او يخيل للمتلقي ذلك، فأي توقف لها هو نهاية حتمية للكون".
حميمية الألم
من قال إن الألم اغتراب؟
هل تفند إبداعات نعيمة الملكاوي التشكيلية هذا الادعاء بريشتها المحرضة على الحنين؟ فلا شيء يهزم المسافة أكثر من حميمية الألم، هذا ما تبوح لنا به ترسيماتها المحكية التي انبثقت بعيدا عن أثير الوطن، كل الآلام تتساوى قاب دنو من وريد الأفئدة؟ فالتداخل بين ازدواجية الفصل والوصل "المغرب-فرنسا" مكن من نسج وشيجة مع المومأ اليه في خطاب اللوحة الذي عززته خبرات خاصة مع اللون في تدرجاته التوليفية التي لامست دهاليز النفس البشرية عبر الغوص في الأبعاد والأعماق في محاولة إبداعية لاستنباط أبجدية بصرية، حيث تمت ترجمة الألم الى أشكال تعبيرية من خلال مقاربة جمالية، اذ تم تحويل الألم من شعور تجريدي إلى شعور بصري تعبيري شاعري ورمزي، هذا يدفع بنا لإثارة الذاكرة العاطفية للفنانة التي نتبين انطلاقا من فضائها النفسي الخاص تلك اليقظة الروحية التي تتمتع بها والتي يتم تصريفها بنفحة فنية غاية في الحساسية عبر اجتراح لوني مكثف للأسئلة حول منظومة الألم، واستنهاض إجابات تلبس هيئة شخوص وأجساد مشجرنة قد يُرمز بها لحوامل نفسية محتملة تستحث الإصرار على المواجهة الصمود والثبات، فإدراك الباطن واستهجان البارز لا يكون سوى لمنح الألم بعدا فنيا ووجوديا في آن، وبدون تسويغ أو تبرير إيديولوجي أو ثيولوجي لبلوغ الذات أو نفيها لكل قيمة أخلاقية، كمثل فكرة لا تحقيق للذات من دون جرعات من العذاب و منسوب حاد من المعاناة وبذلك نكون أمام تجربة تهذيب وتجميل لمنظومة الألم استيطيقيا.