عندما عرضَت نوريت يردين أمامي مشروعها "إقامة"، كان أول ما خطر ببالي هو أنها تبني متحفًا. لماذا متحف؟ لأن لديها برنامجًا منهجيًا، هناك مجموعة فنيّة، وهناك بحث وكتالوج وهناك معرض. بدءًا من عام 2015 ولثلاث مرات سنويًا، تسافر يردين للإقامة في مكان مختلف من البلاد في كل مرة. تعثر على شخص يكون حلقة وصل لها مع المكان، تأتي المكان بوسائل المواصلات العامة مزوّدة بحقيبة سفر، وتقيم في دار استضافة لمدة سبع ليالٍ متتالية. خلال هذه الفترة لا تغادر حدود البلدة. تُجري في البداية محادثات منسقة مسبقًا مع بعض السكان المحليين، كل محادثة لمدة ساعتين تقريبًا. ثم تتجول وتلتقط الصور. هذا هو البرنامج. تتضمن مجموعة متحفها نصوصًا لمحادثات مع السكان المحليين، سجلات خطيّة لانطباعاتها، وبالطبع صورًا فوتوغرافية التقطتها يردين أثناء تجوالها. تأخذ المجموعة بالتطوّر وفقًا لمنطق موجِّه محدّد جيدًا، وهي قابلة للفهرسة في كتالوغ بأساليب مختلفة. حيث أن كل فترة إقامة تحظى بكتالوغ خاص بها. الكتالوغات مصممة بنمط موحّد ووفقًا لمبنى ثابت: الصورة الأولى دائمًا لمطبخ الدار التي تمكث فيها، ثم بعض الاقتباسات من المحادثات التي أجرتها مع سكان المكان، ولاحقًا المزيد من الصور. يتم جمع الإقامات المتراكمة والكتالوغات التي أُنتِجت لها في أرشيف يمسح ويبحث ويقدّم أشكالًا مختلفة من الحياة في إسرائيل، من وجهة نظرها: مدينة، كيبوتس، موشاف تعاوني، موشاف زراعي، بلدة تطوير وهلمجرّا. مكتبة الكتالوغات معروضة على موقع الإنترنت الخاص بالفنانة كمشروع منفصل عن نشاطها الجاري كفنانة - مصورة. هناك تأطير خاص لمتحفها، أي تصميم غرافيكي مميز، بل له أيضًا منظومة توزيع في الشبكات الاجتماعية واللقاءات التي تُدعى إليها، والتي تعرّف الجمهور بالمشروع.
أنشئت في النصف الثاني من القرن العشرين، مشاريع آسرة تسمى متاحف الفنانين. أكثرها شهرة: "متحف الفأر" (1965-1977) للفنان كلاس أولدنبورغ ((Oldenburg) - وهو عبارة عن فضاء عرض منحوت في هيئة مهجّنة ما بين آلة عرض أفلام السينما ورأس ميكي ماوس من إنتاج شركة ديزني. عُرضت في المتحف أغراض مصغرة من أعمال أولدنبورغ إلى جانب ألعاب وهدايا تذكارية وأشياء وجدها أو اشتراها وعالج بعضها؛ "متحف الأدراج" (1970-1977) للفنان هربرت ديستل (Distel) – وهو خزانة أدراج ضيقة وطويلة كانت تستخدم في الأصل لتخزين خيوط الخياطة. رُتّب داخل الأدراج 500 عمل مصغر لفنانين مركزيين من تلك الفترة، وأُنتِج الكثير منها خصيصًا لغرض المشروع؛ و"متحف الفن الحديث، قسم النسور" (1968-1972)، المتحف الوهمي والنقدي لمرسيل برودثايرس (Broodthaers) الذي ضم اثني عشر جزءًا يتطرّق إلى المتحف الحديث، والمنطق الذي يؤسس له، وتقسيمه إلى أجنحة أو أقسام مختلفة.
كان استخدام مصطلح "متحف" في مشاريع أولدنبورغ وديستل وبرودثايرس بطبيعة الحال نقديًا. في متحفَي أولدنبورغ وديستل، وجّه التصغير والسياق الجديد وإعادة إنتاج الأعمال نظرة حادة إلى تسليع العمل الفني واقترح قلبًا لعلاقة القوة بين الفنان وبين المتحف. بينما ربط برودثايرس الطبقة البيروقراطية الإدارية في المتحف، المسؤولة عن استراتيجيات التنظيم والفهرسة الهرمية، بعمل الفن الفعلي. إن الهجوم على المتحف الحديث، على فرضياته الأساسية وعلى الشروط التي تتيح وجوده، شهدت تحوّلاً إضافيًا عندما قام القيّم المعروف، هرالد زيمان، بصياغة وتعريف متحف مفاهيمي، عديم الفضاء الملموس، وموجود في ذهن القيّم. أمين المعرض. وقد سمّاه "متحف الهواجس". خطوة زيمان يمكن تفسيرها على أنها فعل خروج وانسحاب الفرد إلى داخل نفسه. لكن "متحف الهواجس" هو أيضًا
Claes Oldenburg | Mouse Museum and Ray Gun Wing
متحف الفأر لأولدنبرغ، من قناة متحف الفن الحديث في نيويورك على اليوتيوب
مشروع نوريت يردين "إقامة" يواصل منطقًا متسلسلا شكلانيًا يميز أيضًا مشاريع أخرى لها كمصورة. على سبيل المثال، سلسلة "على بعد خطوات" (2013)، أو مشروع الفيسبوك "زهور للسبت" (2012 حتى الآن). تصويرها الفوتوغرافي نموذجي - ينوّع ويصنف ويفهرس ويقارن. إنه يقترح إمكانية لتفكيك عُرى المتعارف عليه وإعادة تنظيم النظرة على البيئة التي من صنع الإنسان، بدايةً - بواسطة التركيب الداخلي لكل إطار تصويري، ومن ثم بواسطة السردية التي نشأت نتيجة التأمّل في أطر التصوير المختلفة في السلسلة والتواصل الذي تعرَض فيه. "وجبة عائلية"، كتاب فنانة نشرته عام 2007، مبنيّ هو الآخر بهذا الأسلوب. يتشابك في الكتاب معًا، التاريخي والمعاصر داخل تواصُل يبعث على عدم الارتياح. الروابط بين الصور المختلفة والتواصل المتشكّل منها يخلقان روابط بين الرغبة-اللذة-الشغف وبين العنف-الأسرة-الجنسانية-الطفولة. وبالتالي، فإن ممارسة يردين تشمل منذ سنوات تفكيرًا قواميًا خفيًا - تبحث وتوثّق وتعرض - يتوجّه إلى المشاهد المتأمّل ويدعوه إلى إكمال الفجوات ما بين الصور البصرية ونسج سردية منها. مثل المعرض تماما.
خلافاً لأولدنبورغ وديستل وبرودثايرس، والعديد من الفنانين الآخرين الذين تبنوا ممارسات فنيّة متحفيّة عن وعي - بمن فيهم مئير أغاسي، إذ ضم متحفه الذي تبلور مطلع تسعينيات القرن العشرين، أيضاً مجموعات أعمال لثلاث شخصيات ابتكرها - فإن مشروع "إقامة" لدى يردين لا يعلن عن نفسه كمتحف. والبعد النقدي الكامن فيه لا يهاجم المؤسسة المتحفية ولا البنية التحتية الثقافية التي انبثق منها. كذلك، فإن مشروعها ليس انسحابًا إلى داخل نفسها، مثلما في مشروع أغاسي أو زيمان، بل العكس. فهو يخرج إلى عراد، كيبوتس برعام، معالوت ترشيحا، متسبيه رامون، غسفيا، كيبوتس كفار مسريك، عكا القديمة، موشاف معاليه جمله، شفاعمرو، موشاف تيموريم، كفار تابور، إيلات وكيبوتس كفار عزه. إنه يسعى للتقريب وللتقرّب.
لماذا إذًا أصرّ على رؤيته كمتحف؟ ما نوعيّة هذا المتحف؟
العاميّة ضد الإسرائيلانيّة
خلال السنوات الثلاثين ما بين الحربين العالميتين، طرأ تغيير عميق في مجال علم المتاحف. كان أحد اتجاهات التفكير الجديدة أن المتاحف يجب أن تعرض الحياة اليومية. الحياة نفسها. فالتطورات السياسية والتكنولوجية والاقتصادية خلقت حاجة إلى تشديدات جديدة. فمن جهة، تطلّب الأمر توسيع نطاق زيارات الجمهور للمتحف وتنويعه، ذلك لأنه على الرغم من أنه كان مفتوحًا لعامة الناس، افتراضًا، فإن المتحف خدم بالأساس البرجوازية وقيمها. ومن جهة أخرى، بدأ في التطور علم متاحف مجتمعي.
كان التغيير في فرنسا نموذجيًا وارتكز على البنية الأساسية للفكر الإثنولوجي بشأن المتحف ودوره. يسرد ريموند دي لا روكا ميلا (de la Rocha Mille, 2009) تطور هذا التغيير ويتمحور في جورج هنري ريفيير (Rivière)، عالم المتاحف وعالم الأنثروبولوجيا والمدير الأول للمجلس الدولي للمتاحف (ICOM)، الذي شارك في ثورة فكرية فيما يخص مفهوم المتحف واقترح نموذجًا تصوريًا لـ "المتحف البيئي". إن الأساس الفكري الذي نما عليه المتحف البيئي وتطور يقترح على نحو مفاجئ أدوات لفهم عمل نوريت يردين أيضًا، الذي يجري بعيدًا عن فرنسا وبعد مرور 100 عام تقريبًا على الفترة المذكورة.
عمليًا، المتحف البيئي هو "متحف بلا جدران" يعبّر عن أشكال الحياة المحلية وتقاليدها. يجري فيه التشديد على بحث وتوثيق أشكال الحياة هذه، وعلى عادات المكان والشكل الذي تمثّل به تاريخ المنطقة. تجمع بنيته البحثية الأساسية بين التاريخ والإثنولوجيا فيما تستند إلى فرضيّة أن التاريخ يتجلّى في كل شيء وفي كل مكان. المتحف البيئي يعرض العنصر المحلي على محورين: متزامن، داخل المكان، أي أن المتحف هو المكان نفسه، وتعاقبي، حيث يعبّر عن بُعد الزمن.
نشأ نموذج المتحف البيئي، كما أظهر دي لا روكا ميلا، كنقطة تقاطع بين تأثيرات فكرية. أحدها لعالم الاجتماع والإثنولوجيا مرسيل موس (Mauss). إذ كان يشجع طلابه على السفر وتوثيق ثقافات مادية بعيدة، تصويرها وتسجيلها. كان النموذج الفكري للمتحف البيئي يقوم على العمل الميداني الذي يتضمن التوثيق المشدّد وإلغاء التسلسل الهرمي الجمالي، أي أن لجميع المحتويات نفس القدر من الأهمية.
بين التأثيرات النظرية المهمة الأخرى التي ساهمت في تطوير فكرة المتحف البيئي، كان تأثير كلود ليفي شتراوس (Lévi-Strauss). فقد عمل ريفيير وليفي شتراوس معًا في "متحف الإنسان"، وهو متحف أنثروبولوجي أسسه بول ريفي (Rivet) عام 1937، الذي أصبح رأس حربة الفكر المتحفي في فرنسا في تلك السنوات. لقد فهم ليفي شتراوس الثقافة على أنها منظومة من العلامات التي يجب تحليلها وفك شفرتها، أشبه باللغة، وفهمَ الإثنولوجيا كعلم بمقدوره تحليل اللاوعي الثقافي. العودة إلى القديم، البَدئي، البدائي، انطلاقًا من إدراك أنه ليس مرحلة تطور منخفضة أو دُنيا، بل مرحلة صحيحٌ أنها بعيدة زمنيًا (أو جغرافيًا) ولكن يمكننا التعلّم من خلالها عن المعاصر (أو المركزي)، كانت فرضيّة أساسية في المتحف البيئي أيضًا.
على هذه الخلفية، يمكن اعتبار نوريت يردين فنانة إثنولوجية. فهي تخرج إلى الميدان، تحقق، تتحدث مع السكان المحليين، تجمع البيانات والمعطيات والانطباعات وتوثّق. يظهر على غلاف كل كتالوغ، تحت اسم المكان الذي بحثته، مُعطى عن عدد السكان. كل غرض وكل مبنى وكل قطعة من المنظر الطبيعي أو النباتات تشكّل لديها علامة. الاقتباسات التي اختارت دمجها في الكتالوغ تظهر دون نسبها إلى المتحدث، وبالتالي تصبح مقولة أو ادعاء ذا صفة عمومية. إنها تبني سياقات تاريخية وجغرافية وسياسية واقتصادية وثقافية. على سبيل المثال:
"كان مبنى البلدية هو أول مباني عراد وبدأ منه المهندسون المعماريون بتخطيط المدينة بأكملها. عراد هي واحدة من المدن القليلة في إسرائيل التي تم تخطيطها مسبقًا بعناية. ساورت المهندسين المعماريين مخاوف من العواصف الرملية وظروف الصحراء القاسية، ولذلك بنوا الأحياء الأولى كمجمعات مغلقة ظهرها للصحراء" (عراد).
أو
"السكان في قريتنا مختلطون. يعيش فيها دروز ومسيحيون ومسلمون وعدد قليل من اليهود. منذ عام 1978، لم يتم تخصيص أرض للبناء في عسفيا. وحتى الذين يملكون أراضي خاصة في البلدة لا يحصلون على رخص بناء. يضطرون مجموعة سكان بأكملها على انتهاك القانون، فضائقة الأراضي هنا شديدة" (عسفيا).
تظهر النصوص في كل كتالوغ بثلاث لغات: العبرية، العربية والإنجليزية. بذل الجهد في ترجمة وتحرير لغتين إضافيتين إلى جانب العبرية، مرتبط بحقيقة أن لغة السكان المحليين في بعض أماكن "الإقامة" هي اللغة العربية، ولكنه يشير أيضًا إلى تفكير مرحّب يميز عدد من المؤسسات في إسرائيل، بما في ذلك أيضًا متاحف. الاقتباسات، بحسب نوريت يردين، توثيقيّة ولذلك فهي متحرّرة من الحاجة في تمثيل المكان بالصور "مثلما يبدو عليه". وكما تقول، فإن صورها تقوم على ثلاثة مبادئ: الأول، التجوّل؛ الثاني، صورة دافعها الانطباع من دون أن تروي بالضرورة شيئًا عن المكان؛ والثالث، على الأحاديث التي أجرتها مع السكان (فهي تبدأ بالتقاط الصور فقط بعد لقائها مع الناس والاستماع إليهم لساعات طويلة، وبالتالي فإن التصوير يتأثر بالضرورة بما سمعته). هذه المبادئ تجعل من عملها تحقيقًا فنيًا مرسّخًا في التجربة الشخصية.
إلى جانب ذلك، فإن اختيار التصوير الفوتوغرافي النموذجي، ذي الطابع التحقيقي والوثائقي بطبيعته، يمنح الصور مكانة الشهادة، ومثلها مثل الاقتباسات، يجعلها أيضًا ذات صفة عامة. علاوة على ذلك، يستحضر مشروعها البعد الشخصي باعتباره سياسيًا. وهو يكشف عن أوجه القصور، الغبن التاريخية، والتوترات المتأصلة داخل البلدات وفي علاقاتها مع الدولة. فسكان إيلات، على سبيل المثال، وفقا لأقوالها، يعانون من انقطاع عن الدولة أكثر من أي بلدة يهودية أخرى زارتها، بسبب صعوبات الوصول إلى وسائل المواصلات والطيران التي تربطهم بالمركز. إنهم يتحدثون عن "إيلات" و"الدولة". هكذا تعمل يردين في مشروعها على رفع مستوى الوعي حول ما يفترض أن تفعله السياسات السياسية-الاجتماعية الإسرائيلية لكنها أهملته منذ عقود من الزمن – وهو الاصغاء والاستجابة لجميع السكان على أساس متساوٍ، وخلق تواصل جغرافي وثقافي بين المركز والأطراف، واحترام مختلف التقاليد الثقافية والمادية التي نمت وتتعايش جنبًا إلى جنب في البلاد. وكأنما رضعت مبادئ الفكر التي شكلت النموذج المتحفي لدى ريفيير، فإن يردين تكشف الهرمية الثقافية والجمالية الخفية وتعرضها في متحفها.
التجليات المادية للمتحف البيئي وكذلك المصطلح نفسه، يعودان إلى سبعينيات القرن الماضي، وتطورا بموازاة نمو تيارات جديدة في الفن، أدانت المؤسسة المتحفية وسعت إلى إبعاد نفسها عن القطعة الفنية بوصفها قطعة سلعيّة تجاريّة. ومتحف نوريت يردين يتغذى من كلا الاتجاهين معًا. الاتجاه الذي أنشأ متاحف الفنانين كفعل من أفعال نقد مؤسسات الثقافية والفن، والاتجاه الذي أنجب علماء متاحف وقيّمي متاحف أدركوا أهمية التقاليد والثقافات المادية العاميّة.
تُنسب الحقوق الفكرية لمفهوم العاميّ كما جرت العادة إلى المهندس المعماري برنارد رودوفسكي (Rudofsky) الذي قام بتعريفه وباستخدامه في العام 1964 في كتابه "عمارة بدون مهندسين معماريين". توسيع المصطلح فيما يتجاوز سياقات معمارية معناه تمثيل المحلي وفهم خصوصيه. حين نتأمّل بالتسلسل في الكتالوغات التي تؤلّفها يردين، نلاحظ إمكانية تنظيم المعطيات أيضاً بطريقة تخترق حدود البلدة التي يتناولها البحث. على سبيل المثال، يمكن وضع صور "الملعب" التي التقطتها في مواقع مختلفة جنبًا إلى جنب، أو صور "المطبخ" في بيت الإقامة. مثل هذا التنظيم لأرشيفها يسمح بتفسير "ليفي-شتراوسي" يتقصى مكونات الثقافة المادية ويحاول أن يستخرج منها مقولة عامة حول الإسرائيلية. لكن مثل هذه القراءة تُخطئ فهم جوهر متحف نوريت يردين.
فخلافاً لما يسمى عادة "إسرائيلانيّة" ـ أي التمثيل الثقافي لجوهر "الإسرائيلية" (التي مرت ببوتقة الصَّهر) حيث أن فرضيّاتها الأساسية قوميّة (ودافعيّاتها أحيانًا قوموية) - فإن متحف يردين عاميّ. إنه يشدّد بالذات على الشخصي، والعيني، وغير المتكرّر، ليعزز بالتالي خصوصيّة كل بلدة ومكان. مثلما في الرحلة التي قامت بها أنييس فاردا (Agnès Varda) في فيلمها "أشخاص وأماكن" (2017)، مع المصور JR في ريف فرنسا، فإن نظرة نوريت يردين على المكان الذي تلتقي به تتغذى أيضًا من الحوار. نظرتها تنجدل مع الشخص الذي يشكّل حلقة الاتصال ومع سكان المكان الذين يختار أن يرتب لها لقاء معهم. إن فرادة حدث الإقامة يبلور نظرة يردين على بيئتها، والتي على الرغم من وجودها فيها هنا والآن وتتحدث لغتها، تظلّ غريبة عنها.
استضافة
شعور الغربة يرافق نوريت يردين منذ الطفولة. حتى عامها التاسع، عاشت في باريس ولم تكن العودة إلى إسرائيل سهلة عليها، كما تقول. تحوّل المزيج المتناقض "القريب والغريب" دافعًا إبداعيًا لديها.
الشعور بالقرابة والغربة معًا يميّز وضعيات الضيافة بشكل عام. تنطوي الاستضافة على حساسية تزيد من حدة الوعي، لدى المضيف والضيف على حد سواء، لما يجدر فعله وما لا يجدر فعله ولـ "كيف تبدو الأمور عليه". لدى هوميروس في الإلياذة، وفي الأوذيسة خصوصًا، مسألة الإقامة (xenia باليونانية) هي أمر بالغ الأهمية لأنه ليس من الممكن التحرك في الفضاء إذا لم تكن هناك نقاط رسوّ يمكنك المكوث والإقامة فيها بأمان وإعادة الاستعداد للسفر. لذلك فهي عادةٌ بمثابة مؤسسة اجتماعية ملزمة تحمل أيضًا جوانب اقتصادية أيضا (مثل الزواج). المضيف مُلزم بأن يبتهج بوجه الضيف، وأن يوفّر له المبيت، والطعام، والحماية، وأن يقدم له هدايا وزادًا للطريق. الضيف، كما يوضح غبرئيل هيرمان، لديه هوية ثقافية أو اجتماعية مختلفة عن هوية المضيف. إنه ليس فرداً من عائلة أو ابنًا للقبيلة أو المدينة. وبالتالي فإن مفهوم الإقامة اليوناني القديم يقوم على حالة من التوتر، على الاختلاف والغربة المنضويين في واجب الصداقة الطقسية.
اختارت نوريت يوردان بشجاعة أن تؤسس مشروع "إقامة" على علاقات الضيافة، التي وإن كان لا يتم تنظيمها اجتماعيا كطقسٍ ملزم وهي ليست متبادلة كما في اليونان القديمة، فإنها شخصية وتخلق حيّزًا من القرابة والغربة. إلى جانب هذ، فإن المنطق المؤسِّس لمشروعها يستقي إلهامه أيضًا من مؤسسة فنية من نوع جديد، من برامج إقامة الفنانين التي تطورت في العقود الأخيرة بوتيرة متسارعة في إسرائيل وفي أرجاء العالم. الابتعاد عن البيت في هذه البرامج يُفترض به أن يتيح للفنانين تفرّغًا ويحثّ على مزاج إبداعي. وهو لا يعتمد على الضيافة الشخصية بل على بنية علاقات مؤسسية-مهنية، وفي كثير من الأحيان أيضًا على هيئات مموّلة. وهكذا، يقترح مشروع نوريت يردين بنية جديدة من العلاقة بين الإقامة والضيافة تضم كلاً من المستويين الشخصي والمؤسسي. ولهذا السبب تسميها أيضًا Sojourn "إقامة مؤقتة" وليس Residency "إقامة".
متحف نوريت يردين هو مبنى فكري وحقيقي وافتراضي يحمل منظومة من الأماكن والعلاقات والهويات. هذا متحف لفنانة مصورة تعمل كقيّمة وباحثة في علم الإثنولوجيا، وهي ضيفة ومضيفة في الوقت نفسه (لذلك من المهم بالنسبة لها أن يتم الانكشاف على المشروع ونشره من خلال اللقاءات معها) وتدعونا، نحن ضيوفها، أن نكون شركاء في شعور القرابة والغربة الذي ينشأ في اللقاء الشخصي بينها وبين مضيفيها. متحفها يؤكد لنا، على نحو متناقض، كم نحن غرباء عن أنفسنا وأيتام في دولتنا.
للاطلاع على المكتبة الكاملة في موقع نوريت يردين