الى ه.م.ب. و ل.م.ر.
أظنّ بأنّي لطالما امتلكت نسخة من كتاب باتريس برسيادو: "تستو جنكي: جنس مخدّرات والسياسة الحيويّة في العصر الفرمكوفورنوغرافي" (Testo Junkie: Sex, Drugs, and Biopolitics in the Pharmacopornograhic Era). وهي نسخة كنت قد استعرتها من مكتبة الجامعة1. وجدت رسالةً كنت قد كتبتها في حزيران 2015 وأرسلتها عبر فيسبوك إلى الفنّانة ن.ع، أشكرها فيها على أنّها عرّفتني على الكتاب. ما قالته هزّني ولم يعد يغادر رأسي- حكت لي عن كاتبة تستخدم التستوسترون في إطارٍ تجربة فلسفيّة تُجريها على نفسها، وتوثّقها في كتاب. مرّ بعض الوقت إلى أن عدت لقراءة الكتاب مجددًا. كان موجودًا على رف الكتب بجانب مكتبي العفويّ والفارغ الذي جلست عنده لأكتب رسالة الدكتوراه. وجدت أولًا النسخة الفرنسيّة من الكتاب. أخذتها وبدأت بالقراءة رغم أنّي كنت مدركةً بأنّ شبه الفرنسيّة التي أعرفها غير كافية، وهناك بالطبع نسخة انجليزيّة متاحة (في المكتبة التي أفضّل العمل فيها، توجد نسخ باللغة الإنجليزيّة لمونوغرافيات – حاجة أساسيّة بالنسبة لنا، مجموعة الأجانب، وشيء نادر في برلين، حيث كل شيء باللغة الألمانيّة)2.
وجدت نسخة باللغة الإنجليزيّة واستعرتها بشغفٍ كبير. منذ ذلك الحين والكتاب بحوزتي بعد ما لا يُعدّ من التمديدات والاستعارة من جديد. لا أنوي إعادة الكتاب إلى المكتبة، حتّى بعد أن أهدتني صديقتي العزيزة، الفنّانة ع.ل نسخةً بمناسبة عيد ميلادي الأخير. النسخ غير متشابهة، اسم پول ب. برسيادو (Paul B. Preciado) يزيّن الغلاف الأخير (2016)3. الكتاب الأوّل كُتب بيد امرأةٍ بينما الآخر منسوب لرجل. واحد مستعار وسيتحوّل قريبًا إلى مسروق، والآخر مُقتنى من شبكة بيع كتبٍ ووصل إليّ عبر البريد. في هذه السطور، أود أن أكتشف ما الذي هزّ كياني في هذا الكتاب. وأنا أهدي هذه السطور إلى ه.ب.م، زميلتي العزيزة ورفيقتي في أخوّية متتبّعات م.ب، وعلى شرف نشر كتاب تستو جانكو لأوّل مرّة بالألمانيّة. النسخة الألمانيّة موقّعة بأسم پول فقط.
سنخرج أنا و-ه.ب.م إلى رحلةٍ معًا، هي لأوّل مرّة وأنا للثانية. امرأتان متوافقات الجنس4 موجودات بعلاقات غيريّة الجنس، في رحلةٍ لاكتشاف العصر الفرمكوفورنوغرافي الذي نعيش فيه. إسماع الصوت الشخصيّ ضروريّ، والكتابة بضمير المتكلّم حيويّة. يملأني الفضول لمعرفة ما سيكشفه شكل هذه الرسالة المفتوحة.
ملاحظة حول الطبعة الرابعة
في ملاحظته على الطبعة الرابعة للكتاب، يفسّر برسيادو تغيير اسمه لپول، كما يظهر على الغلاف: "مثلما كان العبيد ينسبون لأنفسهم أسمًا جديدًا مع الحصول على حريّتهم، وكما أن أسماء القرى الفلسطينيّة ستتغيّر عندما يعود أولئك الموجودون في الشتات لينطقوا بها"5. إنما أين باتريس؟ تلك التي تعمّقت في قراءة كتاباتها وكشفت لي عالمي؟ قرى كثيرة في فلسطين تلقّت أسماء وهويّات صهيونيّة. إنما هل العنف المرتبط بتغيير الاسم من باتريس لپول، هو عنف بدرجة أقل؟ يدّعي برسيادو أنها ليست إلا "ممارسة أخرى من السلب والمقاومة". بالنسبة للمؤلّف "إعطاء الاسم هو حكاية رمزيّة أخرى فقط، جمعيّة في هذه الحالة. والآن يقع عليك واجب أن تمنحني حقّي في أن أرتدي هذا القناع."6
كيف يمكن أن نعقّب؟ الحكاية الرمزيّة لا يمكن التعقيب عليها أبدًا. تعلّمت هذا من جان دي لا فونتين، من حكاية الغراب والثعلب (Le Corbeau et le Renard). السيّد الغراب لا يستطيع إجابة السيّد الثعلب، الذي احتال عليه بالإطراءات الزائفة لجمال صوته، حتّى أوقع قطعة الجبن من منقاره. السيّد برسيادو لم يُزِل القناع، حتى لو نافقنا له واثنينا على جمال وجوهريّة صوت السيّدة برسيادو بالنسبة لنا. "الاسم الذي على الغلاف- وهو طريق ومحو ووعد في آن- تغيّر. عليكم أن تفهموا أن پول أشبِع وأخذ على نفسه كل ما كان في السابق ب.پ ".7
لكنّ شيئًا في هذا كلّه قد تغيّر. كتبت المقدّمة لهذا النص قبل أن أفتح كتاب بول. القراءة في مقدّمة الكتاب أعادتني إلى تلك الملاحظة التي قرأتها بعينٍ محبّة، ثم مجددًا بقلبٍ مغدور. لأن شيئًا جوهريًا قد تغيّر. وُجد فقدان يبكيني. تمامًا كما شعرت بالحاجة لأفهم ما الذي هزّني بهذه القوّة في كتاب باتريس، الآن عليّ أن أكتشف ما الذي يهزّني إلى هذا الحدّ في كتاب بول.
اصطدمت اليوم، صدفةً، بشيء ما، خلال القراءة الموازية: "في كل حالة اعطاء أسم، تندرج حالة إعلان عن موتٍ يتمثّل ببقاء الشبح، مدّة حياة الأسم الذي يبقى بعد الإنسان الذي حمله"، كتب جاك دريدا (Derrida)، الذي يفكّ رموز المالنخوليا أو الظلم المرتبط بتلقّي الأسم، "هذه استحالة امتلاكك لأسمك مجددًا". إنما هذا تمامًا ما يفعله برسيادو – يُعلن امتلاكه لأسمه مجددًا. إنما بفعله هذا، الأسم- الذي قد ارتبطت فيه، كما يرتبط المسكون بالشبح – لم يبق. وأنا أحتاج الأشباح. جميعنا نحتاج الأشباح. برسيادو تفتح الكتاب بتوجّه إلى الشبح، في الفصل الأوّل: "1. موتك".
باتريس بيرسيادو: Pharmacopornographic counter-fictions
في محاضرةٍ لباتريس، شاهدتها على الانترنت، توضّح برسيادو أنها لا تنوي إتمام الانتقال. "هي، هو أو ما ترغبون به" – هكذا تتعامل مع نفسها على المسرح، وتفسّر بأن ميشيل فوكو يُظهِر كيف أنّ التعريف التاريخيّ للرجولة المرتبطة "بالقوّة على احضار الموت، بتقنيّات الموت". ولهذه الأسباب، ضمن أمور أخرى، فهي لا تُجري "الانتقال التام للرجولة، رغم أني سعيت لهذه المكانة طوال حياتي". فهي تريد فعلًا أن يكون لديها القوّة لتؤدّي إلى الموت، ولكنّها "رغم ذلك، من ناحية سياسيّة، لا أريدها".8 في وقت تصوير المحاضرة، كانت برسيادو لا زالت ترفض أن تنسب لنفسها هذا الدور أو ذاك، لكنّ أقوالها كانت تنبئ كيف يجتلب تغيير الأسم إلى أسم رجلٍ الموتَ على روح المرأة التي أعطت روحها حياة. هل هناك ما هو أكثر نهائيةً من هذا؟ ما يحسم القدر أكثر من هذا؟ من البقاء الأبديّ للشبح؟ هل يمكن للروح أن تصمد في وجه تغيير الأسم؟ بحث آخر في كتالوج المكتبة عن "برسيادو، باتريس"، يكشف لنا "تكستو جنكي" (هكذا في الأصل)، تحت "برسيادو، پول ب". تحطّم قلبي. ليس لأنّ باتريس الإنسان يذهب الآن، يكتب، يحب تحت أسم بول، وهو ما أحترمه، إنما لأن الروح التي أحببتها زالت. سُلبت منّي قصرًا. بالنسبة لي هو تستو جنكي بقلم باتريس برسيادو بقلم پول برسيادو. في هذه اللحظة، فإن هذه هي القراءة الأولى بالنسبة لي أيضًا. هل صرت جنكي الأشباح؟
1. موتك
ومع هذا، ففي القراءة الأولى الجديدة للكتاب أتذكّر القراءة الأولى الأولى. السيرة الذاتيّة لبرسيادو قويّة وحاضرة كما كانت في القراءة الأولى. الأنا يعود في الزمن إلى "الأنا" التي تكتب كلمة "أنا".9
والآن، أنا –دون مزدوجين- أواصل كتابة هذا النص بعد أن مرّ وقت قليل، وحدثت وتحدث كثير من التغييرات. نحن في بداية عام 2018. أنا حامل والولادة متوقّعة في كل لحظة. أتعامل مجددًا مع مسألة الأسماء، ومن زاوية أخرى – تلك التي تمنح الأسم، وليس التي تتلقّاه، ترثه، أو تصطاده شبحًا. لدي إبنة مرافقة جديدة للرحلة، بينما ه.م.ب، التي تربطني بها اواصل الأخوّة، موجودة في نيويورك. يعتريها الفضول لتعرف ما سيكون اسم الطفلة التي ستولد. حاليًا سنسمّيها أ.ح حتّى نحافظ على خصوصيّتها ونبقي كل الإمكانيّات مفتوحة، قبل أن تترك الحيّز الخاص بها في الرحم وتنضم إلنا في عالمنا المشترك، الذي يُعطي الأسماء ويأخذها.
حصلت في الوقت ذاته على كتاب آخر: الآرغوناتوس (The Argonauts, 2015) لماغي نيلسون10. ومثل كتاب تستو جنكي، فإن هذا الكتاب يبدأ هو الآخر بمشهدٍ شرجيّ فيه أزبار اصطناعيّة. "كومة من الأزبار" هو المصطلح الذي استخدمته م.ن، بينما پ. ب. پ. تعدد "ربطة مع ديلدو واقعيّ مطاطيّ (9.5 على 1.5 إينش) وآخر أسود واقعيّ من السيليكون (9.5 على 2.5 انش)، وآخر أسود أرغونومي (5.5 على 0.7 إينش)"11 بالتشابه مع تستو جنكي، فإن الأرغوناتوس يبحث في التغيّرات. تستو جانكو يتتبّع التحوّلات التي يؤدّي إليها استخدام جيل التوسترون على الهوية، والتحوّلات التاريخيّة-السياسية- السوسيولوجيّة-الهرمونيّة في المجتمع، والتي أدّت إلى عصر الفرمكوفورنوغرافيا الذي نعيش فيه. الآرغوناتوس هو كتاب مذكّرات شخصيّة، يقوم على التداعيات، يمتلئ بالاقتباسات القصيرة من الفكر النسويّ، كتبته م.ن في سياق حملها. تبنّيته شاكرةً في ذهني المغسول بالحمل، الذي يميل إلى تعاطي الحياة، الجنسانيّة، الربائب، التبنّي والحب. يكمل هاذان الكتابان بعضهما البعض. پ. ب. پ. يتمسّك بالحقّ في الاختيار الذاتيّ للجرعات والإدارة الذاتيّة للمسار- وهي مهمّة يتولّاها الأطباء والمعالِجون النفسيّون غالبًا، وهم من يحددون للمعالَجين البروتوكول الطبيّ.12 م.ن حملت بواسطة تبرّع حيوانات منويّة من صديق، عندما كانت في علاقة حبّ مع الفنّان هـ.د. هـ.د اجتاز مسارًا طبيًا لتغيير جنسه. له ابن، حمل به وأنجبه في فترة ما قبل التغيير.
يقترح پ. ب. پ. و-م.ن مسارين للفظ الصلة بين العلاقة الجنسيّة والتكاثر. پ. ب. پ. ترفض الرحم والجزء النسائيّ في اعطاء الحياة، ردًا على الاقتراح النرجسيّ من صديقها الكاتب المثليّ ج.د – أن نصنع طفلًا معًا، كطريقة متمرّدة لاستخدام منيّه وبويضاتها في رحمها من أجل صناعة الربط النهائيّ بينهما. توفيّ ج.د. بقليلٍ من الجهد تنجح م.ن في أن تحمل من منيّ رجل آخر وتنجب طفلًا اسمه أ.، بالتعاون مع زوجها، هـ.د.
كتاب م.ن. لامس قلبي. كوني حامل، استطعت أن أتماثل معها ومع مشاعرها. رغم هذا، فإن ما هزّني جدًا في كتاب پ. ب. پ. كان حقيقة أنّه يصف عالمًا غريبًا عنّي – ممارسات علاقته الغراميّة المثليّة (هل يُحسب هذا مثليًا؟) مع و.د عندما كان يتناول ت. وهو يبتعد عن نسويّته البيلوجيّة، وهو ما أشعر به بمنتهى القوّة الآن – الظروف التي يحلّلها هي تلك التي نعمل، أنا وجميعنا في إطارها. كويريّة أو غيريّة، متقبلي جنسهم رجالًا ونساء، وكذلك المتحوّلين جنسيًا، وعمليًا الجميع.
وجدت نفسي أعمل تحت هذه الظروف منذ اللحظة الأولى التي تناولت بها الحبّة، انطلاقًا من القصد بإدارة علاقة غيريّة الجنس التي لم يكن مقصودًا أن تؤدّي إلى الحمل. بحسب ذلك أيضًا، حين أردت أن أقيم علاقة جنسيّة دون أي قصدٍ لدخول الحمل – وبالأساس سعيت إلى أن أحقق الـ "potentia gaudendi" الخاص بي، كما پ. ب. پ يصف إمكانيّة النشوة، قوّة السيطرة على الجسد الذي يستغلّه النظام الرأسمالي القائم لصالحه. ما الفرق، يقول، إن كان برغبتي أن أنيك نفسي، أو رجالًا، أو نساءً، أو سايبورغيين أو أي شيء كان؟ في عصر الفرمكوفورنوغرافيا الجنس يُفصل عن التكاثر، ولحظة الذروة ذاتها هي الأهم. هذا زمن العقاقير والفياغرا، والمزيد من الهرمونات والمساحيق الاصطناعيّة- من الريتالين وحتّى التستوستيرون. پ. ب. پ يفسّر العلاقة غيريّة الجنس التي أديرها كوسيلة للحصول على التستوسترون من الزوج – الهرمون ينتقل من خلال الجلد، من خلال الملامسة الجسديّة، كما تنبّه عبوة التستوجيل. حبّي، حبيبي، أب ابنتي المتشكّلة، هو مزوّد التسترون الخاصة بي، منظّم الهرمونات البسيط والطبيعيّ الخاص بي. منذ فهمت ذلك وأنا أتعامل معه بنعومة أكثر من المعتاد.13
2.العصر الفرمكوفورنوغرافي
تستو جنكي يتواصل كبحثٍ تاريخيّ نظريّ. بين فصلٍ وآخر، يقفز برسيادو بين الوصف الشخصيّ، وفيه كل الشخصيّات تُسمّى بحروفها الأولى، والمسح الدقيق الذي يتطرّق إلى مفكّرات ومفكّرين آخرين في حواشٍ كثيرة. يمكن أن نرى بصوت السيرة الذاتيّة احترامًا نسويًا يفضّل التجربة الشخصيّة على وجه الموضوعيّة العامّة المتخيّلة. ولكن ه.م.ب تذكّرني بأن برسيادو يعرض في المقدّمة ادعاءً آخر- مشاعره الخاصّة به ليست الأهم. يمكن أن نذكر أيضًا أن موروث الاعترافات في السيرة الذاتية، عند فلاسفة مثل رينيه ديكارت (Descartes) الذي بحث في إمكانيّة معرفة الحقيقة من أجل تأسيس المعرفة. خرج ديكارت في رحلة فلسفيّة تجريبيّة يحاول من خلالها أن يشك في كل شيء، إلى أن وصل في المحصّلة إلى الاستنتاج المعروف بأنه يفكّر، إذن هو موجود.14 هذا هو المبدأ الذي ينعته برسيادو لاحقًا ب"أرنب التجارب الذاتيّة"- الإنسان الذي يُجري تجارب على نفسه، كما فعل سيغموند فرويد بالكوكايين وولتر بنجامين (Benjamin) بالحشيش.
بما يتناقض مع هذا المبدأ، يكشف برسيادو تعهيدًا لتجارب هرومنيّة على أجساد مجموعات مستضعفة مثل الحيوانات في المختبر أو أشخاص يُميّز ضدّهم عرقيًا تحت النظم الكولونياليّة. إنه يكمل فوكو في بحث اركيولوجيا تكشف الأسس التي عليها نقف اليوم، أو ربما ننام بعدّة وضعيّات: "السيطرة البيومولكولاريّة (فرمكو-) والسيميائيّة التقنيّة (بورنوغرافي) للذات الجنسيّة"15. إننا نعيش داخل تطوير صناعيّ للانتصاب والتجاوب الجنسيّ، من خلال البورنو وتمكين الانتصال والتجاوب بواسطة الأدوية – منظومتان تتغذيان بشكل متكرر الواحدة من خلال الأخرى، وتنتجان ربحًا مضاعفًا واحدة من الأخرى.
تستو جنكي مصنّف غالبًا باعتباره نظريّة كويريّة. إنما ما يوضّحه هذا الكتاب هو أن التناقض بين الطبيعة والثقافة وبين كوير وستريت ليس له أي قيمة ما بعد الاستخدام السياسيّة كما يُمارس. في العصر الفرمكوفورنوغرافي كلنا كويريون. التمييز بين الجسد والروح يتحوّل أكثر تركيبًا. بعد "العلاج" في الجندر والولادة، يظهر أن الهدف القادم هو الموت. باتريس غير موجودة. يحيا بول؟
ن.ب. بعد الولادة، مرّ العضو الصناعي المريح هينريخ تغيّرات بمرور الزمن. من خلال تعبيره عن جوانبه الأمومية، تحوّل هينريخ الى هندريكا.
الـ پ أكبر من الـ ب.
تعقيب هانه م. بروكميلر
بشكلٍ مفاجئ- ورغم أنه لقائي الأوّل بتستو جنكي- إلا أنّ هذه المحادثة تعيدني بضع سنوات، قبل لقائك الأوّل، ميخال، مع برسيادو. في العام 2013، ناقشت إليزابيث فون سمسونوف (Samsonow) في16 واحدة من محاضراتها "عصر الفرمكوفورنوغرافيا": مصطلح وضعه كاتب اسبانيّ، باحث في دريدا، فوكو وباتلر. أتذكّر كم كانت صعبة، حتّى كتابة هذه الكلمات. بالنسبة للمعجم الخاص بي، لتاريخ الفنون الكلاسيكيّ، فإن الاصطلاح الجندريّ السياسيّ هذا يبدو غريبًا، وإن كان مثيرًا ويجتذب الفضول أيضًا. ما الذي يحدث هنا؟ قرّرت أن عليّ العودة إلى القضيّة، أو التقدّم إليها، وسجلت عندي بسرعة ملاحظة "العصر الفرمكوفرنوغرافي". أتذكّر شكل الكلمة، التي بدت لي غريبة حين كتبتها بخط اليد. فر-م-كو-بور-نو-غ-را-ف-ي. تفكيك الكلمة لعواملها كان الخطوة الأولى فقط، قبل خمس سنوات تقريبًا. أفكر ببطئ، أقرأ ببطئ، وأتعلم ببطئ: العام 2018، وأنا لا زلت أحاول أن أفهم ما الذي يحصل هنا. وحاليًا الأمور لا زالت تحدث. يحيا بول؟ تسأل ميخال. باتريس ليست موجودة. تقول. ويعود الصدى: دينغ دونغ، ماتت الساحرة! وأنا أسأل ردًا: "هل ماتت المؤلّفة"؟
أود أن أشارك بعض الأفكار، الملاحظات، الخربشات- أو بالأدق، نداءات اعتراضيّة. بما يتعلّق بفهمنا أنّ باتريس هي الآن بول، نبدأ بالسؤال: ما هو "مجرد حكاية رمزيّة أخرى" لدى برسيادو؟17 تعلّمت من أفيتال رونال بأنه بالنسبة لدريدا الحكاية الرمزيّة هي ابتداع حقيقيّ.18 من مرسيل بروترس أفهم أننا نتعلّم من الحكاية الرمزيّة، ونحفظها غيبًا، ونميّزها حتّى حين تكون أمامنا بضع كلمات منها فقط، بضع أحرف مطبوعة دون خيط يصل بينها. جان دي لا فونتيين يحكي حكاية الغراب والثعلب: الثعلب، الغراب، السيد. استنتاج بروترس: le D est plus grand que le T. إنما، عودةً لـ ب: فمِن حكايات مَن يجب أن نتعلّم المغزى؟ من هو مؤلف الحكاية الرمزيّة حول اعطاء أسم لشخص، لشيء، لمكان؟
"عليكم أن تفهموا" كنايته الجديدة هذه، كنايتها: يستخدم پول أمرًا صارمًا، عندما ينقل لقرّاءه درس تغيّره. لا مجال للتعقيب، ولا للسؤال طبعًا. هذه معلومة، وأنت توقَف في مكانك، بالمكان المخصص لك، على يد مؤلّف يدّعي الحقّ بأن تختار لذاتها، أو يختار لذاته لاحقًا، ولكنه لا يعطي هذا الحق لقرّاءه. أشعر بعدوانيّة ما كنت قد واجهتها على طول الكتاب. برسيادو يستخدم ثروة لغويّة خشنة وحادة وبذيئة، خاصةً في مقاطع السيرة الذاتيّة من الكتاب. ميّزت ذلك، وقد عطّل ذلك القراءة وطرح سؤالًا: لماذا يحتاج\تحتاج برسيادو العنف طوال الوقت، حين يحكي أو تحكي قصّتها؟
على أي حال، تساءلت إن كانت اللهجة العنيفة تُستوعب أكثر عدائيةً حين تُنسب إلى أسم رجوليّ. هل تستطيعين الإجابة، ميخال؟
كقارئة جديدة، توقّفت عند جملة واحدة في المقدّمة: "لست معنيًا بمشاعري أكثر من كونها مشاعر لي، تخصّني أنا فقط". استحوذ هذا التصريح عليّ فورًا: لماذا يفحص برسيادو ما الذي يخصّ برسيادو وما الذي لا يخصّه؟19 ألم يكن من المنطقيّ التوقّع بأن شخصًا يستخدم التستوسترون لقيادة اختبار20، معنيّ أو غير معنيّ أولًا وأخيرًا بذاته\ا وبكل ما تحتويه هذه الذات وما يصمّمها. عمليًا، هذا تقفّي للأثر، بحث ورحلة اكتشاف لما هو خارجيّ لمشاعرنا؛ ما يأتي من الخارج ويقطعها، ما يتحدّى حدودها. الخارجيّ هو المحور، ما لا نستطيع التحكّم به.
ويطرح ذلك اتجاهين للتفكير:
الأمر الأوّل، من المدهش أنه، وفي حقبة فيها نحن وكل الأشياء تُعرّف بواسطة الملك الخاص، شخص يدّعي أنه مهتم بما لا سيطرة له عليه. الموضوع ليس الملك (possession) وإنما إلغاءه، غيابه. هل سيأخذنا الكتاب إلى بلادٍ دون ملكٍ خاص؟
ثانيًا، وهذا ردّي إليك، م.ب.ر، جنكيت الأشباح بتوكيل من نفسك، الأسم شيء حيويّ عندما نتحدّث عن الملك. ليس لك ملكيّة على أسمك، ومع هذا فإنّك تنسبينه إلى نفسك. ليس فيه أي شيءٍ فردانيّ، ومع هذا فإنه شخصيّ. أنت تختارينه. يجب توخّي الحذر حين يُبدّل أسم: يبدو الأمر خطيرًا. مؤلّف الظلال يُمسك بزمام الأسم. يُسيطر عليها وعليه من بعيد بواسطة الأسم.
أنا أعقّب، أحاول أن أجيب، أو بالأحرى أحاول أصطاد أفكارك على الفور بعد أن رأيت حروف أسمي، واقرأ جملتك التي تصف كيف سمّيت أ.ح "أ.ح" حتّى تحافظي على خصوصيّتها، وأنا اتساءل: ما الذي توفّره الحروف؟ ما هو سرّها؟
لا شكّ في أنّها تفرض أجواء حميميّة مهنيّة، نوع معيّن من الحماية، شيء ما يُبحر في الحيّز الكونيّ، العموميّة والمجهوليّة. العديد من المثقّفين يضيفون بشكلٍ غامضٍ حرفًا ثالثًا لأسمائهم. كأنما ثقل الحرف الثالثة يثبت ثقل الأفكار.21 على طول الكتاب، باتريس أو پول يدافعون عن خيار معروف. في لعبة الغمّيضة هذه، اصطدمت مؤخرًا بقصّة الرسالة المسروقة (The Purloined Letter) لإدغار آلان بو.22 في هذه القصّة، الحرف د. يخبّئ أسم إنسان – الكاهن د. – فيما أوغوست دوبين (C. Auguste Dupin) الذي يحقق في قضيّة الرسالة المسروقة، يظهر بأسمه كاملًا. يظهر أيضًا في أسم دوبين تلك الحرف الثالثة، الممتلئة بالانتلجنسيا: "C" غامضة. القارئ يُمنع من معرفة أسم الكاهن الكامل، المتّهم بسرقة الرسالة. يبقى شخصيّة مؤسساتيّة، تمثّل منصبه، وليس فردًا عينيًا. هل يحميه الحرف د. أو أنّه يُبرز التُهمة؟ بيدنا، نحن القرّاء، أن نعبّئ الفراغ الذي يخلّفه أسم الكاهن د.، أو أن نحافظ على هذا الفراغ القائم بين الوجهين الأخلاقيين للبراءة والاتهام. إنما بعد صفحات قليلة، آلان بو يبدأ باللعب مع الـ د.، فيسأل، ويلعب، ويطلب فكّ الرموز ( “D-cipher”*)، إنه يثير، يوسّع ويفحص إمكانيّة أن تخبّئ إنسان من خلف حرفٍ أو اثنين أو ثلاثة23. قرأت الرسالة المسروقة تجهيزًا لمحاضرة أفيطال رونال. أسبوع بعد أن تحدّثت عن بو، ناقشت برسيادو واستخدمت بكناية ب.پ كبديل لأسمه أو أسمها، اسم المؤلّف\ة. ب.پ . فتحت دفتر أرقام الهاتف24 للإجابة على هذه المسألة، وسأسأل: إلى من أتوجّه حين أستخدم حروف أسمك؟
جيلنا يقترح اختصارات كثيرة. پول ب. يستخدم باتريس كاختصار، كحرف أخرى. لا يغيّر أسمه إنما يقصّر أسمها ويلصقه لأسمه. يمكن أن نسمّي هذا تحوّل جنسيّ، تحوّل mtf أو ftm.
- 1. Beatriz Preciado, Testo Junkie: Sex, Drugs, and Biopolitics in the Pharmacopornografic Era, trans. Bruce Benderson. New York: The Feminist Press, 2013
- 2. Paul B. Preciado, Testo Junkie: Sex, Drogen und Biopolitik in der Ära der Pharmacopornographie, trans. Stephan Geene. Berlin: b-books Verlag, 2016
- 3. Paul B. Preciado, Testo Junkie: Sex, Drugs, and Biopolitics in the Pharmacopornografic Era, trans. Bruce Benderson, 4th ed. New York: The Feminist Press, 2016
- 4. "سيسجندر" (cisgender) مفهوم يصف علاقة توافق بين الجندر الذي يوضع الانسان تحه عند ولادته وبين الجندر الذي يتماهى معه. حول العادة التمييزية المتمثلة بتحديد الجندر عند الولادة شاهدوا برسيادو تتحدث لتيري تيمبتز (Thaemlitz) حول رفض التماهي مع الأعضاء الجنسية المعطاة: Beatriz Preciado fighting the binary
- 5. Preciado (2016), note on the fourth printing
- 6. ن. م.
- 7. ن. م.
- 8. Beatriz Preciado, "Pharmacopornographic counter-fictions." https://vimeo.com/95171189
- 9. حتى الـ"أنا" ليس فردانيًا ومع ذلك فهو فرداني بشكل أساسي جدا. الجميع يقولون "أنا" لكنني أكتب "أنا" كي أتوجه لنفسي فقط. هيجليمتدح هذه العمومية للغة بواسطة "أنا" في الفقرة 20 من مؤلفات موسوعة العلوم الفلسفية (Encyclopedia of the Philosophical Sciences, 1830). لتحليل هيجل
- 10. Maggie Nelson, The Argonauts. London: Melville House UK, 2015
- 11. العضو الصناعي الوحيد اليوم لديّ هو وسادة الرضاعة، غرض غريب سيطر طرفي في السرير، بحضوره الأخرق، ككينونة ثالثة أسميتها هـ.
- 12. See Preciado’s Benno Premsela lecture 2017
- 13. يخطر ببالي شعار "عناق قبل العلاج". اصطدمت به في كتاب تحضير للولادة، والذي كان فضائحيا هو الآخر، لكن في الاتجاه المعاكس: Marie F. Mongan, Hypnobirthing The Mongan Method: A Natural Approach to a Safe, Easier, more Comfortable Birthing. Health Communications, 2009
- 14. René Descartes, Discourse on Method and Meditations on First Philosophy, translated by Donald E. Cress, Indianapolis/ Cambridge: Hackett, 1998, 1637, 1641
- 15. برسيادو ص 33-34 في الأصل. لقد تجاوز فوكو حدودا نظرية في الكتابة الفلسفية حين وسع عمله الى البحث التاريخي والسياسي-الاجتماعي. ووضع مفهوم biopower – ادارة حياة المواطنين، والذي استبدل من ناحية تاريخية التهديد بالموت كوسيلة السيطرة الرئيسية للسيد.
- 16. Cf. Elisabeth von Samsonow, Anti-Elektra. Totemismus und Schizogamie. Zürich: Diaphanes
- 17. Preciado (2016), note on the fourth printing
- 18. Avital Ronell, Die Fabel von der Medientechnik: Unter meiner Aufsicht, in: Till A. Heilmann/Anne von der Heiden/Anna Tuschling (eds.): medias in res. Medienkulturwissenschaftliche Positionen. Bielefeld: transcript Verlag 2011, p. 207
- 19. “Ich untersuche nicht, was an ihnen [meinen Gefühlen] individuell ist, sondern was an ihnen äußerlich ist, was sie durchquert und was nicht mir gehört.” Presiado (2016), 11
- 20. Avital Ronell, The Test Drive. Champaign: University of Illinois Press, 2007
- 21. هذه المعلومة تجعلني ارغب في التنازل عن الحرف الثالث في اسمي، الذي اكتشفته مؤخرا فقط. لقد ورثته بالصدفة واستخدمه تقريبا فقط لكتابة نصوص مع م.
- 22. John P. Muller/William J. Richardson (eds.), The Purloined Poe. Lacan, Derrida & Psychoanalytic Reading, Baltimore and London: The Johns Hopkins University Press, 1988, p. 6, 8
- 23. Ibid, p. 21
- 24. Avital Ronell, The Telephone Book. Lincoln and London: University of Nebraska Press, 1989