يشير الاسم الذي تم اختياره لمعرض “The Color Line: Les Artistes Africains-Américains et la Ségrégation״ ("حاجز اللون: فنانون أفريقيون-أمريكيون وسياسة الفصل") الذي نظمه الناقد الفني دنيال سوتيف (Soutif) في متحف كي برانلي (Quai Branly) في باريس الى النضال المتعلق بحقوق السود في الولايات المتحدة. من جهة، يتعامل هذا العنوان مع الفنانين والفنانات الأفريقيين-الأمريكيين الذين يشاركون في المعرض في سياق مصطلح "حاجز اللون" الذي وضعه السياسي الأفريقي-الأمريكي فريدريك دوغلاس عام 1881، والذي صاغ مفهومه فيما بعد الكاتب وعالم الاجتماع الأفريقي-الأمريكي وأحد مؤسسي حركة ال- NAACP (National Association for the Advancement of Colored People)، و.أ.دو بويز (Du Bois) باعتباره المشكلة المركزية للقرن العشرين. حيث رأى دو بويز بأن العلاقات بين البيض وبين أصحاب البشرة السوداء في الولايات المتحدة، ولكن كذلك في أفريقيا وآسيا، هي مصدر صراعات مختلفة خلال القرن العشرين. من جهة أخرى، يتلخص حضور هؤلاء الفنانين في عنوان المعرض في ممارسات الفصل العنصري التي وجهت الأجندة الأمريكية بشكل رسمي منذ بداية القرن ال-19 وحتى سنة 1967. لهذا، يكفي اسم المعرض لكي نميز كيف تم حصر الفن الأفريقي-الأمريكي ودمغه في سياق أحادي المعنى- وكأن اثنية وقومية الفنانين والفنانات غير كافية لوضع تاريخ معين، لطالما ارتبط بجوهره في الولايات المتحدة بعصر العبودية، في مقدمة المنصة.
ما أعنيه بأن الفئات الاثنية والقومية المغايرة للفئات الكونية للغرب تنطوي دائماً على صراعات سياسية وعلى تسلسل أحداث تاريخية، وهي محصورة منذ البداية وتفتقد الى الحرية التي يحظى بها التيار المركزي الشفاف. وعليه يطرح السؤال لماذا، وعلى الرغم من هذه العلاقة المستعصية، كتب على جلن ليجون (Ligon)، هنري اوسفا تانر (Tanner)، ميكلين توماس (Thomas)، أهرون دوغلاس (Douglas)، هوراس ببن (Pippin)، اليزابيث كاتلت (Catlett) وديفيد هامونس (Hammons)، بعض الفنانين والفنانات الذين شاركوا في المعرض، بأن يتم حصر أعمالهم مرتين: مرة بسبب اثنيتهم القومية ومرة ثانية بسبب نضالهم ونضال مجتمعهم كسود في الولايات المتحدة؟
بينما يرمي العنوان الى حصر نضال السود في الولايات المتحدة في احد جوانبه- سياسة الفصل العنصري- يغطي المحور الزمني للمعرض ثلاثة قرون: فهو يبدأ في سنة 1865 وينتهي في 2014- أقرب حاضر كان بإمكان المعرض، الذي افتتح في اكتوبر 2016، أن يتطرق اليه. هذا التوتر بين الحدود الضيقة والخانقة وبين المساحات المفتوحة جداً حاضر كذلك في التعريف الفني للمعرض. حيث يصرح قيم المعرض بأنه وضع نصب عينيه هدفين: الأول، عرض أعمال هؤلاء الفنانين والفنانات أمام الجمهور الفرنسي الذي لم ينكشف عليها حتى الآن، وبالتالي البدء في سد الفجوة بين الجمهور الأمريكي والفرنسي فيما يتعلق بالفن الأفريقي-الأمريكي: والثاني، عرض رؤى فنية وسياسية معاً. مع ذلك، وبشكل غير مفهوماُ ضمناً في أيامنا، لا يشمل المعرض في التعريف الذي يطرحه ل"الفن الأفريقي-الأمريكي" الفن التشكيلي فقط بل أكثرمن ذلك. فالفن الأفريقي-الأمريكي كما يتم تعريفه في معرض "حاجز اللون" يشمل الشعر، السينما والكتابة. أي ما نسميه اليوم ثقافة بالمعنى الذي ترمي اليه وزارة الثقافة، وهو الأمر الذي لا يتماشى مع الفهم الحالي لمصطلح "فن". ربما كان بالإمكان القول بأن توسيع هذا المصطلح هو أمر مبارك ولكن توسيعه في السياق الحالي بالذات يشكل طبقة أخرى في الاشكالية المتواصلة للمعرض.
فيديو ترويجي لمعرض "حاجز اللون: فنانون أفريقيون-أمريكيون وسياسة الفصل"
التقسيم إلى فئات يتكلل بالنجاح عندما يطبق على بياض، على ذكورية أبوية وعلى مظاهر مختلفة للمغايرة. ينجح لدرجة أن غالبية من يتواجدون في هذه الفئات لا يشعرون البته بأنهم يتواجدون في فئة ما- لا سيما وأن جوانبها لا تضيق عليهم. بينما تجد النساء أنفسهن دائماً موزعات بين عدة فئات: جندر واثنية، جندر وطبقية، جندر وقومية. ويتشعب هذا التوزع أكثر عندما تحمل احداهن هويات اضافية: سوداء، فقيرة، مهاجرة، مثلية، متحولة وغيرها. الصعوبات التي تنبع عن التوزع أو التعدد الفئوي النسوي تنعكس في كثير من الأحيان في متطلبات الصناديق لتمويل الحراكات. هناك من يعتقد في هذه الصناديق بأنه ممكن أن نخرج الى حيز التنفيذ حراك يكون نسوياً فقط، طبقياً فقط، اثنياً أو قومياً فقط. لهذا، تضطر النساء صاحبات الهويات المتعددة والمركبة الى النضال بعدة محاور. فلأنهن لا يتواجدن في فئة واحدة ومحددة، يكون من الصعب بأن تلائم حراكاتهن الفئات المحددة في المنح المختلفة التي تقدمها الصناديق في إسرائيل وفي العالم.
على نحو مثير، حصلت في معرض "حاجز اللون" حركة عكسية تأخذ بعين الاعتبار الصعوبة التي يواجهها المبدعين والمبدعات السود في التموضع في حيز فني واضح، وفي الفصل بين الفني والسياسي وبين الشخصي والعام. ولكن اذا كان هذا هو السبب من وراء توسيع فئة الفن في المعرض، لماذا اذاً الاصرار على فنانين أفريقيين-أمريكيين وليس على ثقافة أفريقية-أمريكية على شتى مجالاتها؟ عدا عن ذلك، لماذا لا يتضمن المعرض نفسه أي تطرق لهذة المسألة؟ لماذا عندما يكون من المفترض بأن يتم تناول الفن الأفريقي-الأمريكي تصبح المنصة متداخلة المجالات بهذه الدرجة؟ كيف حصل بأنه في الدولة التي ما زالت تشدد على التقسيمات الصارمة في الفن، ومثله في الأكاديميا، تخترق الحدود بالذات في هذه اللحظة ومقابل هذا الغرض؟ الحديث عن الثقافة تفوح منه رائحة كولونيالية ويمكننا أن نخمن بأن قيم المعرض أراد تجنبها ولكن من الصعب بألا نفترض بأن الأجوبة لكافة هذه الأسئلة تتعلق بهوية الفنانين والفنانات وكذلك بالموضوع المطروح والذي يعنى بالفصل العنصري.
عدا عن ذلك، فإن غياب أي تطرق مباشر لاختيار القيم غير المفهوم ضمناً تسمية الثقافة فناً، يجعل المعرض محيراً. فمن تصل اليه للتعرف الى الفن الأفريقي-الأمريكي لا يمكن ألا تشعر بأن الأعمال نفسها تتحول فيه الى نوادر فنية ترافق الرواية التاريخية التي يحاولون حكايتها لنا. هكذا، على سبيل المثال، يتم التعامل مع عمل هامونس، “Air Jordan”، كمقدمة فنية لمكانة السود في ثقافة الرياضة الأمريكية، أما عمل ويتفيلد لوفل (Lovell)، "مؤلف العالم" (Autour du monde)، فيتوج النقاش حول الحرب العالمية الأولى وتجنيد السود للجيوش الاوروبية والأمريكية.
في ذات الوقت، فإن الوعد بتقديم فن أفريقي-أمريكي في الأدب، السينما، التصوير و"الفنون الجميلة" (ترجمة من الفرنسية Beaux Arts) لا يحقق ذاته، فمعظم الفن الذي يعرض، في اطار الرواية التاريخية الواسعة التي تطوق المعرض، هو عملياً "فن جميل". العلاقة بين الفن وبين المجالات الأخرى أبعد من أن تكون متساوية، لهذا فإن الزائر يشعر في نهاية المطاف بأن الوعد بتقديم تعريف عام للفن كثقافة لا يتحقق هو الآخر عملياً. كذلك في المساحة التي تختتم المعرض والمخصصة للفن الأسود المعاصر فقط (وليس لموضوع تاريخي أو سوسيولوجي فرعي)، لا شيء يجمع بين الأعمال المعروضة سوا المحور الزمني الواسع- 2014-1964. "علم أفريقي-أمريكي" (African American Flag) لهامونس، "ديلوكس" (DeLuxe) لالن جالاجر (Gallagher) و"مصدر العالم" (Origin of the Universe) لتوماس تعرض جنباً الى جنب في مساحة صغيرة نسبياً ولكن حتى في هذه المساحة لا شيء يسمح بإيجاد رابط بينها يتعدى السواد. كما يرمز عنوانه، يتطرق عمل توماس الى عمل غوستاف كوربيه (Courbet) المعروف ولكنه يستبدل الجسد النسوي الأبيض بجسد أسود والعالم بالكون ويثير بهذا سؤال امكانية تواجد العالم الغربي الحديث دون استغلال السود في المستعمرات وفي الولايات المتحدة.
هناك عدة أجوبة ممكنة للعملية التي جرت هنا وسرقت الصدارة من الفن الأفريقي-الأمريكي وحبسته بين مصطلحين منذ اللحظة الأولى- منذ اختيار اسم المعرض. أولاً، هناك السياق الفرنسي حيث يشكل عرض فن أفريقي-أمريكي أمراً جديداً، وهناك حاجة، وربما حتى ضرورة، لحكاية قصة أوسع ربما من خلال هذا المعرض وتحويله الى معرض تربوي بمعنى ما ليستطيع خدمة التلاميذ في فرنسا- لا سيما وأن الاستخدام النقدي لمصطلح "عرق" لم يذوت في الوعي هناك. أما ثانياً، فهناك سياق المتحف نفسه: متحف كي برانلي، وهو متحف للفنون والثقافات من آسيا، أفريقيا، جزر المحيط الهادي وأمريكا، لا تجربه لديه في تنظيم معارض "للفن الجميل"، على حد قوله، وانما بالأساس معارض انثروبولوجية-تاريخية.1 عدا عن الأسباب المادية والعينية التي تخبأها هاتين الاجابتين بين طياتهن، هناك الغرض نفسه، "حاجز اللون"، والذي ينطوي تجاهله وتجاهل النتيجة التي آلت اليها محاولة التعامل معه على تجاهل لحمل الرجل والمرأة السود والذي، من ناحية الكينونة السوداء ونضال السود، ليس أمراً بالإمكان الانعتاق منه. فالنضال لا يفارق الاسود او السوداء بغض النظر عن ارادتهم، لهذا فإن أية قراءة لهم بمعزل عنه، بمعزل عن التاريخ والسياسة السوداء، تصبح عاقرة.
صحيح بأن المعرض يشرح عبر النصوص المختلفة التي ترافقه بأن هناك ميراث نضالي حاضر على طول المعرض ولكنه لا ينجح في تحقيق توازن بين وصف النضال وبين الأعمال الفنية. بكلمات أخرى، يبدو من الواضح بأن هذا المعرض قد خصص مكانة أقل لأعمال الفنانين والفنانات، على معانيها المختلفة، بينما جاء التركيز على مكان الأعمال نسبة للنضال الأسود في الولايات المتحدة فقط. في معظم المساحات، تعلق أعمال الفنانين الى جانب أعمال أخرى، من أعمال انفوجرافيك لدو بويز، مروراً بكتب جيمس فلدون جونسون (Johnson)، تشارلز فادل تشسنات (Chesnutt) ودوغلاس، وانتهاءا بالمجلات التي يتصدر أغلفتها حراك "Black Lives Matter״ وعائلة اوباما- وهي أغراض تشرح السياق بطريقة لا تسمح للزائر بالوقوف والتفكير بالفعل الفني لذلك الفنان او تلك الفنانة انما فقط بقراءة أعمالهم من خلال النضال. وكأن دور العمل الفني هو تزيين النضال، وكأنه ليس إلا طبقة أخرى في المعرض الذي أراد الحديث عن اللون وحكاية قصة السود في الولايات المتحدة ولكنه بحث عن زاوية أخرى لاستحضار الرواية عدا عن الأغراض التاريخية.
لا تنتهي المشاكل هنا. فعرض العنصرية كجزء من ذلك الدرس الذي يقدمه لنا المتحف عن اللون كان مزعجاً بدرجة لا تقل عما ذكر حتى الآن. هكذا مثلاً يخصص في المساحات الاولى للمعرض حائط كامل لرسوم “Blackface” الكاريكاتيرية التي تسخر من الغرض الأسود، والتي تتواجد هنا لأسباب تربوية كغرض علينا النظر اليه. كيف شعر الزوار السود الذين أتوا الى المعرض وكان عليهم الوقوف مقابل رسوم كاريكاتيرية لرجال سود، مقابل صور لرجال بيض يضعون المساحيق ليبدوا كالسود؟ هل شعروا بأن هذه النظرة قد أصبحت في عداد الماضي أم أنهم شعروا بأن العنصرية الاستفزازية لتلك السنوات هي التي تسمح للعنصرية المتخفية بأيامنا بأن تستمر في العمل بكامل القوة؟
في مقالها "عرض العبودية"2 (Exposer l’esclavage) تنتقد الباحثة في مجال العبودية، ما بعد الكولونيالية والمتاحف فرنسواز فيرجيس (Vergès) الطريقة التي تعرض فيها العبودية في المتاحف المختلفة. في أعقاب معرض نظم في متحف كي برانلي عام 2011، والذي أصبح اسمه عنوان مقالة فيرجيس، يتطرق المقال لعمل فرنسوا اوغوست بيار (Biard)، "الغاء العبودية، 27 نيسان 1848" (L’Abolition de l’esclavage, 27 avril 1848). هذا العمل، كما تدعي فيرجيس، يظهر مرة تلو الأخرى في فرنسا على أنه يمثل العبودية. هذا على الرغم من أن الحديث في الواقع عن مشهد يصور بطولة الانسان الأبيض محرر العبيد- نفس العبيد الذين استعبدهم قبل لحظات والذين حرمهم من أي حق أساسي حفظ لأبناء وبنات الجنس الأبيض. عدا عن اختيار بيار لوصف المشهد، تتساءل فيرجيس كيف أصبحت هذه الصورة التي لا تكشف عن المنظومة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي تقف في صلب العبودية الى ممثلتها المرئية؟ ولماذا اختار الغرب اللجوء الى هذه الصورة بالذات، التي تعرض العبودية كأمر انقضى وولى، لكي يعرض العبودية؟
بالإضافة الى عمل بيار، تنتقد فيرجيس تصويرات أخرى للعبودية عندما تدخل هذه الى المتحف، من بينها انجازات سلالة العبيد وأدوات التعذيب والقمع التي استخدمت وكذلك المنتجات الاستهلاكية التي كانت حصيلة العبودية، مثل السكر والقهوة. في سياق المعرض الحالي تثير قراءة فيرجيس في الأذهان حقيقة غياب المتهمين، من طبقوا سياسة الفصل العرقي، من مارسوا العنف تجاه السود، تعاملوا معهم بعنصرية، سخفوا شخصيتهم، وكذلك علقوهم وقتلوهم. وجوه هؤلاء تبقى خارج المعرض، أما أسمائهم فتستبدل (بشكل غير كافي) بصور للعنصرية المباشرة والفظة، مثل ال- Blackface، والتي يصعب علينا هضمها اليوم، ولهذا فنحن نفضل أن ننظر اليها كأحد معالم الماضي المظلم. في هذا النطاق من الصور الخالية من المتهمين (التي كان من الممكن أن تكشف لنا الحقيقة المرة: بأن العنصريين والعنصريات ليسوا وحوشاً)، ومن التصوير المتكرر لذلك العنف بمعزل عن السياق الحالي، والى جانب الكثير الكثير من الأغراض عدا عن الأعمال الفنية نفسها، تتواجد الأعمال التي تعرض غالبيتها للمرة الأولى على أرض فرنسا، والتي لا تحظى حتى خلال هذه الزيارة بأن تعرض أولاً وقبل أي شيء آخر- كأعمال فنية.
اقيم معرض "حاجز اللون: فنانين أفريقيين-أمريكيين وسياسة الفصل"، القيم: دانيال سوتيف، في متحف كي برانلي بين 4.10.16 – 15.1.17.
- 1. منذ اقامته في عام 2006، خصص المتحف أربعة معارض فقط للفن. باستثناء أحدها، تمت ملائمة المعارض الثلاثة الأخرى، رغم تعاطيها مع الفن، الى الاطار الأنثروبولوجي-التاريخي للمتحف لا سيما وأنها ركزت على الخلفية الاثنية-الثقافية للفنانين وعلى علاقتهم مع الآخر.
- 2. Vergès, F.rançoise Vergès (2013). “Exposer l’Esclavage”, Africultures 91(1), pp. 37-40