تواري مَدينتين: بيروت وبرلين

ليلة واحدة في برلين، في فبراير الماضي، حدت بشارلوت بلايْشر إلى التفكير في العلاقة بين المدينتين: بيروت وبرلين. وها هي تكتب عن سيرورات الفُقدان الثقافي الجاري في كلتي المدينتين، وعن الأعمال الفنية المُناهضة لهذا الاضمحلال.

Advertisement

بيروت بُنِّية وبرلين زرقاء. أسطح بُنِّية، مبان زرقاء، صخور بُنِّية، نوافذ زرقاء، حافلات بُنِّية، قطارات زرقاء. يمكن تعريف المدن بخصائص معينة، ربما من خلال اللّون. ربما يمكن العثور على هذه السِّمات في شارعِ مدينة أخرى، ولكن، لسبب ما، لم تتحوّل الى علامة فارقة. ثمّة سقوف زرقاء في بيروت ومبان بُنِّية في برلين. إنها طريقة طبيعية لمقارنة محيطٍ جديدٍ بآخر قديم، والبحث عن الراحة في المألوف ومُعاينة المجهول. تساعدنا المقارنات والفوارق في التّنقّل بين المشاهد الطبيعية. ومع ذلك، بقدر ما يؤثر الانتماء الشخصي على التّلاقي، فهناك أيضًا علامات واضحة لماضي المدينة، لها صوتٌ مُحدَّبٌ خاصٌّ بها.

"على وقع خطاه، نهض المكان: بصمتٍ، ودون تفكير، قربه الحميمُ وحدُه يمنحه الوحيَ والطّريق."1 رواية والتر بينجامين عن فلانُويْر ، في كتابه مشروع الأروقة (1927-1940)، يصور ذاكرة المدينة معبّرًا عن ذلك من خلال هياكل ماديّة، عوضًا عن الإسقاطات محض الفردية أو الجماعيّة. ولكن ما الذي يحدث لذاكرة المدينة عندما تتوارى الهياكل المادية والاسقاطات البشرية في جوفها؟ هل التّواري ضرورة للتّجدُّد، وهل التجدُّد شرط مسبّق للتّقدم؟ كيف يمكننا الحفاظ على ذكرياتنا مع تجنّب الشّعور بالاغتراب والعُزلة في سياق التّغيير المجتمعي السّريع؟

 

unnamed1.jpg

مُنشأة "تواري برلين". تصوير آنا دبدوب
مُنشأة "تواري برلين". تصوير آنا دبدوب
 

 

هذه هي الأسئلة التي أثارتها أحداث ليلة واحدة فقط في برلين في فبراير من هذا العام. يستحضرُ المشروعُ، الذي يشكّل حلقةً في سلسلة "اختفاء برلين" لشنكل بافيليون، الفنون الاستعراضيّة وعروض الرقص والموسيقى إلى المباني التي على وشك الهدم أو الخصخصة أو التعديل، بعد أن شكلت مشهدًا مدينيًّا وحياةً ثقافية لعقود من الزمن. بسبب هذا التّكرار العينيّ للسّلسلة، دُعي الفنّان الجزائريّ محمد بورويسة (مواليد 1978 في البليدة) للاستيلاء على Clärchens Ballhaus الذي أُغلقَ حديثًا، والذي تم تفعيله كمكان للرقص وتناول الطعام منذ عام 1913. تحت السّقف المُجَصّص على نحوٍ زُخرفيّ، شكّل بورويسة مجموعة من الفنّانين من أجل خلق قصيدة بصرية تُعنى بالرّوابط بين بيروت وبرلين في سياق التّواري والانزياح، التغيير والحرية، وكذلك الدور الفاعل للفن في تطوّر هاتيْن المدينتيْن. تضمّن العرض عروضاً صوتيّة من طوني إيليا ويُمنى سابا و Sina XX ودورين بوتيل وباولينا غريتا، بالإضافة إلى مقاطع فيديو تم عرضها في وقت واحد بواسطة مجموعة 2038، وهي مجموعة دولية من المهندسين المعماريين والفنانين وعلماء البيئة والاقتصاديين والعلماء والسياسيين والكتاب، يتعاون بورويسة معها كذلك. التأمت المجموعة لأول مرة عام 2019، وسوف تمثل ألمانيا في بيانالي البندقية للعمارة عام 2020.

أحد أفلام المجموعة 2038، وهو بعنوان "الصّفاء الجديد"، شجع على رؤية اليوم الحاضر من منظور المستقبل؛ العام 2038. وقد تم عرض الفيلم كشكل من أشكال التعريف بمشروع 2038 الأشمل الذي يتوق الى بيانالي الهندسة المعمارية لهذا العام. يقول البيان الرسمي للمشروع: "اليوم، في العام 2038، قد تغلبنا على الأزمات الكبرى. لقد كانت مُستعصية، لكننا أنجزنا ذلك. جمعت الكوارث الاقتصادية والبيئية العالمية في عشرينيات القرن العشرين بين الناس والدول والمؤسسات والشركات. لقد التزموا بالحقوق الأساسية وأنشأوا أنظمة ذاتية الاكتفاء، بالتّشارك وعلى أسُسٍ عالمية، مما أعطى الهياكل المحلية اللامركزية مساحة للحفاظ على أسلوب حياتها الفردي".2

 

 

2038، الصفاء الجديد، فيديو 

أبطال الفيلم "قِرْدان" المأخوذان من لوحة Gabriel von Max المرسومة عام 1900 بعنوان Abelard und Heloise. غالبًا ما تظلُّ الحيوانات ثابتةً برفقة المَقُولات والأفكار التي تُستدعى من حولها كنصٍّ. يؤالف هذا النص بين تحليل التّواري والدمار، والمانفسْت المعني بالماضي، أو، في مثال هذا الفيلم، بالوقت الحاضر. في سياق ثيمة المساء، يحثُّ الفيلم على تفحّص التغيّرات الحاصلة لمَشاهد المدينة في كلٍّ من برلين وبيروت. ومع ذلك، فإنه يغمز الى التّغيير الذي حدث بالفعل في الماضي، حيث يحرض على الإجراءات التي يجب أن تتطلّع إلى نموذج مستقبليّ، بدلاً من الخوض فيما فُقِدَ، أو الوسائل التي كان ينبغي اتّباعها.

تشترك برلين وبيروت في تاريخ من الانقسامات الداخلية التي تسبّبت بها حربان، واحدة "باردة" وأخرى بالغة العدوانية، كلاهما في نهاية المطاف تقسّمان المدن سياسيًا، تقطعان أواصر التنقّل، وتجزّئان المجتمعات إلى شرق وغرب. خلال الحرب الأهلية التي استمرت 15 عامًا في لبنان، كان هذا الفاصل منطقةً باتت تُعرف باسم الخط الأخضر، نظرًا لأوراق الشجر والنباتات التي نمت على طولها بعد الصراع المتركز فيها، مما جعلها غير صالحة للسكن. في عام 1962، قامت حكومة ألمانيا الشّرقية الاشتراكية ببناء جدار بطول 140 كيلومترًا حول محيط برلين الغربيّة بالكامل، وذلك لمنع سكّانها من الهروب إلى الغرب، أو التّعرّض لأفكار غربيّة. أدّت خطوط الانقسام هذه وإلغاؤها اللاحق إلى تشابه ما يلعب دورًا كبيرًا في الحوار الثّقافي اليوم في المدينتين – في حيّزيهما العام.

تسببت الحرب الأهلية في لبنان في دمار شامل للمباني وهجرة العائلات إلى مكان آخر، مخلّفةً منازلَ فارغة وراءها. في ألمانيا، شهد عام 1989 سقوط الجدار، وحشود من الألمان الشرقيين يغادرون من أجل حريّةٍ مُشرقةٍ في الجهة الغربيّة. في مجتمعهم الاشتراكي السابق، كانت الممتلكات جميعها تعود للدولة، وبالتالي، مع سقوط الجمهورية الديمقراطية الألمانية في عام 1990، أصبحت المباني غير مأهولة وغير مملوكة. في السنوات التي تلت ذلك، شهدت كلتا المدينتين عمليات شراءٍ للمنازل بأسعار منخفضة للغاية، إضافةً الى تكلفة الترميم المطلوبة التي غالبًا ما تتجاوز قيمة المبنى بمقدار كبير. على حين غرّة، اكتشف أصحاب المباني أو مجالس المدينة فائدة الحفاظ على عقارات الفنانين وأرباب الثقافة.

في برلين، خلال التسعينات وبدايات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عُرض على العديد من المبادرات الثقافية مبانٍ معفيّة من رسوم أو إيجارات مرتفعة الكُلفة، مقابل صيانة هذه المباني وصَوْنها. مقابل Clärchens Ballhaus، وهو معهد KW للفن المعاصر، الذي أسسه Klaus Biesenbach عام 1991. وقد تم منح الوصيّ الفنيّ الشاب إيجارًا مجانيًا لمدة 47 عامًا لتجديد مصنع السّمن المهجور، والذي أصبح أحد أكثر مراكز الفن إنتاجًا في البلاد.3 في بيروت، يجد المرء بعض السّمات المنعكسة في المشروع الثقافي "أشكال ألوان" متعدد الأوجه، والذي أسّسته الأمينة الفنيّة كريستين طعمة. عمل المشروع بدون فضاء مكانيّ حتى عام 2011، عندما قامت جمعية فيليب جبر بإهدائه مصنع أثاث قديم ضخم. يستضيف المبنى الآن برامج المشروع، بما في ذلك Home Workspace، مدرسة للفنون البديلة، استوديوهات فنانين، مكتبة، وفعاليات منظّمة. أدت تجربة "أشكال ألوان" والتربية المستمرة للفنون منذ التسعينيات إلى الاعتراف بها كواحدة من الأصوات الثقافية الرئيسية في المنطقة.4

تبقى المبادرات غير الهادفة للربح بعيدة عن العمل الخيري، ولكن عندما يتم تثبيت هذا الإجراء على سعر العقار، تصبح المبادرات الثقافية عرضة للخطر. تظهر معادلة دائمة: تعتمد المبادرات غير الهادفة للربح على انخفاض قيمة الملكية. تعتمد الممتلكات منخفضة القيمة على المبادرات الثقافية لرفع قيمتها؛ لم تعد الممتلكات ذات القيمة العالية تعتمد على المبادرات الثقافية، تاركة الأخيرة إما أن تبدأ في البداية أو تتوقف عن الوجود.

عانت بيروت وكذلك برلين، من نزوح ثقافي شديد على مدى السنوات العشرين الماضية، وذلك بسبب التضخُّم السريع في تكاليف العقارات. حدث هذا في برلين بسبب هجرة المبادرات الثقافية، التي انتقلت من العاصمة إلى المراكز الأوروبية الأرخص، مُرحِّلةً وجودها المكاني المادّي إلى نماذج [افتراضيّة] عبر الإنترنت أو أخرى ارتحاليّة. أو، بالنسبة للبعض، فقد رأوا أن في نزوحهم ذريعة لوضع مشروعهم على الرّفّ، تاركين الذاكرة البعيدة لعصر ذهبي غامض، تم نسيانه تقريبًا.5 في بيروت، كان النّزوح متجذّرًا في إعادة الحكومة بناءَ المدينة المستمرّ منذ الحرب. هذا القلق الطبيعي بعد الحرب قد تم تلويثه من خلال تدمير القصور العثمانية القديمة، واستبدالها بسرعة ببنايات شاهقة بُنيت بكُلفةٍ رخيصة؛ البيع غير القانوني للخط الساحلي الشعبي في سبيل إنشاء مشاريع فاخرة، والمكاسب المالية لمثل هذه التطويرات صبّت في شركات البناء المملوكة من قبل السياسيّين. لم تترك هذه الإجراءاتُ المؤسساتِ الثقافيةَ معرّضةً للخطر فحسب، بل غاضبة بحق.6

 

 

4.Stop-Solidere-St-Georges-Hotel.jpeg

"ستوب سوليدير" شارع فندق جورج، بيروت. تصوير شارلوت بلايشر
"ستوب سوليدير" شارع فندق جورج، بيروت. تصوير شارلوت بلايشر

 

 

وصل الغضب في لبنان إلى ذروة جديدة في 17 أكتوبر من العام الماضي [2019]، أثارها إعلان الحكومة عن فرض ضريبة جديدة على مكالمات الـ WhatsApp، وسرعان ما ملأ المتظاهرون الشوارع في جميع أنحاء البلاد، موحَّدين بالدعوة لإنهاء فساد ومحسوبيّة النخبة السياسية. مركز الحدث كان في وسط المدينة، وهو مُجَمَّع حديث من المتاجر والمكاتب الفاخرة بجوار الخط الأخضر القديم وميدان الشهداء. أصبحت الجدران المُشرقة مذكّراتٍ لإحباطات المتظاهرين، وزجاج النوافذ الثمينة قد تبدّلت الى زجاج محطّم. مع ذلك، ومن بين هذه المشاهد، انبعثت جوهرتان منسيّتان من العصر الذهبي للمدينةLe Grand Théâtre de Beirut و The Egg. منذ الحرب الأهلية، تم إخفاء هذه المباني الشهيرة خلف ألواح خشبية تحمل اسمSolidere ، الشركة الخاصة المدرجة في القائمة، من قبل الحكومة، لإعادة تطوير بيروت. أصبحت السينما قديمةThe Egg مكانًا للعروض والحوارات ومعرضًا للتّصوير الفوتوغرافي، وقد وجد المتظاهرون في المسرح القديم منبرًا للعروض الغنائية والارتجال.

 

5.The-Grande-Theatre-Beirut.jpeg

المسرح الكبير، بيروت. تصوير شارلوت بلايشر
المسرح الكبير، بيروت. تصوير شارلوت بلايشر

3.Beirut-Center-of-Photography-exhibition-The-Egg2.jpeg

معرض مركز بيروت للتصوير الفوتوغرافي خارج The Egg، بيروت.  تصوير شارلوت بلايشر
معرض مركز بيروت للتصوير الفوتوغرافي خارج The Egg، بيروت. تصوير شارلوت بلايشر


للمرة الأولى منذ 30 عامًا، استعاد الناس حقهم في هذه المباني العامة المفقودة.

على الرغم من الظروف المختلفة للغاية، حيث يستعيد سكان بيروت حقهم في المباني العامة المفقودة، فإن "تواري برلين" لشنكل بافيليون [Schinkel Pavillion] هو بمثابة احتجاج فني ضد الضّياع الثقافي لمدينته المتسارعة التغيّر. على الرغم من أن إجراء هذه المقارنات والتباينات بين اثنين من المناظر الطبيعية الفريدة والنظم البيئية الثقافية يبدو تعسفيًا، مثل الادعاء بأن بيروت بنِّية اللّون وبرلين زرقاء اللون، إلا أن هناك شيء واحد صحيح: هذه المبادرات الثقافية وأعمال التّحدي ضد ضياع المدينتين هي مستحيلة دون مقاومة الشعب وإسماع صوته بقوة. لا تزال أفكار والتر بنيامين حول روح المدينة عميقة، وتثير القلق في مناخ التشريد الثقافي المعاصر والتدمير المادي للمباني. ومع ذلك، فإن بيان مجموعة فناني 2038، الذي يحثّنا، في سبيل التعافي من الأحداث المدمرة، بأن نضع أنفسنا في كفّة المستقبل، بحيث نتمكن من إعادة التفكير والتصرف غزاء الحاضر. في السيناريو المُتخيَّل لعام 2038، فإن المجتمعات ستتجمّع عبر أزماتها، مُستعيدةً حضورَها كصوت واحدٍ قويّ. ربما يمكننا أن نتعلم من ذلك في ضوء التّضاريس المتغيرة، ونحمل الأمل في الصوت الجماعي وقدرته في الحفاظ على الذكريات وإعادة تشكيلها.

 

1-Video still from Disappearing-Berlin-jpg.jpg

"السكون الجديد". مجموعة 2038. مقطع فيديو من "تواري برلين". تصوير آنا دبدوب
"السكون الجديد". مجموعة 2038. مقطع فيديو من "تواري برلين". تصوير آنا دبدوب

 

ملاحظة إضافية:

مع استمرار الوباء العالمي، توجّب عليّ ذكر هذا الأمر هنا، وباختصار. فقد تم كتابة النصّ للمرّة الأولى في فبراير، الوقت الذي لم يكن التحرّك فيه بين المعارض والعواصم البعيدة مُستحبًّا وحسب، بل كان متوقعًا في المجال الثقافي. في العادة، نكون مستعدّين للتغيّرات في المشاهد الطبيعيّة بمقدارٍ ما من خلال فحص الأنساق ضمن سياق الزمن المُعاش. في حالة أزمة COVID-19، فإن "التغيّرات في المشاهد الطبيعية" قد تغيرت على الفور. وعلى الرغم من ضبابيّة المستقبل، لا يزال بإمكاننا التعلم من الأفكار التي عبرت عنها مجموعة 2038، للنظر فيما وراء الرّاهن، وإعادة تصور المستقبل. قد يشمل تواري المدن مسائل جديدة اليوم، ولكن الحاجة الى أصوات الناس المثابرة، التي تعيش فيها، باقية.