بدون حيل ولا خدع. مرسيل بروترس في الفريدركيانوم، كاسِل

هل نجحت المحاولات التي جرت في السنة الأخيرة في التحدّي المتمثل بعرض أعمال مرسيل بروترس (Marcel Broodthaers) بعد وفاته؟ هل سينجح المعرض الاستعادي في متحف الفن الحديث بنيويورك في المهمة؟ ميخال ب. رون تتواجه مع هذه الأسئلة والتناقض الكامن فيها

 

Advertisement

“Nouveaux trucs, nouvelles combines”  - حيل جديدة، خدع جديدة – يتردد هذا التعبير كاللازمة على امتداد أعمال مرسيل بروترس (1924-1976),1  وهو الشاعر الذي تحول الى الفن في جيل الأربعين، والى مدير متحف وهمي فتحه في بيته ببروكسل تحت الاسم المبهم Musée d’Art Moderne, Département des Aigles   (متحف الفن الحديث، قسم النسور 1968-1972). تأسيس المتحف وتوسيعه القسم تلو القسم على مدى أربع سنوات، توّج بروترس كشخصية نموذجية في النقد المؤسسي، وهو مصطلح مستخدم لكشف الظروف التاريخية، السياسية، الاجتماعية والاقتصادية التي يعمل الفن في نطاقها2.  ولكن، بقدرما ما يبدو الأمر جديًا، فإن التعبير "حيل جديدة، خدع جديدة" يلخص جيدًا نشاط بروترس، مثلما يتكرر في كاتالوغ  مؤلف من مجلدين أنتجه الفنان للمعرض الاستعادي الذي أقامه لنفسه , L’Angelus de Daumier  (أنجلوس دومييه 1975). بعد 40 سنة على وفاة بروترس سقطت جميع محاولات استحضار مجموعته الفنية المركزية في فخ المفارقة: ما الذي سيشكل التمثيل الأوفى للحيل والخدع؟

 

18 Broodthaers © Achim Hatzius.jpg

مرسيل بروترس، ديكور، احتلال مرسيل بروترس، 1975 (تفصيل)
2015، غرفة القرن الـ19. تصوير: أكيم هتسيوس © إرث مرسيل بروترس VG Bild-Kunst بون. الصورة بلطف الفريدركيانوم

 

حاول عدد من المعارض التي خُصصت في السنة المنصرمة لعمل الفنان أن تتعاطى مع هذا التحدي. فيما عدا بعض المعروضات التي جلبت من مجموعات خاصة مثّلت التفضيلات الشخصية لأصحابها (كالتي عرضت في معهد هربرت، مدينة جنت، بلجيكا)، أو ظهور عمل منفرد جاء ليخدم مقولة قيّم ما (كما في حالة اكوي انويزور، جناح غيردي ني المركزي، في بينالي فينيسيا هذا العام) - يمكن التمييز ما بين توجهيّن لقيّمين بخصوص تلك المهمة: الأول حقائقي يجمع قائمة أعمال في كاتالوغ مواضيع منتشرة في فضاء العرض، في حين يطمح التوجه الثاني للاستحضار، الوهمي بالضرورة، لمجموعة الأعمال، بواسطة استعادة منظومات مكثفة لأعمال فـُقدت منذ إنتاجها في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.3

 

Marcel Broodthaers, Installation view

مرسيل بروترس، منظر تنصيب في الفريدركيانوم. الواجهة: مدخل المعرض، 1974
2015 . تصوير: أكيم هتسيوس © إرث مرسيل بروترس VG Bild-Kunst بون. الصورة بلطف الفريدركيانوم

 

معرض بروترس الذي أقيم هذا العام في "مونييه دي باريس" هو نموذج للتوجه الثاني. القيّمة كيارا باريزي (Chiara Parisi), التي عملت بالتعاون الوثيق مع أرملة الفنان، ماريا غيلسن بروترس، أصاخت السمع لروح بروترس إذ أن معارضه ، خصوصا الاستعادية منها، والتي كان نفسه قيمًا لها، تناولت على الدوام المنظومات وأقل منها المواضيع الفنية البرّاقة. بالمقابل فإن المعرض بمتحف فريدركيانوم في كاسِل، ينتمي الى الاتجاه الموضوعي، الحقائقي. كان معرض القيّمة سوزانا بفيفر (Susanne Pfeffer), معرضا متحفيا كبيرا انتقى ما هو مضمون دون مخاطرات. دون حيَل أو خدع.

 

19 Broodthaers © Marina Rengel Lucena.jpg

مرسيل بروترس، ديكور، احتلال مرسيل بروترس، 1975 (تفصيل)

2015، غرفة القرن الـ19. تصوير: مرينا رنغل لوسينا © إرث مرسيل بروترس VG Bild-Kunst بون. الصورة بلطف الفريدركيانوم

 

 

افتتح المعرض في فريدركيانوم بـ L’Entrée de l’Exposition  (مدخل المعرض، 1970) واستقبل الزوار بأصص نخيل4.  كان لاحتلال المدخل بالنباتات قوة التسلل تحت فضاء الثقافة العليا وتحويله الى حديقة شتوية مدجّنة، شبه استوائية. للأسف الشديد، تحولت الايماءة داخل الفريدركيانوم الى عنصر ديكور فقط. ربما أن فضاءات المتحف الكبيرة، كمكعبات للبناء، قد أحبطت السيرورة. هناك مواضيع متباعدة نُثرت في أرجاء القاعات. العرض الموضوعي، المعقّم كان على مبعدة ما من غياب الصراحة الفكهة لدى مرسيل بروترس، الذي كاشف في الدعوة لمعرضه الفردي الأول، عام 1964، بأنه بدأ بإنتاج مواضيعه لأنه تساءل عما اذا كان يمكنه "بيع شيء والنجاح بحياته". خسارة أن المعرض لم يشمل هذه الدعوة ، والذي برز فيه أيضًا غياب عدد من الأعمال الأساسية، التي كان من شأنها استكمال مجموعة أعمال بروترس وعرض نقديّة المواضيع التي عُرضت فعلا.

 

DÉCOR, A Conquest by Marcel Broodthaers, 1975

مرسيل بروترس، ديكور، احتلال مرسيل بروترس، 1975
2015، غرفة القرن الـ19. تصوير: مرينا رنغل لوسينا © إرث مرسيل بروترس VG Bild-Kunst بون. الصورة بلطف الفريدركيانوم

 

هناك استعادات أدقّ لانشاءات بروترس قد أثمرت لحظات أقوى، وتركت الشهية مفتوحة. اعادة التنصيب Section Publicité (قسم العلاقات العامة) من العام 1972، وهو مبنى مأهول بعدد مجنون من صور النسور، لبّت تعليمات دقيقة. هذا القسم كان الذي أغلق به بروترس متحفه الشهير - متحف الفن الحديث، قسم النسور – وأنتجه الفنان لصالح الدوكومنته 51972)5.

هذه إعادة التنصيب الثالثة على التوالي في كاسِل. الثانية كانت في الدوكومنته (1997). كان من شأن احتفالات "60 عامًا على الدوكومنته" في كاسل أن تشكل فرصة ذهبية لاستعادة أعمال أنتجها بروترس لصالح الدوكومنته 5 مثل الكتابات الجدارية وأعمال المسطبة التي أنتجت Musée d’Art Moderne, Département des Aigles, Section d’Art Moderne   (متحف الفن الحديث، قسم النسور) الذي غيّر الفنان اسمه بنوع من الاستفزاز الى-Musée d’Art Ancien, Département des Aigles, Galérie du XXème Siècle  (متحف الفن القديم، قسم النسور، غاليري القرن العشرين). بالاضافة، اعادات تنصيب أخرى لأعمال عرضت في دوكومنتات أخرى بعد موت الفنان، كانت ستزيد طبقة اضافية للمنظور التاريخي. فمثلا، اعادة تنصيب Décor. A Conquest by Marcel Broodthaers  (ديكور، احتلال مرسيل بروترس 1975)6 في الفريدركانيوم7 (1982)، كان من شأنها التذكير بالظهور السابق للعمل، كاستعادة مجددة للاستعادة، في الموقع الأصلي.

 

13 Broodthaers © Achim Hatzius.jpg

مرسيل بروترس، مرآة من فترة وصاية العرش 1973

2015 . تصوير: أكيم هتسيوس © إرث مرسيل بروترس VG Bild-Kunst بون. الصورة بلطف الفريدركيانوم

 

للحقيقة, Décor. A Conquest  في تنصيبه الجديد لا يزال يشكل تصريحا فعالا جدا. إنه يمثل "غرفة القرن الـ20" وفيها بنادق، مسدسات وأثاث حديقة، ثم "غرفة  القرن الـ21"، وفيها مدافع وكراس قديمة. من خلال التجوال بين تجهيزات الاضاءة، تشعر زائرة المعرض بأنها في موقع تصوير فيلم معاصر. بروترس يوضح لنا أننا، نحن الزوار العائدون من المستقبل، كأنما من "غرفة القرن الـ21" بما فيه من صناعة أسلحة وحلول إيكيا، لا نزال نعيش في الفيلم نفسه، في التاريخ نفسه. في الفصل القادم قد يطلق السلاح الرصاص.

والآن يأتي دور الـ  MoMA. معرض بروترس القريب في هذا المتحف، الذي اقتنى مؤخرا مجموعة داليد (Daled), سيحمل ثانيةً بصمة اختيار صاحب الأعمال7. أي معرض نتوقع حين يعرض متحف الفن الحديث الـ Musée d’Art Moderne , المتحف الذي بدأ في بروكسل، وليس فيها حتى الآن مثل هذه المؤسسة؟ حيل جديدة، خدع جديدة.

 

 

  • 1. يجب لفظ اسم الفنان الفليمي بروتَرس (Brotars), كما يظهر الفيلم القصير في مونييه دي باريس الذي أنتج لمناسبة المعرض.
  • 2. يُنظر: Benjamin H. D. Buchloh, “Conceptual Art 1962-1969: From the Aesthetic of Administration to the Critique of Institutions,” October 55 (Winter 1990): 105-143. يذكر بوخلو في هذا المقال خصوصًا بروترس، دنيئيل بورين (Buren), وهانز هاكه (Haacke) تحت هذا المصطلح، ويصف كيف أن "النقد المؤسسي كان المحور المركزي في هجوم الفنانين الثلاثة على الحيادية الكاذبة للنظرة التي توفر الشرعنة الأساسية لتلك المؤسسات (الفنية)" 136-137.
  • 3. غياب العمل هو عنوان كتاب راشل هايدو (Haidu) الطليعي عن بروترس. وهي تشرح في المقدمة العنوان "الذي يتطرق جزئيا الى غياب العمل- أي كمواضيع يمكن بحثها ويمكن مواصلة العمل عليها ." Rachel Haidu, The Absence of Work. Marcel Broodthaers, 1964-1976. An October Book (Cambridge and London: The MIT Press, 2010): xvii.
  • 4. هذا الموتيف معروف للمسافر/هاوي الفن المداوم من Un Jardin d’Hiver (حديقة شتوية 1974) لبروترس، الذي اختتم العرض في المبنى المركزي بمعرض "كل مستقبلات العالم" لـ أكوي انويزور (Okwui Enwezor), في بينالي فينيسيا هذا العام. أصوات الفنانين التي خرجت من هيكل تمت اقامته في الفضاء المجاور، وهم يقرأون من رأس المال لكارل ماركس او غنوا أناشيد عمالية، ودخلت الأصوات الحديقة الشتوية الساكنة دائما. أما أشجار النخيل فقد ابتلعت الفاعلية الفنية الى عالمها البرجوازي، المكتئب، فيما هي تخفض صوت التعهدات الثورية، التي سبق أن خابت.
  • 5. الدوكومنته 5 (1972) مع هيرالد زيمان (Harald Szeemann) كمدير فني، حددت نقطة تحوّل في تاريخ هذه المؤسسة الفنية الأوروبية الهامة. زيمان الذي أعاد الى حد بعيد تعريف وظيفة القيّم، محور هذا المعرض في العنوان "الواقع في ظل علامة سؤال – عوالم تصورات اليوم". شارك بروترس في المعرض بأقسام خصصت لـ "ميثولوجيات فردية" و "متاحف فنانين".
  • 6. ككثير من ألاعيب الكلام لدى بروترس، من الصعب ترجمة عنوان العمل. تعبير Décor ذو معنى مزدوج، ويتطرق الى الديكور وكذلك للتصميم الداخلي.
  • 7. هيرمان ونيكول داليد، جامعا أعمال من بروكسل، كانا داعمين نشطين للفن المفهومي الأوروبي والأمريكي في الستينيات والسبعينيات. الـ MoMA أعلن عن اقتناء المجموعة الهامة في 10 حزيران 2011.