معرض "بيبليولوجيا" الذي تولى قوامته رفائيل سيغال ودروريت غور أريه في متحف بيتح تكفا، يضع الكتاب في مركزه. ليس المركز مضامين الكتاب – الأفكار التي خلف الكلمات – بل الكتاب كموضوع/غرض. جميع المعروضات المختلفة تتقصى ماديّة الكتاب. لقد أنتج عمل القيّمين المشدد محتوى متينًا يسرد قصة حقيقية. ويمكن تشخيص ثلاثة محاور مركزية فيها، تتسق معًا وتطرح الأسئلة عن مادية الكتاب بثلاثة أنماط. المحور الأول هو الكتاب كموضوع: شيئيّته، نسيجه، أبعاده المادية المتبقية بعد "تنظيف" بُعد المضمون، جوهره. المحور الثاني هو الجهد العاطفي المبذول نحو هذا الموضوع، أي البُعد الفيتيشي لعلاقتنا بالكتب: جمعها، الفضول تجاهها، حيازتها وملامستها. هذه رواسب لاعقلانية، شغوفة، في علاقتنا بالكتب. المحور الثالث للمعرض هو الأهم، تقصي الروابط ما بين الكتاب كموضوع والجسد الانساني، وتلك التي بين الكتاب والذات.
يتناول المحور الأول في المعرض، كالمذكور، البعد المادي، الشيئي للكتاب، للحرف، للكتابة. هكذا مثلا في عمل ميخا أولمان فاء هاء (2015)، حيث حفر في الحديقة الممتدة أمام مدخل المتحف مكوّنًا حرفي فاء وهاء (بالعبرية) اللذين يؤلفان كلمة ذات معنيين: "هنا" التي تشير للمكان، و"فم"، أي العضو الذي يُخرج النغمة والكلمة. المادية حاضرة هنا مسبقًا، قبل الدخول الى المتحف، عبر الحرفين المحفورين في التراب – عبر "المادة" بمفهومها الأكثر أساسية. كذلك، في العمل بعنوان حائط كتب لأفيطال غيفع، 1978، يبرز البعد المادي. الكتب القديمة والمخصصة للتدوير يستخدمها غيفع في هذا العمل كمادة خام، الى جانب الباطون والتراب، لغرض بناء حائط. الكتاب معروض كغرض يمر سيرورات تآكل وفناء عضوية، فاقدًا المضامين الرمزية التي يحملها، ولكنه في الوقت نفسه، الى حد ما، يبقى مقدسًا، موضوعًا مرّ تدويرًا (عنوان العمل هو "حائط"، وليس مجرد جدار). هناك ثنائية مشابهة تتجلى في المعرض بأكمله.
يتقصى المعرض في المحور الثاني البعد الفيتيشي للعلاقة مع الكتاب، من دون الحكم عليه. إنه هنا للتأمل فيه وليس لإلغائه. هذا البعد الفيتيشي مرتبط بحقيقة أننا، من الجهة الأولى، ننسب الى الكتب معنى أكثر من الماديّة (الكتاب ليس مجرد غرض/شيء)، ومن الجهة الثانية، نحن نربط الجانب الرمزي للكتب بالماديّة، لأن الارتباط العاطفي موجود مع الكتاب كغرض، وليس مع مضامينه (ليس هناك علاقة فيتيشية مع الكتب الرقمية مثلا). يتم التمحور في الجانب المادي ولكن هناك بالضبط يتجلى ويتجسد الجانب الرمزي، لأن هذه المادية هي غطاء، وبذاتها رمزية، أو موضوع للشغف، العلاقة، التلذذ، مثلما في عمل الفيديو الذي أنتجه القيّم سيغال، محبروت (2015): يد هرمة لهاوي جمع مقتنيات تتصفح ببطء لا نهائي كتابًا. العمل يترافق مع اقتباس من مقال فولتير بنيامين "إنني أفكك مكتبتي" (الذي يبدو أنه كان مصدر ايحاء للمعرض برمّته): "يجب التأمّل فقط في هاوي جمع أية أغراض وهو يرعى الأغراض التي في خزانته. حين يحملها بيديه يبدو كأنه يحمل نظرته الى البعيد بوحي منها". الجانب الايروسي في العلاقات ما بين الكتب وهاوي الجمع يتكرر أيضًا في الاقتباس التالي من المقالة المذكورة لبنيامين: "مقابل هذا، نصنف ضمن اجمل ذكريات هاوي الجمع تلك اللحظة التي هب فيها لمساعدة كتاب، لم يسبق أن أولى اي اهتمام له، فكم بالحري أُمنية، لأنه رقد متروكا ومهملا في السوق المفتوحة، وقام بشرائه، مثلما اشترى الأمير في قصص ألف ليلة وليلة الأسطورية جارية جميلة من اجل تحريرها. لأن الحرية الحقيقية، وفقًا لرؤية هاوي الجمع، كامنة في مكان ما فوق رفوف مكتبته".1
يبرز البعد الفيتيشي في عدد من الأعمال الاضافية، مثلا في الانشاء آفاق مكسورة لمايا زك و Stuben21 (بيتر دنيئيل ونيكول هورن)، الذي يتغنى بمكتبات الشعب اليهودي الضائعة ويدخل (بشكل يفتقر قليلا للنقد) الى ما يشبه المكتبة الجديدة "أفضل" ما لدى الشعب اليهودي. زك توجهت الى مثقفين طالبة منهم التوصية على أهم الكتب برأيهم، من أجل جمع الكتب التي ستشكل ما يشبه الآثار المكتوبة اليهودية، ليتم وضعها على رفوف عملها. إن التغني بالكتب، التمسك بها كحافظ للتاريخ وموحّد للهوية والثقافة، رغبة الجمع، التجميع، وتجميعها كلها في مكان واحد، هي كلها تعبيرات عن الجمع والفيتيشية.
هل بات الشغف الفيتيشي بالكتاب جزءا من الماضي؟ لا يطرح المعرض هذا السؤال بشكل مباشر ولكن في السياق الثقافي الراهن، يبدو أن مجرّد تمحور المعرض في الكتاب كغرض وفي ماديته، لا يمكن أن لا يُفسّر أيضًا كفحص لهذا السؤال. هل يعتبر العصر الرقمي، الذي يقال لنا إن الطباعة فيه قد ماتت، هو عصر ما بعد فيتيشي؟ يبدو ان الجواب لذلك سلبي، وأن هذا الشغف يسري في عروقنا، تحديدا لأن الكتاب ليس كتابا فقط، وتحديدًا لأنه بين الكتاب والذات البشرية هناك علاقة تفوق الاستخدام او التأمّل. الكتاب هو استعارة للذات.
إن الربط بين التعاطي مع الفيتيشية نحو الكتاب وبين كونه استعارة، وعلاوة على ذلك تجسيدًا للذات، لمّح اليه أيضًا مقال فولتير بنيامين المذكور، "إنني أفكك مكتبتي". يشدد بنيامين على بُعد الجمع ولكن للكتب تحديدا: "بالنسبة الى الجامع [...] الملكية هي أعمق العلاقات مع الأشياء. ليس أنهم يعيشون فيها، بل إنها تسكن فيهم. وها قد عرضت أمامكم أحد مساكنها، لـُبناتها هي الكتب، وها هي تغيب فيه، كما يليق بها.״2
وبالفعل، فالمحور الثالث في المعرض لا يتقصى جسد الكتاب فقط، بل ايضًا الروابط الرقيقة ما بين الكتاب وبين الجسد البشري، ولاحقًا بين الكتاب وبين الذات الانسانية. هذا التشابه، التماس بين البشري وبين الكتابي، يجري تقصيه في المعرض من خلال عدد من المعروضات. مثلا، في العمل اللافت للانتباه في البدء مات (2011) لفانيا-يونتان شاوب، يُعرض كتاب حيّ-ميّت. يشدد العمل على البعد المادي للكتاب، السابق ذكره، لكنه يربطه بعمق أكبر بالحياة والجسمانية. ينبّت فانيا بذورًا في كتب ينتجها بنفسه (صفحات ورق بإنتاج يدوي يتم تجليدها معا). البذور تنبت وتنمو لتصبح نباتات، تعيش ثم تذبل وتذوي. الكتاب أخضر ومزهر لفترة ما، كما يمكن التقدير، أي أنه يعيش فعلا قبل أن يذوي، يجف ويتشوه. الكتاب المشوه الذي تعفن في المعرض يعيدنا الى البيولوجي، الى العضوي. هذا الكتاب ليس حروفا فقط (وليس حروفا ميتة)، بل جسد، جسد ميت: شيء، غرض، ولكن ليس علبة مربعة فيها اشارات فحسب، بل ما سبق ان نبضت فيه حياة والآن مات. إذا تعودنا على التفكير بالكتب بوصفها شيئا موجودا بثبات وديمومة، خلافا للبيولوجي العابر، فإن شاوب يضعنا في مواجهة مع كتاب يمر دورة حياة ويتعرض هو الآخر الى آثار الزمن (لكنه لا يتلف بل يذوي، يشيخ، كأي كائن عضوي)، وفي النهاية يموت.
ليس الكتاب وحده كمجموع يشكل استعارة للجسدي، بل ايضًا الاشارات التي تملؤه: في عمل بديع يقدمه المعرض، توثيق بالفيديو لعمل رقص، تبعث مصممة الرقص ماري تشوينار (Chouinard) الحياة داخل حروف ميتة. يحيي عمل الرقص هذا ويرقص الاشارات الغريبة – نصفها حروف ونصفها الاخر رسومات، ربما رسومات جسد – في كتاب الشاعر الفرنسي هنري ميشو (Michaux) ״حركات״ (Mouvements). علامات الحبر – لغة جديدة؟ الشعر الأنقى الذي يتيح للكلمات والاشارات نفسها ان تتكلم، من دون التفكير؟ - تتحول الى علامات جسد لراقصين بالأسود، أشخاص-حروف، وتكتسب حيوية وتجسيدا على المنصة.
هناك معروضات أخرى تتطرق الى العلاقة الرمزية بين الكتاب والذات وليس الجسد بالذات. فمثلا هناك معروضتان تكملان الواحدة الأخرى: كتب باعها فولتير بنيامين للمكتبة القومية، بمساعدة صديقه غرشوم شولم، تم استخراجها من رفوفها وهي تُعرض في صندوق زجاجي. ومثلما يستدل من نص قيّمي المعرض، هذه كتب الفيلسوف واللاهوتي الالماني فرانس فون-بادر، وكانت في مكتبة بنيامين لمدة تسع سنوات. بنظر بنيامين، هذه كتب من المقام الأول، ومن أغلى ممتلكاته. وحين قرر بيعها عام 1934 كان في المهجر وفي حالة من الضائقة والعوز. ارسلها بنيامين الى صديقه شولم وكتب له: "كلّي أمل ان تجد لها ملاذا آمنا أكثر في اسرائيل، سواء في مكتبة الجامعة بالقدس أو في مكتبتك" (9.7.1934). بنيامين الذي فكر بالقدوم ايضًا الى فلسطين، الى الجامعة العبرية، لم ينجح في ذلك، وحين انتحر ضاعت جثته، كما يقول نص الى جانب الصندوق الزجاجي. الرمز واضح: بدلا من الجسد المفقود، هناك الكتب، الحاضرة. أقوال بنيامين التي اقتبستها اعلاه تكتسب معنى جديدا: "عرضت أمامكم أحد مساكنها، لـُبناتها هي الكتب، وها هي تغيب فيه، كما يليق بها".
معروضة أخرى هي صور أرشيفية لأكوام كتب ليهود، صادرها النازيون وأخذوها كغنائم لاقامة مكتبة. خلافا للصورة الشائعة عن حرق الكتب، لم تكن الرغبة النازية هي الحرق فقط، بل الجمع ايضًا، والبحث وحفظ الكتب اليهودية في الأرشيف، كجانب متحفي لحياة العرق اليهودي3. الأكوام، مثل الأكوام في الصور من الحقبة النازية، تثير القلق وعدم الارتياح، وتقف مرة أخرى أمامنا كتب تمثل أشخاصا من لحم ودم قد ماتوا.
إذا ففي كلا العملين، هناك ذات بشرية تغيب ويظهر مكانها كتاب يتم جمعه، ارشفته، حفظه وابقاؤه. على النحو ذاته، فإن إنشاء زك و Stuben21 المذكورين، يعرضان صورًا لمدرسة وغرف تعليمية تم استرجاعها من صور رومان فيشنياك ومشتيبلخ (مدرسة دينية يهودية) معاصرة من القدس، فضاءات خالية من الناس تسكنها الكتب، معطف طويل معلق على مشجب، قبعة، اشارات على حضور بشري قد غاب. حضور كامل لكتب، يؤكد غياب الحضور البشري.
هناك تاريخ طويل وتعبيرات كثيرة للتماثل بين الذات والكتاب. مثلا، يعرّف جان لاكان (Lacan) من خلال اقتباس شهير اللاوعي بـ "الفصل الناقص" أو المشطوب في تاريخي4. هذه الاستعارة تشدد على الناقص، على الصفحات التي تم انتزاعها، ولكنها منتزعة من مجموع، وهذا المجموع يقارَن هنا بالكتاب: كتاب يجب قراءته، تحليله وحتى قراءة ما ورد في صفحاته المشطوبة.
الكتاب، في العديد من السير الذاتية، ليس تصوّرا للذاتي فقط، ولا استعارة لافتة: التماثل بين الذاتي و الكتاب يتحول الى طموح، تماثل، مشروع حياة-كتابة. الرابط ذات-كتابة في كتب السير الذاتية هو الأكثر حميمية: ليس علاقة تملّك فحسب، ولا قراءة، ولا حتى مجرد كتابة، ككاتب يكتب كتابا. هناك مجرى حياة تتم كتابته ووضعه في مجلد، والكتاب الكامل يمثل كاتبه ويجسده. الذات تكتب نفسها الى ان تصبح كتابا.
ما الذي في الكتاب بحيث يتحول الى استعارة للذات، بل لأكثر من استعارة بمعنى الرغبة في التماثل الحقيقي، والتحول لكتاب؟ يبدو أن قسما من الجواب يكمن في الازدواجية التي سبق ذكرها: كون الكتاب في الوقت نفسه غرضا جامدا ككل الأغراض، وذلك الذي يحظى بحياة رمزية بمعنى المضامين المكتوبة في طياته (كلمات، أفكار، تأملات)، والتي تكمن قيمتها ووجودها فيما يتجاوز آثار حبر الحروف المطبوعة. الكتاب تصوّر عن الانسان، وهو ايضا يعيش بالتزامن في عوالم رمزية وفي جسد ملموس. تذكّر نوغا عنبار في عملها فانتوم أنه يوجد بعد رمزي للجسدي أيضًا: تعرض عنبار صورا تم انتقاؤها كعيّنات من جسدها وانتاجها بواسطة مسح MRI أو بمساعدة مجهر الكتروني ماسح (SEM). هذه الصور مطبوعة على طول محاور عامودية على أوراق معلقة، وهكذا يتحول الجسد أيضًا الى معلومات، الى موقع أرشيفي.
من جهة ثانية، الكتاب هو انغلاقات، بداية ونهاية لذات واحدة، إنه سردية ومجرى حياة. الكتاب هو مجموع مستقل مع روابط لمجاميع اخرى، ويتكلم. بموازاة ذلك، على الرغم من "المجموعية" المغلقة والمُحكمة للكتاب، فهو كذلك كثرة من مجريات الحياة الممكنة والحقيقية، معمل لتمتين الأفكار والمشاعر. في فقرة تتناول فكرة "ذاتي ككتاب" الشهيرة في كتابة السيرة الذاتية الفرنسية، يتوقف باحث السير الذاتية في الأدب الفرنسي مايكل شيرنغهام (Sheringham) عند الاغراء الكامن في الكتاب بوصفه استعارة للذات الانسانية، وفي هذه الحالة للذات المحددة التي كتبت الكتاب المحدد:
"من جهة، الكتاب ممتلئ ومتماسك (solid), متحرك، ذو حجم (voluminous)، مرجعيّ، ذو سلطة، ديمومي: نصُب، متحفيّ. يمكن رؤية الحقل الصوري للذاتي كمجلد، من مونتين وحتى روسو [...]، شاتوبريان، لريس وبورت. ولكن من جهة ثانية، الكتاب أيضًا كُثرة وتفرّع (voluminous) بمعنى سابق أيضًا للكلمة: "ممتلئ بالمنعطفات، يجمع ويتألف من تعرّجات ومنحنيات" (OED). لدى الكتاب المذكورين من مونتين وحتى روسو، يمكن تعقّب تماثلات تبدو للمتأمل فيها تعرجات ومنحنيات الكتابة كما لو انها تعكس كثرة الذاتي، رسوخه أمام محاولة الامساك به. في هذه الحالة، شيء كموضوع للفيتيشية، ليس صورة مرآة للذاتي يمكن أخذها من الكتاب الى الواقع، بل كثرة من الاشارات، الكلمات والاثار للذاتيات الناشئة حين يقوم كاتب السيرة الذاتية "بالشغل" على ذكريات، فرضيات ووثائق."5
الكتاب واحد لكنها متعدد. ثابت، أبدي، لكنه متغيّر، يحتوى ثراء داخليا. معرض "بيبليولوجيا" يقترح بحثا وتقصيًا لهذه الجوانب وأخرى كثيرة غيرها. معرض ممتاز يحث على التفكير.
معرض "بيبليولوجيا": الكتاب كجسد"، اختتم في متحف بيتح تكفا للفنون بتاريخ 26 اذار 2016 (قيّمان: رفائيل سيغال ودروريت غور أريه)
- 1. فولتير بنيامين "إنني أفكك مكتبتي"، نصوص مختارة أ: المتسكع، ترجمه (للعبرية) دافيد زنغر (تل أبيب هكيبوتس همئوحاد، 1992، ص 107-113, 110-11.
- 2. فولتير بنيامين "إنني أفكك مكتبتي" (بالعبرية، ص13)
- 3. مثلا:: Mcgrane, Sally. “What Became of the Jewish Books?” The New Yorker, February 28, 2014
- 4. Jacques Lacan, “The Function and Field of Speech and Language in Psychoanalysis,” in Écrits. A selection, trans. Alan Sheridan (London and New York: Routledge, 1989 [1966]), p. 38.
- 5. Michael Sheringham, French Autobiography: Devices and Desires (Oxford: Clarendon Press, 1993), pp.