ألعاب الأرواح

قام المبشّر وعالم الأنثروبولوجيا الألماني مارتين غوسيندا، بين السنوات 1918 و1924, بعدة جولات في أرض النار وغرب بتاغونيا، أقصى نقطة جنوبية في تشيلي والعالم كله. علما ميكولينسكي تكتب عن المعرض المتنقل لصوره الفوتوغرافية، والتي وثّقت لقاءاته مع الشعوب الأصلانية- سيلكنام، يامانا وكاوسكار

Advertisement

 

قام المبشّر وعالم الأنثروبولوجيا الألماني مارتين غوسيندا (Gusinde)، بين السنوات 1918 ו-1924, بالعديد من الزيارات الى أرض النار وغرب بتاغونيا، أقصى نقطة جنوبية في تشيلي والعالم كله. هذه المناطق تُعرف بمناخها المتطرف وظروف الحياة القاسية فيها. التقى غوسيندا في سفراته المتعددة شعوبًا أصلانية من ثلاث مجموعات: السيلكنام (Selk’nam), الياغان (Yagán) والكاوسكار (Kawésquar) – حيث وثّقهم بكاميرته. وقد أفضى هذا التوثيق الى مجموعة أسطورية مؤلفة من 1200 نيغاتيف، وهي محفوظة اليوم في Anthropos Institute de Sankt Augustin, في ألمانيا. وقاد الاهتمام الذي أثير مؤخرًا بغوسيندا الى إعادة اكتشاف المجموعة من قبل الناشر الفرنسي خافيير برال (Barral), الذي أنتج لها كاتالوغ أنيقًا، ومعرضًا في إطار مهرجان Les recontres de la photographie في أرليه، فرنسا، عام 2015. وأفضى المعرض الى تقديم 1500 من صور غوسيندا في الأرجنتين وفي متاحف مختلفة في أنحاء تشيلي خلال السنتين 2016-2017، في إطار جولة بدأت بالمتحف الوطني للفنون (Museo Nacional de Bellas Arte) في سنتياغو – فضاء العرض الأثرى في تشيلي. نظم خافيير برال المعرض بالاشتراك مع اليزابيث بارث (Barthe) – قيّمة مجموعة الصور في متحف كاي برانلي (Musée Quay Branly) – وكان الهدف المعلن من تنظيم المعرض مضاعفًا – كشف القيم الجمالية للمعرض وكذلك التعريف بثقافة وتراث المجموعات الاثنية في بتاغونيا. البنى الاجتماعية، الأساطير واللغات لدى هذه المجموعات اندثرت تمامًا تقريبًا أو انقرضت، على أثر توسّع الاستعمار التشيلي والارجنتيني الى هذه المنطقة في القرن الـ 19 ومطلع القرن العشرين.

 

P245_Esprit_YincihauaJPG.jpg

Lʼesprit Yincihaua et son masque phallique. Kawésqar, 1919-1924 © Martin Gusinde / Anthropos Institut / Éditions Xavier Barral
Lʼesprit Yincihaua et son masque phallique.
Kawésqar, 1919-1924

© Martin Gusinde / Anthropos Institut / Éditions Xavier Barral



كان غوسيندا في مطلع حياته مبشرًا، لكنه تحوّل بموازاة ذلك الى عالم في الأنثروبولوجيا وعمل لمدة عقد من الزمن تقريبًا في المتحف الاثنولوجي في سانتياغو. ونال لاحقًا درجة الدكتوراه من جامعة فيينا. تطرح الصور التي التقطها تساؤلات حول وظيفة التصوير التقليدية في خدمة البعثات العلمية، وعلى نحو ادقّ - موقع الصور في سيرورة البحث الانثروبولوجي. إن هذا العمل يوفر مثالاً على التحرك الذي طرأ في منهج هذا الحقل مطلع القرن العشرين، إثر تغيّرات متزامنة في تعريف المجال: ارتفاع مكانة الصورة كأداة علمية، والتي ترافقت مع الشعبية المتزايدة للعمل الميداني في الحقل بكونه التوجه الرائد في البحث، وكذلك الانتقال من التعلّم من المجموعات المعروضة الى الحقل، من الموضوع الى الذات، ومن التخصص الخارجي الى المعايشة الشخصية والاستناد الى المعرفة المقدمة من أبناء المجتمعات نفسها1 لقد تحول التصوير الى الأداة المفضلة لغرض جمع المعطيات في الحقل، وقاد، كما تدل الصور في المعرض، الى إنتاج تقنيات توثيق وتصنيف أكدت ادّعاء الوسيط بشأن صدق التمثيل، سواء أكان لظروف معيشة، لباس أو أفراد داخل المجتمعات الموثقة.

ومثلما يدل عدد من الأبحاث، وخصوصًا مؤلّف اليزابيث ادواردس (Edwards) حول التصوير والانثروبولوجيا2، فإن الأمور لم تكن سهلة. وبالفعل، فاللحظات الجميلة لمعرض "أرواح بتاغونيا" (Los espiritos de la Patagonia) هي بالضبط الصور التي تمكن من القاء نظرة على جوهر التصوير التوثيقي المركب، وتكشف الطابع الصناعي للبحث الانثروبولوجي، بما في ذلك الصور التي يظهر فيها غوسيندا نفسه، بنظاراته المستديرة ولباسه الأوروبي، في حين يصبغ وجهه أشبه بمواضيع بحثه، الواقفين الى جانبه في الصورة. هذا السياق يرمز الى انه لم يحاول الانغماس تمامًا أو الاندماج في الثقافة التي بحثها، بل أدى دورًا في داخلها.

 

P242_Esprit_YincihauaJPG.jpg

Lʼesprit Yincihaua couvert de blanc dʼos broyé. Kawésqar, 1919-1924 © Martin Gusinde / Anthropos Institut / Éditions Xavier Barral
Lʼesprit Yincihaua couvert de blanc dʼos broyé.
Kawésqar, 1919-1924

© Martin Gusinde / Anthropos Institut / Éditions Xavier Barral



إن مساهمة غوسيندا الأهم لبحث الثقافات المحلية لأرض النار وغرب بتاغونيا كانت توثيق طقس تدشين الـ"هين" (Hain) – لقبيلة السيلكنام، ويتميز بالاستعراضية المرسخة وبالخيال. كان يمكن للطقس الذي يجسد انتقال الفتيان الى مرحلة البلوغ أن يستمر حتى خمس سنوات. وقد شارك غوسيندا ووثق طقس الـ"هين" الأخير، الذي جرى بصيغة مختصرة استمرت 50 يومًا. وفقًا لعالمة الأنثروبولوجيا آن تشابمان (Chapman), التي ألفت البحث المؤسس حول طقس الـ"هين" واستخدمت الصور التي وثقها غوسيندا كمواد بصرية، كان الطقس في الوقت نفسه "تقليد تدشين، وسيلة للسيطرة على النساء، ومركزًا رئيسيًا للعلاقات الاجتماعية وتنفيذ تعاليم الدين"3 كان طقس الـ"هين" مؤلفًا من أقسام عدة ووظائف وامتحانات مختلفة، طالبت الفتيان بالتغلب على الخوف واظهار الشجاعة واليقظة. كانت القصة الأصلية تستعاد للفتيان في أحد أقسام الطقس الهامة: جرى أخذهم الى كوخ مظلم، حيث هوجموا، وفقًا لمعتقداتهم، من أرواح شريرة وخبيثة. بعد ذلك تمت مكاشفتهم بأن الأرواح ليسوا سوى رجال من القبيلة يضعون الاقنعة التنكرية. بعد هذا الكشف تنكر الفتيان بأنفسهم لأرواح وعادوا الى بيوتهم، حتى يواصلوا طقس الـ"هين" كشركاء كاملين.

صور طقس الـ"هين"، درّة التاج في عمل غوسيندا، تتفاعل في عدد من المستويات التي تتجاوز كون الصورة أداة توثيقية فقط، مثلما رأى علماء الأنثروبولوجيا. صور غوسيندا تكشف الطابع المركب للطقس، تفسر جذوره الأسطورية، تسلط الضوء على صفاته المهددة وتكشف الاستعراضية المرسخة فيه. في إحدى الصور فتَيان يبدو عليهما الملل خارج كوخ ينتظران بدء النشاطات، واخرى تصف ما يجري خلف الكواليس تحضيرًا للطقس – رجال يقومون بالتنكر لأرواح. الكثير من الصور الأخرى تظهر التنويعة الواسعة للأزياء التي تمثل شخوصًا ووظائف، مثل شورت (Shoort), الذي يرعب النساء ويعذب الأطفال، ويقف أمام الكاميرا والمصور ويعرض شخصيته. حين تُكشَف مركبات الطقس، ويجري أمام الكاميرا، تعكس الصور طبيعته متعددة الطبقات وتراوحه بين الخيال والواقع ولدى جماهير ذات توجه مختلف نحو المعلومة: العالمون – الرجال المتنكرون الذين يؤدون وظيفة الأرواح، والدائرة الخارجية – الأطفال والنساء الذين يخافون من الأرواح.


P247_chamanJPG.jpg

Chaman. Kawésqar, 1919-1924 © Martin Gusinde / Anthropos Institut / Éditions Xavier Barral
Chaman.
Kawésqar, 1919-1924

© Martin Gusinde / Anthropos Institut / Éditions Xavier Barral



للأسف الشديد، هذا التوجه المركب للصورة كأداة توثيق وعرض لا يجد تعبيرًا له في أعمال ثلاثة فنانين معاصرين مشاركين في المعرض. هذه الأعمال تهدف الى الجسر على السنين التي مرت منذ ان التقط غوسيندا صوره، خلق سياق واتاحة امكانات تعبير للشعوب الاصلانية في الحاضر. أعمال باس إراسوريس (Errázuriz), ليوبولدو بيزارو (Pizarro) وغبريئيلا ألت(Alt) تتخذ توجهًا غير نقدي نحو التصوير التوثيقي، ويتلخص بأعمال فاترة قياسًا بأعمال غوسيندا. المصورة التشيلية المعروفة باس إراسوريوس عرضت سلسلة بعنوان "رحالة البحر" (Nomades del Mar), المؤلفة من بورتريهات لأبناء الياغان المسنين وظروف عيشهم القاسية، في حين كان فيلم ألت، الذي يشكل تكريمًا للمعرفة المفقودة في ثقافة الياغان، مرشدًا مفصلا وطويلا لبناء قارب الكانو. ويبدو ان الفنانين الثلاثة يستخدمون منطق التصوير العلمي ويعملون في اطار معاييره وزعمه امتلاك الحقيقة، على الرغم من كونه خلافيًا منذ أيام غوسيندا.

 

Los Espiritus de la Patagonia: Selk’nam, Yagán y Kawésquar. Museo Nacional de Bellas Artes, Santiago de Chile, October 19 - December 18, 2016; Museo Martin Gusinde in Puerto Williams, January 12 - March 31, 2017; Museo Regional de Magallanes, Punta Arenas, June- July 2017; and three other venues throughout Chile.

  • 1. Wilfried Van Damme, “Siberian Ornaments, German Scholars, and a Transitional Moment in the Anthropology of Art, c. 1900,” Art History, 38.3, June 2015, p. 512-535
  • 2. Elizabeth Edwards, Raw Histories: Photography, Anthropology, and Museums. (Oxford and New York: Berg, 2001)
  • 3. Anne Chapman, Drama and Power in a Hunting Society: The Selk’nam of Tierra del Fuego. (Cambridge and New York: Cambridge University Press, 1982), p. 149.