دعوة لحِفظ الذاكرة عبر نظرة مستقبلية
كيف تتجسّد فلسطين عبر الفن المعاصر، وكيف يتعامل الفنانون الفلسطينيون اليوم مع مفهوم الذاكرة وفكرة الماضي؟ في أعمال الفنانة لاريسا صنصور، طُرِحت أسئلة عديدة حول أفكار القدسيّة والوطن والذاكرة بشكلٍ يساهم في تحويلها إلى وهم. في المراجعة التحليلية وبنظرة نقدية متعمقة، يقدم الباحث حسني الخطيب شحادة صورة موسعة عن المكان والحوار والذاكرة والصراع الذي تعيشه الشخصيات في عمل عرضته صنصور مؤخراً في الجناح الدنماركي في بينالي فينيسيا الثامن والخمسين.
الولوج الى ذاكرة شعب ليس بلعبة، أو بالأحرى ليس بشيء بسيط يمكن لأيّ فنّان، مهما كان مبدعا، أن يخوض تجربة نبشها أو تناولها، وخاصة بمثل هذا النوع والأسلوب الفنّيّ الذي تناولته الفنانة فلسطينيّة المنشأ لاريسا صنصور. صنصور (1973) هي فنّانة فلسطينيّة تقيم في لندن، ويتميّز عملها الفنيّ بكونه متعدد التخصّصات ويتضمن استخدام الفيلم والتصوير الفوتوغرافي والتجهيزات الفنية والأعمال التركيبيّة والنحت). المنشأ في عملها الأخير المعروض ضمن بينالي فينيسيا ال 58. ها هي صنصور تخوض هذه التجربة من خلال عرضها لفيلم بعنوان "في المختبر"، حيث يعتمد العمل على عدة عناصر فنيّة، فنجد النصّ المميّز الذي قامت الفنّانة بصياغته كسيناريو للفيلم، وكذا التصوير والإنتاج بمشاركة الفنان الدانماركي سورين ليند (Soren Lind)، وهو محصلة جهود مشتركة دامت سنوات. إنّها تجربة ذاتية فريدة من نوعها في مناخ انتاج الفنّ الفلسطيني الذي يحاول مؤخّرا أن يخرج من قوقعة المحليّة ليصل إلى العالميّة. لعلّ هذا المناخ الفرديّ والذاتيّ أيضا المتاح للفنان الفلسطيني، والذي يكاد لا يجد مؤسّسة ما ترعاه، وبالطبع لعدم وجود دولة فلسطينيّة أو نظام حكم ما يستطيع دعم مشاريع فنيّة وثقافيّة، وهذا بحدّ ذاته لعلّه هو الذي يتيح للفنّانين والفنّانات الفلسطينيين أينما تواجدوا، أن يُبدعوا وينتجوا أعمالا فنيّة، هي في نهاية الأمر حصيلة تجارب فرديّة، ولكنّها تمثل بالطبع ذلك الواقع المعقّد لأفراد هذا الشعب.
بدايةً، لا بدّ من القول بأن المعرض الذي يضمّ قاعة لعرض الفيلم بقناتين، وقاعة أخرى لعرض عمل تركيبي يرافقه الصوت، قد فاجأني لدى زيارتي في المرّة الأولى لأجنحة العروض المختلفة التي تمثّل دولا مستقلة، تلك الدول التي استطاعت بحكم الأسبقيّة التاريخيّة لاستقلالها أن تقتني جناحا في منطقة الجارديني في أرض المعارض في البندقية. لهذا السبب، لا نجد اليوم تمثيلا لأي جناح عربيّ يمثّل دولة عربيّة مستقلة سِوى جناح جمهورية مصر العربية. وللتنويه فقط، فإنّ إسرائيل قد استطاعت أن تؤسّس لها جناحا خاصا في مركز الأجنحة الفنّية الدولية بجانب العديد من الدول الأوروبيّة، وليس من قبيل الصّدفة أن تجاور الجناح الأمريكي، حيث منحت الولايات المتحدة الامريكية قطعة الأرض التي كانت تابعة للجناح الأمريكي كهدية للدولة الفتيّة في الخمسينات من القرن الماضي، وذلك بعد ان انتهت مرحلة قيام وبناء أجنحة لدول مستقلة هناك.
وقبل العودة لعرض وتحليل فيلم صنصور لا بدّ من ذكر تمثيل الفنّ الفلسطينيّ من خلال اختيار الكانز الرئيسي للفنّانة المقدسيّة رُلى حلواني، حيث تعرض مجموعة من أعمالها الفوتوغرافية المميّزة في الجناح الرئيسي للبينالي، وهي بذلك واحدة من بين ال-79 فنّانا الّذين تمّ اختيارهم من شتى أنحاء العالم، من قبل رالف روغوف (Ralph Rugoff)، القيّم الرئيسيّ لبينالي البندقيّة لهذا العام. تقوم حلواني بعرض مجموعة رائعة من أعمالها التصويريّة لتصل بتجربتها الفنيّة إلى الجناح المركزي المميّز لهذا العام في منطقة الجارديني، هذا بالإضافة لعرض مجموعة أخرى من أعمالها في منطقة الأرسنال. ولنا وقفة مع أعمالها في مقال منفصل.1
تجربة لاريسا صنصور هي تجربة فريدة من نوعها، بحيث تتخطّى من خلال عملها الراهن (الفيلم والعمل التركيبيّ) العديد من المسلّمات التي تقبع في ذهنيّة الغرب حول فلسطين، شعبًا وأرضًا وفنًّا. بكلّ هدوء، وبدون "طنطنة" زائدة ورجال سياسة يتشردقون بالحديث حول النضال السياسيّ الطويل في العديد من المحافل الفنيّة التي يُدْعَوْنَ إليها... نجد هذا الفيلم يُعرض في قاعة لا تلمّح أصلا بأنّ لها أيّ علاقة بفلسطين، أو حتى بأي نزاع عربيّ أو ذكر للصراع مع الاحتلال الإسرائيليّ... بكلّ هدوء تدخل قاعة العرض للجناح الدانماركي. قاعة عادية جدا لعرض عمل سينمائي على شاشتين كبيرتين. تجلس أو تقف، تشاهد حوارا يدور أمامك بين شخصيتين نسائيتين تُصيغان كلمات وجملا بلغة عربيّة محكيّة، تكاد تسمعها في أزقة مدينة الناصرة. وأحيانا تشعر بأنّها لغة تحملك حنينا إلى مدن فلسطين المقدّسة (القدس والناصرة وبيت لحم)، أو تراودك المخيّلة بأنها لغة تسمعها في احدى مدن فلسطين المحتلة عام 1948، كحيفا واللد وعكا والرملة وعسقلان بحكم المشاهد المتتابعة في الفيلم لكارثة قد حصلت في الماضي. إنّه تأثير العمل الفنيّ على المشاهد في محاولة تمثيل الواقع بشكل ملغوم، حيث يدور حوار طويل، على مدى نصف ساعة تقريبا، بين امرأة مستلقية على السرير، وهي في النزع الأخير، تشارف فعلا على الموت. بينما تأتي فتاة شابة لتروي عطشها قبيل لفظ أنفاسها الأخيرة، فتحاول مواساتها في تلك اللحظات. من خلال هذه البداية غير المتفائلة فعلا يبدأ الحوار بينهما. حوار حول الذاكرة: ذاكرة الأشياء وذاكرة الوطن، ذاكرة النفس البشرية المتقلّبة التي مرّت بتجربة الطرد والتشريد والهروب للبحث عن ملاذ في بيت آمن فتصل في النهاية الى لا-مكان. هذا اللا-مكان هو بحدّ ذاته محور رئيسيّ في الفيلم، حيث يتمثّل بكونه مختبرا تحت الأرض مبنيّ من الاسمنت المسلّح، بارد بكلّ ما في برودة هذا العنصر للبناء وكونه ينعدم فيه الإحساس، ليكون نقيضا للحوار الذي يجري بين الشخصيتين!
الفيلم لا يترك لك لحظة للتشتّت أو الضياع، فالحوار شيّق ومثير، حيث يدور بين شخصيتين لهما حضور أخّاذ على الشاشة الكبيرة. الفنّانة هيام عباس تُذهلك بحضورها وهي شاحبة اللون، وبالكاد تنطق الكلمات وهي على سرير الموت، لكنّ كلماتها تخرج من بين شفتيها وكأنها منحوتات صخريّة تجرحك وتترك في داخلك أثرا في كلّ مرّة تقوم الكاميرا بالتركيز على ملامح وجهها وشفتيها عن قرب (كلوز-أب) لتنطق بالكلمات وتعبّر عن رأيها، وهي تحدّق في الفتاة الشابّة. فهي تتحدّث عن ذاكرة تكاد أن تنمحي وتندثر بعد مرور سنوات طِوال، وهي قابعة في هذا المختبر الذي تحت الأرض. هذا المختبر الذي أسّسته والمشيّد من الإسمنت المسلّح الرمادي اللون، والذي نراه بالأسود والأبيض، كبقية مشاهد الفيلم، ليزيد من غربة المكان.
من خلال الحوار، تروي ذاكرتها عن البيت، وعن موسم الزيتون وعن البلدة الوادعة قبيل الدمار الشامل الذي أصابها إثر كارثة بيئيّة مهولة تسببت في هدم البلدة وتدميرها عن بكرة أبيها، بسكانّها وبيوتها وأماكن العبادة التي كانت فيها، بساتينها، حاراتها وأزقتها، فغاب عنها سكانها، حيث لجأوا للهرب إلى مكان آخر لا ندري إلى أين أو إذا ما بقوا على قيد الحياة. تحاول الفنانة صياغة الذاكرة بوصفها لكلّ ما كان في الماضي الغير بعيد. هذا الوصف الذي يأتي للمشاهد متمثّلا من خلال صور أرشيفيّة مدمجة داخل الفيلم.
المكان – قبو عميق في باطن الأرض قد بقي محميًّا من الدمار الذي يسود سطح الأرض! وهذا المكان قد أسّسته، كما ذكرنا سابقا، امرأة تدعى دُنيا (أداء الفنانة هيام عباس)، حيث استطاعت أن تحمل معها بعض الجينات التي تقوم بعملية استنساخها في كائنات جديدة للتمكن بواسطتها في المستقبل من استعادة الماضي. وبهذا فإنّ الفيلم يتبع أفلام الخيال العلميّ، حيث يتمّ تحويل مفاعل نووي مهجور في مدينة بيت لحم التوراتية إلى بستان ضخم. وباستخدام بذور الإرث والجينات التي تمّ جمعها في الأيام الأخيرة قبل نهاية العالم، تستعد مجموعة من العلماء لإعادة زراعة التربة أعلاه للخروج الى الحيّز القديم من جديد.
معظم مشاهد الفيلم تدور في جناح المستشفى بالمجمّع الذي يقبع تحت الأرض، حيث يدور الحوار بين مؤسّسة البستان، دنيا تظهر على فراش موتها، بينما تأتي لزيارتها علياء الصغرى (أداء الفنانة ميساء عبد الهادي). ولدت علياء تحت الأرض، فهي لا تعرف أي تجربة حياتية أخرى خارج هذا المختبر المحميّ من مخلفات الكارثة، وهي عبارة عن كائن خُلِقَ كجزء من برنامج شامل للاستنساخ، ولم تر أبدًا تلك البلدة التي من المقرّر إعادة بنائها وإحيائها من جديد من خلال تلك البذور التي جلبتها معها دنيا.
هذه الشخصيات الرئيسيّة في هذا الفيلم – هما الشخصيتان الوحيدتان في هذا الفيلم، بالإضافة لمقطع عابر من صور لذكريات الماضي لطفلة، هي بنت دنيا، التي لم تنجُ من الكارثة. لا نعرف في البداية العلاقة بين دنيا وعلياء، ولكن بعد تطوّر الأمور والحوار نبدأ بتفكيك العلاقة المركّبة التي تربط بينهما. فعلياء، الفتاة الشابة، هي الشخص الوحيد الذي بقي في هذا العالم المستقبلي، والتي استطاعت أن تحافظ وتحوي في داخلها جينات تلك الذاكرة التي نُقِلَت من تلك المرأة المسنّة التي على وشك الموت. وبهذا يأخذنا هذا الفيلم لنتصوّر عالما مستقبليا- خياليًّا مستوحى من سياق أفلام هي أشبه بأفلام الخيال العلميّ. ولكن الفيلم بكلّ مكوناته ما هو سوى وسيلة فنيّة لاستفزاز ذاكرة المشاهد وتذكيره بما جرى من أمور على أرض الواقع. إنّها محاولة الفنّانة الخروج من قوقعة الفنّ الواقعيّ والسرد التاريخي التوثيقي المستهلك لتعبّر عن حالة فلسطين بما يشبه الخيال العلميّ. وبذا فهي تُحَمّل الفيلم عناصر من السخرية السوداء التي بدأت تطغى على أعمالها في الآونة الأخيرة، هذه السخريّة التي بدأت تأخذ حيّزا أكبر في أعمالها الأخيرة. من خلال مقابلة مع الفنّانة (2014) تعترف بأنّها كانت تميل في أعمالها الأولى الى عنصر الفكاهة أكثر من السخرية أو السخرية السوداء، ولكن أعمالها الأخيرة قد بدأت تفقد تدريجيا هذا الجانب الفكاهيّ وتمتلئ أكثر وأكثر بالسخرية السوداء، ولكنّها لا تزال تحوي تعليقات ذات مستويات متعددة. إنها تحتاج الى الجرأة لتنفيذ هذه الأعمال الفنية وبهذا الأسلوب، وخاصا في الوضع الحسّاس الذي تعيش فيه كفنّانة فلسطينيّة تقيم في المهجر. فهي، ما تقول، تختار دومًا العمل في منطقة ما تقع ما بين المثاليّة (اليوتوبيا) واللا-مثاليّة (الديستوبيا).2
سرعان ما يتطور الحديث الذي يدور بين الشخصيتين في الفيلم إلى حوار ساخن حول ماهية الذاكرة والمنفى والحنين إلى الماضي. من الأمور المحوريّة في مناقشتهما هذه نجد العلاقة المعقّدة بين الماضي والحاضر والمستقبل، حيث توفّر مدينة بيت لحم الممحيّة خلفية مشحونة بالسرد والسياسة والرمز، وحيث نشاهد وسيلة التنقل الوحيدة في المختبر الذي يقبع تحت أرض تلك المدينة المندثرة، تلك التي تستعملها علياء من خلال المشاهد المختلفة، هي عبارة عن أنفاق وممرات ملتوية ودرجات لا تنتهي! أمّا مادة البناء – فهي الإسمنت المسلّح الذي يذكّرنا بدمار البشرية ومحاولة الحفاظ على بقاء ما للحياة بعد كلّ هذا الدمار! الاسمنت المسلح هو عنصر يحتاج الى شجاعة في توظيفه في عمل فنيّ من هذا النوع، وخاصة بأنه يتعلّق بالمحو والبناء في آن واحد. فتوظيف المكان المبني بمادة الاسمنت المسلح هو النقيض تماما للبيوت الحجريّة التاريخية التي نراها في الفيلم قبل الدمار، حيث تحمل ملامح البيت الفلسطيني، بكلّ ما يحمله من جماليات كالنوافذ الثلاثيّة بزجاجها الملوّن، الأقواس، الأحجار، القاعة المفتوحة والمضاءة بنور النهار طيلة اليوم، باحة البيت بالياسمين والورود، البلاط الملوّن، العاب الأطفال البسيطة، كلّها رموز تقوم الفنّانة بتوظيفها للتعبير عن ذلك التاريخ الذي تريد دنيا حفظه داخل تلك الذاكرة المستنسخة في جسم الفتاة الشابة علياء. حتى الطبيعة الخلّابة ومواسم قِطاف الزيتون، وما الى ذلك، كلّه قد تحول إلى خلايا ذاكرة قد استنسخت وحفظت تحت الأرض بعد حدوث الكارثة البيئيّة التي دمّرت كلّ شيء.
لا أدري مدى نجاح الفنّانة صنصور من خلال هذا الفيلم في توظيفها لصور عديدة من الأرشيف الفلسطيني الذي يعيد للمتلقي جزءا يسيرا من تلك الذاكرة التي تحاول الفتاة الشابة أن تُلغيها أو تمحوها من بقايا ذهنها لكونها مجرد ذاكرة زُرِعَت فيها، ودون أن تكون فعلا حوادث أو تجارب حقيقية بالنسبة لها. في حوارها مع المرأة المسنّة (الأم-الذاكرة) تكرّر جملا تحاول من خلالها أن تموضع تلك الذاكرة في مكان غير رئيسيّ بالنسبة لوعيها الآنيّ، حيث تقول إنها لا تدري هل هذه الأشياء التي تتذكرها الآن في هذا المختبر هي فعلا محصلة تجربة حقيقية لحياة قد عاشتها في الماضي وفي الواقع، أم أنّها مجرد أشياء متخيّلة قد غُرِسَت في داخلها عمدًا لتحملها معها وتحافظ عليها في المستقبل، ومن ثمّ ستكرّرها في أولادها، أو تغرسها بالتالي في ذاكرة أجيال مستقبليّة. إنّه حوار فذّ، بل ومستفزّ لكلّ فلسطينيّ وفلسطينيّة خاصة، لكونه يشكّك في الماضي الذي كان قبل الدمار الشامل، وما قبل التشريد واللجوء، حيث كان الوطن حُلما ساحرًا لا يشوبه أي شيء قد يدلّ على قرب زواله... فجاءت الكارثة البيئيّة في الفيلم (لعلّها رمز لنكبة عام 1948) لتدمّر كلّ شيء.
الحقيقة بأنّ لا ذكر في هذا العمل لأيّ عدو معيّن يقف وراء الكارثة التي دمّرت بيت لحم، لا يهوديّ ولا صهيونيّ محتَلّ، ولا لغربيّ مستعمِر. لا ذكر البتّة للاحتلال، ولا ذكر لجرح دامٍ أو قتل أو حرب ما بالمعنى الواضح للأمور، ولا ذكر لنكبة فلسطين، أو لتهجير سكانها الى مخيمات اللجوء والموت استنادًا لأحداث واقعيّة التي جرت فعلا على أرض فلسطين. يغيب كلّ تلميح واضح لكلّ ما جرى ولا يزال يجري في فلسطين المنكوبة: لا تصوير للجدار العازل، لا ذكر لمصادرة أراضٍ أو هدم بيوت على يد قوات الاحتلال، لا تمثيل لقتل ولا تعذيب ولا سجون. ولكنّ الفيلم يحوي مشاهد لا تُنسى، حيث تُطْبَعُ في ذاكرة المشاهد، بعد مشاهدة الفيلم طبعا، لتتحوّل إلى ذاكرة جديدة، وكأنّها عملية غرس لذاكرة قد تمّ استنساخها من أنسجة السيّدة-الأم الى ذاكرة المُشاهد، وكأنّه يتقمّص بذلك شخصيّة الفتاة الشابة. إنّها محاولة الفنّانة تجسيد مشكلة الذاكرة وعرضها/غرسها من جديد بشكل فذّ وذكي جدا.
هناك بعض المحاولات التي تكرّرها الفنّانة صنصور في هذا الفيلم، حيث تعيد لنا ملامح وأساليب فنيّة تكاد تكون ضرورة في الفنّ الفلسطينيّ منذ إرهاصاته الأولى، مع تأسيس الحركة الفنيّة التشكيلية (على يد الفنانين أمثال إسماعيل شموط وتمام الأكحل وسليمان منصور ونبيل عناني وإبراهيم هزيمة وعبد عابدي وغيرهم)، فنجد توظيف الرموز التراثية لفلسطين، كاللباس والتطريز الفلسطيني وتصوير للحياة اليوميّة الحالمة كالتي كانت شائعة (على الأقل في الذاكرة الجماعية المتلقّاة)، حركة البيع في الأسواق، مشاهد الكنائس والجوامع والصوامع في القدس وبيت لحم، تصوير موسم قِطاف الزيتون، لعب الأطفال، تصوير البيوت العربية العريقة بطابعها المعماريّ العثمانيّ القديم، ببلاطها الملوّن (الذي نراه أيضا في القاعة المقابلة التي تحوي على العمل التركيبي المكمّل للفيلم)، مشاهد الأزقّة الملآى بحركة الحياة من نساء ورجال وأطفال، التأكيد على تواجد رجال الدين بلباسهم الخاص كجزء من الذاكرة الوطنية، أبراج الكنائس والقباب والبيوت والشبابيك والسهول ومناظر الطبيعة الخلابة في فلسطين. كلّ ذلك تقوم صنصور بضمّه واحتوائه داخل هذا الفيلم، من خلال استعمالها لصور أرشيفية بالأسود والأبيض، فتحيي بذلك بُعْدًا جديدًا من تلك الذاكرة المتخيّلة، وبذلك فهي تتلاعب بمشاعر المتلقّي أو المشاهد. لكنّ الحبكة الفنيّة للفيلم بكونه ينحو نحو الخيال العلمي يستنفذ هذه الرموز والصور من واقعيتها المطلقة، حيث تعيد صنصور توظيفها من جديد بشكل غير عاديّ، بل على النقيض تماما من استعمالات الفنّ الفلسطيني لترويج سياسيّ واضح ومباشر على الأغلب، اذ تأتي كلمات الفتاة الشابة علياء لتقوّض عملية الاستناد على تلك الرموز لبناء ذاكرة الوطن:
علياء (ميساء عبد الهادي): "انا ما بتهمني الشعوب اللي بتحكي عنها، لا قصصهم ولا طقوسهم ولا تكرار كلّ الكليشيهات تبعتهم. هذا النضال، هاي الأرض، هاي المواسم، هاي الذاكرة اللي كلّها استعارات، هاي الروايح، هذا النسيج، هذا التاريخ يللي قلّصتوه لاكم من رمز واكم من وثن، هذا القُدّاس اللي بيأرّخ فقدانا، هذا الطاعون، هاي الكوارث، هذا الرحيل!"
هذا النقد الذي توجّهه الفتاة الشابة في حملها لجينات الذاكرة ما هو سوى محاولة منها لطرد أشباح الماضي التي تحاول السيطرة على ذاكرتها. فهي ترفض التعلق بالذاكرة، تلك التي حسب أقوال دنيا – الأم، هو السبب الرئيسي للالتصاق بالحياة ومواصلة العيش، وبهذا فإنّ الذاكرة تتحوّل هي ذاتها الى حياة، بديلا للحياة! ومن هنا تأتي شكوك الفتاة المستنسخة للذاكرة حول بناء مستقبل جديد خالٍ من الذاكرة. فهل العالم الجديد يمكنه الانفصال عن العالم القديم ليواصل بناء مثل هذا المستقبل، بناء البيت والذاكرة المتعلقة به! بينما تؤكّد المرأة صاحبة الذاكرة الأصليّة بأنّ شعوبا بأكملها مبينّة على الحكايات والأساطير والقصص الخياليّة التي لا تمتّ بالواقع شيئًا.
دُنيا (هيام عباس): "شعوب بأكملها مبنيّة على القصص الخيالية، والوقائع لحالها بتضلها عقيمة وما بتسمح برؤيا جماعيّة. عن قريب، اللّي احنا حققناه هون راح يخلق اسطورة بحدّ ذاتها. وانت راح تكوني جزء منها".
من هنا يحتدّ النقاش حول ماهية خلق الشعوب واعتمادهم على الأساطير لصنع هويّة جماعيّة، لها ذاكرتها وطقوسها ونضالها ورموزها، فهي ترفض الذاكرة تلك التي بواسطتها تبني الشعوب روايتها التاريخيّة. هذا التعامل مع موضوع الذاكرة الفلسطينيّة غالبا ما يرتبط بالمصائب والكوارث، هذا بالإضافة لموضوع الهويّة الذي يملأ حيّزا كبيرا في العديد من الأعمال الإبداعيّة، وخاصة في مجال الفنون التشكيليّة. ولعل المصائب والكوارث يمكن استيعابها ضمن الإنتاج الفنّيّ بسبب النكبة والتشريد وحالة اللجوء التي أصبحت حالة العديد من أبناء الشعب الفلسطينيّ. أمّا موضوع الهويّة ففي نظري متعلّق أكثر بتخبطات الفنّانين والفنّانات في ارتباطهم أو عدم ارتباطهم بالحالة السياسيّة-الجغرافيّة التي لعلّها تشغل الهاجس الفنّي أكثر مما تشغل عامة الناس! إذ نرى في العديد من الأعمال الفنيّة موضوع الهوية يلعب دورا في صقل الرؤيا السياسية والاجتماعية والجندرية، والتي غالبا ما تتبلور من خلال تجربة الفنان الشخصية وعلاقاته مع الحيّز الجغرافي الذي يعيش به. كما ونجد ذلك مرتبطا بشكل أو بآخر بالحالة السياسية المتشرذمة للمجتمع الفلسطيني وبكونه مرتبط بعدم وجود استقلالية قومية في وطن واحد يضم كافة الفئات من خلال مفهوم الدولة الحديث.
ثمّ يأتي أرشيف الصور من تاريخ فلسطين ما قبل النكبة مندمجا مع صورة الزيت او السائل الأسود الذي يسود المكان ويغرقه كما لو كان مادة اللافا السوداء التي تخرج من بركان ما، أو نهر من الدم الأسود يجري كفيضان نهر، أو لعلّه رمز للبترول الأسود، حيث يدمر هذا السائل الأسود كلّ شيء في طريقه، فيندثر المكان.
لعلّ هذا التناقض بين محاولة "الأم" في حفظ الذاكرة، بينما ابتعاد الفتاة "البنت" ورفضها لتلك الذاكرة هو المحور الرئيسيّ لهذا العمل الفنيّ. فعلياء لا تؤمن بالأشباح ولا تريد بناء الماضي من جديد، بل يهمّها الحاضر أكثر. أمّا دنيا فتؤكّد لعلياء بأنّ الماضي لا يزال هناك، ولذا فلا حاجة لبنائه من جديد. تردّ عليها علياء بانّ الماضي هو ماضٍ تابع لدنيا، ذلك الماضي الذي تعرفه، وكلّ ماضٍ آخر ما هو سوى قصص وحكايات وأساطير غير حقيقيّة، فتختتم دنيا الحوار بمقولة رائعة بكون الشعوب ما هم سوى قصص وحكايات وأساطير. هذا المحور هو الذي يجعل هذا الفيلم مميّزا جدًّا، حيث يكوّن نقلة نوعيّة جديدة لنتاج فكر فنّيّ فلسطينيّ مستقل، دون أن يكون تابعًا لمؤسّسة ما، ودون أن يكون مُسْتَغَلا سياسيا أو حزبيا، أو حتى للترويج والدعاية بشكل مؤسّساتي، وهذا هو نجاح الفيلم في المركز الاوّل من خلال هذا الحوار ومن خلال طرحه لتساؤلات عديدة حول ماهية تلك الذاكرة لشعب ما، والتي يجب عليه حفظها من الزوال!
العمل التركيبيّ
مقابل صالة عرض الفيلم، نجد قاعة موازيه تضمّ عملا تركيبيا بمصاحبة الصوت، وهو بعنوان "نصب تذكاري للزمن الضائع" - “Monument for Lost Time” –– قرص دائري أسود اللون يتحرك في الفارغ بحركة لا-ارادية لا تدري ماهيتها ومن أين تبدأ أو تنتهي، تفاجئك بحدتها مع صوت لا تعرف كنهه، تتأمل الفراغ لتبدأ حركة دوران للضياع داخل العمل الفنّيّ بما يحتويه من معان مبهمة... ولكن اذا ما دخلت هذه القاعة لتشاهد العمل بعد أن قمت بمشاهدة الفيلم فيمكنك حينئذ الربط ما بين العملين، حيث نجد التناص بينهما بالشكل واللون والصوت، بالإضافة لبعض التفاصيل الدقيقة التي اهتمت الفنانة بنسيجها في قالب واحد. فالقرص الدائري الكبير والأسود اللون ما هو سوى مانفيستو لحالة الفراغ الكبير في الحاضر! تكملة أو تناقضًا لحالة الذاكرة الثريّة بمخلّفات الماضي الذي دًمِّر. وهنا في هذه القاعة تفصل الفنانة الذاكرة والحوار والنص والشخصيات والمختبر الى مجرد تمثال يدور في فلك لا يمكن اختراقه وهو الذي يطغى على الكلّ! فإذا كانت الأثار التذكارية يمكنها أن تحمل وظيفة الذاكرة فإنّ هذه التمثال بشكل القرص الأسود هو على النقي تماما، فهو يمثّل ذاكرة متحجّرة منذ البعيد بحث لا يمكن استخلاص ايّ ذاكرة منه. بل لعل ذاكرة الفقدان التي تصل المشاهد من خلال هذا شكل خزّان فارغ لا يحوي أي شيء، وبذا لا يمكن تعريفه بكلمات، ولكن يمكنك أن تشعر به بواسطة أحاسيسك فقط، فالشعور الذي يصيبك بعد مشاهدة هذا العمل هو الألم من فقدان عضو في جسدك غير الموجود أصلا!3
هذا العمل التركيبيّ بكلّ مكوّناته ودلالاته يرمز فعلا لتعقيدات البحث عن مختبر آمن، ولكنّه أيضا يصوّر لنا التحدّيات التي يجابهها الإنسان اليوم وقت حدوث كارثة ما، وفي محاولته إيجاد مواساة مستقبليّة. هذه الكارثة البيئيّة التي نراها في الفيلم ولا ندري مسبباتها، تظهر بشكل نهر من الزيت الأسود الذي يأتي على الأخضر واليابس فلا يترك شيئا على ظاهر الأرض، نرى صداه هنا من خلال هذا العمل التركيبيّ. بالإضافة لذلك، نجد توظيف البلاط الملوّن بأشكال هندسية وتوريقات ترمز لطابعها العربيّ-الإسلاميّ العريق، فما هي سوى استنساخ أيضا لمشاهد البيوت وزخارفها من فنّ العمارة الغربيّة التي اجتاحت الإمبراطورية العثمانيّة والعالم العربيّ في القرن التاسع عشر، حيث تمّ استنساخ مكوّنات فنيّة في بيوت الأغنياء التي بنيت في فلسطين، وخاصّة في القدس وبيت لحم والناصرة ويافا. ومن هنا فإن الذاكرة القديمة للأشياء ما هي سوى استنساخ شعوب واستنساخ تراث واستنساخ حضارات واستنساخ للفنّ!
النهاية... البداية
إنّها محاولة أخرى للفنانة صنصور في تناول موضوع الصراع القائم في منطقة الشرق الأوسط، بكلّ ما يحمله من عنف للاحتلال الصهيونيّ لفلسطين. تقوم الفنّانة بترجمة هذا السياق من خلال توظيفها لأسلوب هو أشبه بأفلام الخيال العلميّ او الأفلام الخياليّة التي ترتبط بتصوّر مستقبليّ لما سيجري على ظاهر الكرّة الأرضيّة من كوارث ودمار. فها هي تستخدم عناصر مستقبليّة قد تبدو للوهلة الأولى سرياليّة بطابعها، أو حتى غير مرتبطة تماما بالأحداث الجارية والواقع المحسوس، ولكنّها أحيانا تشير على حقيقة الوضع السياسيّ. هذا التوجّه في نقل الحدث الآني وتصوير الواقع القاتم غالبا بشكل تختاره الفنّانة صنصور في تحويله الى حدث مستقبليّ هو بحدّ ذاته تعبير خاص جدًّا في ساحة فنّ التشكيل العربيّ المعاصر. وحسب رأيها فإنّ التعامل مع الواقع بهذا الأسلوب لهو أفضل، في نظرها، من العمل بأسلوب الأفلام الوثائقيّة مثلا.4 هكذا تناولت الفنانة في بعض أعمالها مثل "هجرة إلى الفضاء" (2009)، "مبنى الأمّة" (2012)، "في المستقبل أكلوا من أرقى أنواع الخزف" (2016) وغيرها من الأعمال.5
لقد كان لقائي مع الفنانة لاريسا صنصور محض صدفة بعد مشاهدة المعرض لأّولّ مرّة في الجناح الدولي الدانماركي في أرض المعارض في البندقية، حيث التقينا خارج الجناح الدانماركي وكان اللقاء قصيرا، ولكنّه يحوي شعلة من التأثر، وخاصّة أنّ الفنّانة قد عرضت فيلمها المتحدّث باللغة العربية، ودون أي شِعارات طنّانة في ذلك الجناح الذي لا يلمّح بأي مشهد سياسيّ مستهلك، أو حتى عربيّ! ولكنّه عمل فنّيّ عربيّ - فلسطينيّ مائة بالمائة، بكلّ مشهد من مشاهد ذاكرة الأم التي تظهر على فراش الموت، بكلّ سواديتها، بكلّ حركة ونظرة فيه للبطلتين، وبالطبع بكلّ جملة تنطقان بها.
لعلّ أسلوب التصوير الفوتوغرافي وصناعة الأفلام هو الأسلوب الجديد في الفنّ الفلسطيني الذي ربما سيُخْرِجُ الفنّ الفلسطيني من دائرة المحليّة ليفتح مصراعي الباب نحو العالميّة. ففي هذا العمل الفنيّ نجد التأثر بالسينما والتلفزيون وحتى بالثقافة الشعبيّة والفلكلور، بالإضافة لفنّ البوب، هي عناصر مهمّة تعترف بها الفنّانة دون خجل، بل وتعترف بأنّه الأسلوب القريب إلى قلبها. هذا الاعتراف يعطينا مجالا لتحليل العمل أيضا على صعيد الفنّ السينمائيّ، الذي بالضرورة بمكان النظر إليه من خلال توظيف الفنّانة لممثلتين قديرتين على تقمصّ الأدوار بكلّ براعة، مما يضفي على العمل نكهة خاصة. فالفنّانة هيام عباس لها باع في أداء هذا النوع من الأدوار، وكذلك الفنّانة ميساء عبد الهادي التي تضيف للفيلم بريقا يخرج من ملامح عيونها، ومن خلال رفضها للدور المستنسخة التي يوظفونها فقط لحفظ التاريخ!
لا بدّ من القول بأنّ الواقع المهمّش الذي يعايشه الفلسطينيّ أينما كان، وليس بالضرورة في المهجر، هو الحال الطبيعيّ الذي نشاهده ونسمعه في اليوميّ. ولعلّ الفنّانة هنا لم تقرّ بذلك بشكل واضح، ولكنّ اختيارها لفتاتين مما يدعى "الداخل" في فلسطين هو بحدّ ذاته تعبير عن ذلك التشظّي والغربة والتهميش. أنّه تحدٍّ، في رأيي، للتعريف بالفنّ الفلسطينيّ وبجغرافيته المعقّدة، فها هي الفتاة المتغربّة التي تعيش خارج الوطن تعيد صياغة الفنّ الفلسطينيّ بشكل جديد، ودون التقيّد بمعالم وحدود، أو بمسلّمات سياسيّة واضحة، بالرغم من توظيفها لمكانة وقدسية بيت لحم، ولكن بدون ابتذال.
لا أدري إذا ما كان هذا الفيلم سيعرض في فلسطين قريبا، وكم من المشاهدين الفلسطينيين أو العرب سيرونه، ولكنّه في نظري يُعدّ أوّل عمل فلسطيني جدير بالمشاهدة لفتح حوار صريح حول مشروع تأطير الذاكرة وأرشفة النكبة لتحويل الوطن المسلوب إلى مقدس. وبهذا فلا مجال للنقد أو للتوهّم وتخيّل الوطن والذاكرة الى المقدس. إنّه العمل الفنّي الذي جاء في الوقت الصعب ليحطم هذه القاعدة ويحوّل هالة التقديس تلك إلى حوار صريح للتعبير عن واقع صعب!
ومن هنا نجد التعامل مع الثلاثية: المقدّس – الوطن – والذاكرة لتحويلها إلى مجرد وهم، ليس إلّا!
ولعلّها أيضا ليست بالصدفة بأنّ تحطيم هذا الثالوث المقدس يأتي من صنع يدي فنّانة - إمرأة!
تم تقديم معرض لاريسا صنصور (Heilroom) في الجناح الدنماركي في بينالي فينيسيا الثامن والخمسين.
- 1. عن الفنانة رُلى حلواني في موقع بينالي فينيسيا
https://www.labiennale.org/en/art/2019/partecipants/rula-halawani - 2. الفنانة لاريسا صنصور تتحدّث عن أعمالها
https://www.youtube.com/watch?v=-eBnUvp-_oA - 3. من أقوال نات ميلر (Nat Muller)، القيّم على المعرض، في كاتالوج المعرض.
- 4. الفنانة لاريسا صنصور تتحدث عن أعمالها
https://www.youtube.com/watch?v=-eBnUvp-_oA [3/8/2019] - 5. لقد تمّ عرض هذه الأفلام الثلاثة سويّة في معرض تحت عنوان "ثلاثيّة الخيال العلمي" في دار النمر للفنّ وللثقافة، عام 2018.