دور غيز، استشراق قبل-إسرائيلي: بورتريه مصوّر،تل أبيب: رسلينغ، 2015 (270 صفحة)
Dor Guez, Pre-Israeli Orientalism: A Photographic Portrait. Tel-Aviv: Resling, 2015 (270 pages)
منذ بدايات الخطاب بعد-الكولونيالي في القرن العشرين، يتم وضع التصوير أسوة مع تطور عدد من التجليات المركزية للاستشراق الغربي – ذلك الانبهار من الشرق بوصفه غريبًا، إلى جانب عرضه ضعيفا وفاشلا مقابل الغرب. في كتاب استشراق قبل-إسرائيلي: بورتريه مصوّر (Dor Guez, Pre-Israeli Orientalism: A Photographic Portrait) يتمحور د. دور غيز Dor Guez، وهو فنان وباحث في التصوير ورئيس برنامج اللقب الثاني للفنون في بتسلئيل، في حالة خاصة للاستشراق – وفي صورة اليهودي الصهيوني في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، بين السنوات 1901 و-1929 (قبل الثورة الفلسطينية عام 1936). فمن جهة رأى اليهودي الصهيوني المبكر إلى نفسه كغربي مقابل الفلسطينيين، ومن جهة ثانية كشرقي وساميّ مقابل الأوروبيين. وفقا لذلك، أجرى اليهودي الصهيوني مثلنة للعربي المحلي حين رأى فيه شخصية توراتية قديمة ونموذج محاكاة تم تملّكه لغرض انتاج "اليهودي الجديد"، والمرتبط بالأرض وبالشرق. بموازاة ذلك، أطّر اليهودي الصهيوني العربيَّ المحلي في خانة الجهل والصبيانية، أشبه بالتفكير الكولونيالي الغربي الكلاسيكي.1
يتمحور غيز في كتابه حول التجليات البصرية فيما يسميه "الاستشراق ما قبل إسرائيل" – وهي موضوعة صور يعرفها كـ"صور بنمط استشراقي قبل-إسرائيلي"، وهي مرتبطة ببلورة الهوية الذاتية لليهود الصهاينة كجزء من تشكيل الهوية القومية لأبناء الهجرات الأولى إلى الأرض المقدسة\أرض إسرائيل. هذه صور جاءت لغرض توثيق تطور الاستيطان اليهودي في العقود الثلاثة الاولى من القرن العشرين، مثلها مثل صور البورتريه في الفضاء المفتوح التي وثقت أهل تلك الفترة وهم يقومون بممارسات مختلفة مرتبطة بإنشاء هوية وتمثيل بصري.2
يستعرض الكتاب سرديات تأريخية مختلفة (الرسم في الغرب، التصوير في الغرب، تصوير محلي، الصهيونية، الخطاب الاستشراقي) وذلك لغرض تقديم خلفية وسياق لفحص نتاج التصوير في "الاستشراق قبل-الإسرائيلي": صور أنتجت بتأثير التفكير السياسي والأدب الغربي الاستشراقي في تلك المرحلة؛ بإيحاء التنظيرات والأدب الصهيونيين؛ قياسا بأحداث تاريخية غربية وتلك المرتبطة بالصهيونية، وبموروث التمثيل الاستشراقي الغربي في الرسم والتصوير؛ محاكاة مصورين أوروبيين، ولكن أيضا بتأثير المصورين الأرمن والمسيحيين المحليين الذين سبقوا المصورين اليهود قبل الإسرائيلين. من بين هؤلاء يذكر غيز كثيرين لكنه يتمحور أساسا في أبرهام سوسكين الذي صوّر في الاستوديو الخاص به زعماء الصهيونية في تلك المرحلة، أعضاء تنظيم "هشومير" وشخصيات يهودية أخرى. هدفت صوره إلى تمثيل، مثالي ومقصود، لأبناء "الهجرة الثانية" بوصفهم يهودًا جددًا. لهذا الغرض، قام سوسكين ومصورون صهاينة قبل إسرائيليين آخرين بممارسات بعضها بشكل واع وأخرى بشكل غير واع وساذج لحد ما – وأبرزها التنكر.3 هذا فعل استشراقي معروف حيث يقوم الكولونيالي الأوروبي بمحاكاة زي الأصلاني وشكل مظهره لوقت قصير. وفقا لغيز، فإن المصورين المحليين الذين سبقوا اليهود الصهاينة أيضا، تبنوا هذه الممارسة الاستشراقية لأغراض تجارية.4 ولكن هناك فرق بين الأوروبيين المتنكرين والغايات التجارية لدى المصورين المحليين، وبين غايات الصهاينة، أيضا لأنها كانت جزءا من عملية مركبة أكثر لغرض الاندماج وكذلك بفعل شعورهم بالانتماء الجزئي للشرق بسبب هويتهم الساميّة. لقد تنكر الأوروبيون إلى شرقيين من أجل تشديد أوروبيتهم على نحو متناقض، يقول غيز، ولكن اليهود الصهاينة قبل-الإسرائيليين قاموا بذلك لغرض تملك أصلانية قديمة أرادوا الارتباط بها.5
تتميز صور الأستوديو على النمط "الاستشراقي قبل-الإسرائيلي" بكَون التنكر فيها لا يقوم على محاكاة كاملة بل على ارتجالات مختلفة في استوديو يحوي أغراضا رمزية وخلفيات مرسومة وأزياء. في هذه الصور تبدو أغراض الاستوديو الاصطناعي والأغراض العادية غير المزيفة، كأنما تم استخدامها بشكل مختلف عن المتعارف عليه في الفضاء الثقافي الذي تستخدم فيه على نحو يومي، بشكل واع ومقصود أو بالصدفة – وهو ما يشدد الاحساس بالتمثيل والتظاهر. مثلا، ابن سوسكين رفائيل، تم تصويره وهو يعتمر منديلا مشدودا بعقال، بشكل يذكر بالكوفية؛ الطلائعيات اليهوديات تم تصويرهن بفساتين فلسطينية مطرزة أو حين كن يرتدين كوفية حول وسطهن بدلا من الحزام؛ طلائعيات أخريات حملن جِرار ماء فوق الرأس أو بشكل لا يسمح حقا بتخزين الماء؛ طلائعيون يرتدون جلابيات، كوفيات وعباءات، يضعون الأساور الذهبية وبنادقهم تلفها أحزمة الرصاص؛ وإلى جانبهم في الصورة أغراض أستوديو ثلاثية الأبعاد مثل صوف الخراف، جرار الماء والصخور المصنوعة من الكرتون وخلفهم خلفيات لمنظر طبيعي أوروبي مرسوم تموضِع الأستوديو بأثر رجعي فضاء من الخيال.6
إلى جانب هذه يلاحَظ الفرق بين اليهود الذين وثقهم سوسكين خارج الأستوديو، إذ كانوا يرتدون كوفيات خلال عملهم في الحقول، للاحتماء من الرمل والشمس، وبين اليهود في المدن، تل أبيب ويافا، الذين جاءوا إلى الاستوديو لغرض ارتداء ثياب شرقية، وبعد ذلك عادوا إلى ثيابهم الغربية. يلاحظ هذا الأمر جيدا في الصور التي عرضت الواحدة بجانب الأخرى ويظهر في إحداها يهود بلباس أوروبي، وفي الأخرى صورهم بلباس شرقي على نمط الصور "قبل وبعد". "القبل" يشير إلى الفترة السابقة لهجرتهم (الهجرة إلى أرض إسرائيل) وانخراطهم في الشرق، وهم معروضون برموز زي أوروبية، و"البَعد" يتطرق إلى جانب في هويتهم، أو في كينونيتهم الجديدة بعد أن هاجروا: "الالتصاق المرئي لهذين المظهرين – سواء في إطار الصورة نفسها والتي تم تقسيمها في الاطار الزجاجي إلى قسمين"، أشبه بالصورة المزدوجة لمردخاي وتسيبورا شخبيتس، "أو في صورتي استوديو تم التقاطهما الواحدة بعد الأخرى"، اللتين تؤكدان قدرة من تم تصويرهم إلى العودة إلى ثقافة الغرب في كل لحظة يرغبون فيها وان المحاكاة هنا ليست محاكاة تامة.7
يضع غيز تشديدا أساسيا في كتابه على أن موضوعة التنكر قبل-الإسرائيلي، على النقيض من ذاك الأوروبي، تنطوي على المحاولة الواعية لدمج يهودي-شرقي جديد، وهي سيرورة تهدف إلى إنتاج وعي لذات جديدة ووعي مجتمع. في هذا الإطار تعبر المحاولة عن قصد صريح لدى اليهود الذين وصلوا من أوروبا للانغماس في المكان وبين السكان، لكنها تكشف أيضا الزيف الكامن في هذه المحاولة، وهو ما تشهد عليه ممارسة التنكر وإبقاء "مكامن الخلل" في المحاكاة المصورة. ان الاقنعة الاصطناعية والفاشلة، افتراضا، تشدد على الفرق ما بينها وبين مواضيع المحاكاة وتشهد وفقا لما يقوله غيز ليس فقط على الرغبة في تمويه وتقويض صورة اليهودي في الشتات، بل أيضا لرفض النظر إليهم كشرقيين "حقا" وتقويض زاوية الرؤية هذه.8
يكتب غيز في نهاية الكتاب أنه "من منظور ما بعد كولونيالي يمكن القول Yن اليهود الصهاينة قاموا بما يمكن تأويله كممارسات كولونيالية لمحاكاة (نمطية) للشرقي على شكل معروضة أدائية علنية".9 وفقا لادعائه، فإن هذه التعابير تكشف اصطناعية وسطحية المحاكاة وممارسات تنكر الأفراد-التمشرق المزعوم – كأداة مصطنعة ظاهرة لعيان مشاهدين محددين (يهود في الشتات، صهاينة في المستوطنات، سياسيون وأثرياء أوروبيون). بعد ذلك، بودي فحص الصور على نمط "استشراق قبل إسرائيلي" في ضوء فن الأداء.
الأداء هو موضوع الفنون التي تسعى بجوهرها إلى توسيع الممارسة الفنية نحو الواقع والحياة نفسها، مزج الفنان والمشاهد في شخص واحد، تمويه الحدود بين الموضوع والذات، والخلط ما بين موضوعات فنية، أشكال زمن مختلفة – ماض وحاضر ومستقبل – وتوسيع الوعي ومسؤولية المشاهدين بواسطة مشاركتهم في العرض الأدائي. تستبعد هذه النظرة للصور في كتاب غيز الممارسة الأيديولوجية والسياسية التي انتِجت الصور باسمها وتدخلها في حيز الفن البصري – فضاء يمكّن من التوقف، التمعن والتساؤل، إعادة فحص شكل الممارسة وصور النظر اليها والحديث عنها، بحيث يتاح تفكير تعددي وحر يميز هذا المجال.
وفقا للكاتبة روزلي غولدبرغ (Goldberg) في كتابها حول فن الأداء، ظهر الأداء كوسيط فني بموازاة تجليات الفن البصري المركزية في حداثة القرن العشرين. ولكن، وفقا لادعائها، يتجاوز وسيط الأداء نفسه والظروف التي توجهه ولا يتيح تعريفا بسيطا كفعل فني حي من قبل فنانين. وسيط الأداء في جوهره هو أيضا استمرار لمنظومات معرفية أخرى اختلطت فيه – مسرح، رقص، نحت، موسيقى، فيديو. هذا المزيج لعديد من الوسائط وتقويض كل واحد منها نبع من تعريف موسع، ما بعد حداثي للفن.10
يمكن الإضافة والقول انه بهذه الخصائص يوسع فن الأداء الفضاء والزمن اللذين يتواجد فيهما، لأن كل أداء يقوض تجربة المشاهدة التقليدية للفن، حيث يقف فيها كل من الإنتاج الفني وصانع هذا الإنتاج معا أمام المشاهد. لا يقوم الأداء فقط على الفنان بل يشارك المشاهدون أيضا في عملية الإنتاج، او على الأقل يتم تضمينهم فيها (بمعنى انه يتضمن أيضا وعي المشاهد، زاوية نظره والحمولات الثقافية، الجندرية أو الاجتماعية-الاقتصادية لديه). مقاييس الفضاء والزمن لموقع المشاهدة التقليدي تتوسع، ويتسلل وعي معين إلى داخل الفعل الفني.
هذه مركبات يمكن ملاحظتها في الأداء ابتداء من ستينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة خصوصا: وفقا لغولدبرغ، سعى دان غراهام، مثلا، في انتاجاته الأدائية إلى مزج ما بين المؤدي الفعال والمشاهد الخامل، استنادا إلى توجه برتولت بريخت (Brecht) الذي اعتاد أن يقدم للجمهور حالات غير مريحة وواعية لذاتها في محاولة لجسر الفجوة المتخيلة. استخدم غراهام في أعماله الأدائية الفيديو والمرآة لهدف إضافة بُعد فضاء وزمن داخل فضاء محدد واحد، كي يصبح المشاهدون واعين لكل فعل يقوم به أجسادهم. فمثلا في (Two Consciousness Projection(s)) في عام 1972، كان اثنان من المشاهدين في الأداء شريكين فعالين أيضا في إنتاج الحدث، لكنهما أيضا خاملان من حيث التأمل ويعرضان: امرأة ركزت وعيها في شاشة تلفزيونية وطلب منها تنضيد افكارها على نحو فوري، في حين كان رجل اخر ينظر إلى الشاشة التي تعرض المرأة وقد طلب منه تنضيد أفكاره حولها. تم بث كلا الحدثين على شاشة منفصلة إلى جمهور مشاهدين.11
في فيديو Present Continuous Past(ماضٍ مستمرّ حاضر) عام 1974 عرض للمشاهد الأفعال السابقة للعمل، في حين عكست المرآة الزمن الحاضر. رد الفعل على الفيديو ربط ما بين الزمن الماضي والحاضر وأنتج حالة العمل فيها غير قائم ما لم يكن من الممكن رؤيته ثانية. هكذا نشأ وعي تأملي بخصوص "الذات" من خلال التقييم المتكرر.12
يمكن القول إنه في الصور الفوتوغرافية بأسلوب "الاستشراق قبل-الإسرائيلي"، تسعى المحاكاة الاستشراقية إلى تحدي وضع قائم وتحديد التقويض كموثق بدئي لتأمل مختلف في الواقع - "يهودي جديد". من هنا، ففي هذه الصور، المصور ليس فقط مصورًا، ليس الذات فحسب، بل ان المواضيع جزء منه، وتحمّله دلالة الانتماء إلى مجموع ينتج شخصية بطل يهودي. يصور سوسكين عائلته ونفسه بنفس الطريقة التي يصور بها الغرباء. بالإضافة إلى ذلك، أقرّ كل من المصوِّرين والمصوَّرين بأنهم يشاركون في مشروع يهدف إلى إحداث تغيير في وعي الأفراد، سواء من المهاجرين في الاستيطان الصهيوني أو اليهود في الشتات (الذين ينظرون إلى الصور ويتملّكون الشخصيات الظاهرة فيها كـ"استمرارية" لهم). من خلال التوجه إلى هؤلاء المشاهدين، يرسل فضاء العرض الأدائي (الاستوديو) علاماته نحو الخارج ويتّسع فيما يتجاوز زمنه الحاضر.
يحاجج غيز في كتابه أنه مقابل التوجه الاستشراقي الغربي الذي رأى في الغرب ذاتًا وفي الشرق موضوعًا، فإن الموقف الاستشراقي المحلي يتميز بتوتر يفتقر لحل: يتم في الفن والتصوير في تلك الفترة "تمويه الخطوط الفاصلة بين الذات والموضوع. الذات الصهيونية تدرك نفسها كغربية وشرقية في آن واحد، والموضوع الشرقي-المحلي يُنظر اليه كنموذج محاكاة ونمط مرغوب ومتوخى بالنسبة للهوية الآخذة بالتشكل. هذا هو التوتر الذي تحاول صور المصورين اليهود الأوائل تخفيفه وحله، لكنهم يمثلونه أيضا".13
بهذا المعنى، هذه ليست صورًا مخصصة لغايات مسرحية، لأنه ليست هناك محاولة لخلق وهم أو محاكاة دراميّة هدفها الترفيه، بل محاولة لتمثيل صورة ذات ليهودي جديد بواسطة جوانب من تقويض الفضاء، المزج بين الذات والموضوع – كما ذُكر، جوانب لوسيط الأداء مثلما تم فهمه في إطار سياقه الفني الداخلي في القرن العشرين، وانطلاقا من غاية منتجيه لاستخدام الفن كأداة لتغيير الوعي. الصور على نمط الاستشراق قبل-الإسرائيلي بأسلوب "قبل وبعد" تشمل بعدًا تأمليًا وكذلك جوانب زمنية مرتبطة بالمشاهدين المصوَّرين الذين ينظرون إلى أنفسهم بعد إنتاج الصور ("تفتيحها") ويتلقون تقييما، ولكن يدركون أيضا مشاركتهم في حدث واسع يتجاوزهم هم أنفسهم بكثير, صحيح أنهم لم يتمكنوا من رؤية أنفسهم في فيديو، لكنهم تلقوا إحساس الـ"قبل وبعد" بكونهم مشاركين فعّالين وكذلك مشاهدين خاملين في العمل الأدائي.
كذلك يمكن أن نذكر هنا جوزيف بويز (Beuys) وأفكاره بخصوص النحت الاجتماعي، خلال تطرّقه إلى "احتفالات وعروض" (فعاليات (actions, كما أسماها. فقد سعى إلى إنتاج فضاء اجتماعي مشابه لعمل فني يساهم فيه كل مشارك في عملية النحت الاجتماعي؛ وكل فرد هو فنان. مثل هذه التأملات، التي أسبِغَ عليها بعد روحاني أيضا، تم النظر اليها على أنها قادرة على تحرير الذات في إطار منظومة اجتماعية.
لقد قام بويز باستخدام مقصود للتصوير الفوتوغرافي في أعماله الأدائية المتداولة التي ذاع صيتها، لغرض التأثير على وعي الجمهور، وساهم كثيرا بالتالي في تطوير التصوير كوسيط فني مستقل.14 في أحد الأعمال الأدائية لـ "فلوكسوس" عام 1964، تم تشويش العمل من قبل طلاب انقضوا على المنصة، وضربه أحدهم على وجهه. واصل بويز العرض، وتم توثيقه في صورة التقطها هينريخ ريبيشل (Riebesehl) بأنفه النازف ويده اليسرى رافعة الصليب. بعد ذلك استخدم الصليب مرارا، حيث كان جسده وزيّه المميز قسمًا هاما من العمل. لقد فهم قوة الصورة في توثيق العروض الأدائية، ليس كأثر فقط بل كتعبير أيقوني يوسع حدود العمل الأدائي. هناك أمثلة أخرى لأعمال أدائية استخدمت الجسد كأداة للإشارة إلى توسيع الفعل الفني، وكذلك لتوعية المشاهدين بمشاركتهم في الفعل، ومساهمتهم في العنف الكامن فيه. أحد الأمثلة هو Cut Piece ليوكو أونو (1964), التي وضعت أمامها مقصًا، وشارك الجمهور في قص ملابسها؛ مرينا ابرموفيتش (Abramović), التي قامت في عملها (Rhythm 0) عام 1974, بوضع 72 غرضًا على طاولة وطلبت من الجمهور استخدامها على جسدها كما يرغبون.
جوزيف بويز، حول الفن والمجتمع، مقطع من الفيلم الوثائقي،, "J.B. Public Dialogue", إخراج: فيلوبي شارب (Sharp), نيويورك، كانون الثاني 1974
مرينا أبرموفيتش، حول العمل الأدائي Rythm 0 عام 1974. إخراج: ميليكا زك (Zec)
تكتب غولدبرغ في كتابها حول فن الأداء أنه منذ 1933 قام الفنان جوزيف ألبرس (Albers) بوضع برنامج تعليمي في كلية بلاك ماونتن في نيويورك، الذي شكّل فيه فن الأداء نقطة انطلاق لفنانين من مجالات مختلفة. فقد درّس فيه أن الفن مرتبط بسؤال الكيف وليس الـ ماذا، أي ليس بالمضمون الحرفي بل بأداء مضمون الحقائق. الأداء – كيف يجري الأمر – هو مضمون الفن.15
لم يسعَ الصهاينة قبل-الإسرائيليين إلى فحص العنف الكامن في أعمالهم الأدائية الخاصة، بل استخدموا أجسادهم في الصور لغرض تغيير الوعي بخصوص مرأى وخصائص اليهودي "غير الشتاتي". لقد جمع التصوير الصهيوني قبل-الإسرائيلي ووحّد ذواتا منفردة ضمن مجموعة ذوات يهود جدد (تم تصويرهم بمنظور وخلفيات وقطع ثياب متشابهة). كثير من مصوَّري هذه المجموعة كانوا شبانا وشابات تم إبراز وسامتهم ومتانتهم الجسدية إلى جانب أغراض تصفهم كطلائعيين، مزارعين ومقاتلين. وكانت تبدو خلفهم في صور الاستوديو خلفية لمنظر أوروبي – لكنهم يظهرون فيه كأصحاب هوية شرقية متجددة تدل على رغبة في الانغماس في الشرق، استنادا إلى مرجعية شرقية قديمة.
أتاح الطابع الأدائي لإنتاج الصور تركيب مجموعة متخيّلة، وعي جديد وذات جديدة. الممارسة التي تكشف هذه الغاية هي "التمويه المكشوف"، الذي يشير اليه غيز في كتابه، وهو ليس محاكاة تامة (خلافا للتمويه التام مثل الاستعراب الذي يقوم به جنود الجيش الإسرائيلي) – تنكّر لا ينسخ المظهر الشرقي المحلي بشكل مطلق، بل ينتج التشويش والتوتر المميِّزين للاستشراق قبل-الإسرائيلي. يبدو أن المصورين الصهاينة قبل-الإسرائيليين قد اهتموا أقل بسؤال الـ"ماذا"، لو استعرنا تعريف ألبرس للأداء والفنون البصرية، واهتموا أكثر بسؤال الـ "كيف" – بعمليات الأداء نفسها: الإهمال في المحاكاة، عدم الدقة، الخيال الإبداعي والأزياء التي جرى تملّكها، كلها تجسيد لفكرة أن التنفيذ النهائي ووهم الشرقيّة ليسا هما الأمر، بل القيام بالعرض بحد ذاته، توثيقه وقدرة الصورة على نقله. لقد انصبّ اهتمام المصورين الاستشراقيين قبل-الصهاينة بدرجة أقل على اعتمار الطربوش بشكل صحيح، وما إذا كانت الكوفية المستخدمة هي في الحقيقة منشفة، أو توثيق ممارسات يومية مثل حمل جرة ماء فوق الرأس. كان الأهم لديهم الشيء الجديد الذي جرى إثر الفعل التنفيذي الموثّق في الصورة – فن ينتج وعيا لدى أفراد، إلى درجة وعي جديد.
من هنا، يمكن رؤية ممارسات المصورين بالنمط الاستشراقي قبل الإسرائيلي على أنها مشابهة لنزعات في فن الأداء من القرن العشرين: استخدام تنكر مكشوف وليس كتمويه تام؛ التطرق إلى الكيف وليس إلى الناتج النهائي؛ استخدام الجسد (الشخصي والمشترك) كأداة لتقويض هوية سابقة وإنتاج هوية جديدة؛ مزج الذات والموضوع؛ محاولة إنتاج وعي جماعي مشابه للنحت الاجتماعي (على الرغم من أنه يتوجه افتراضا إلى جمهور محدد انتقائيا)؛ استخدام "قبل" و"بعد" من خلال إدخال بعد الزمن والوعي وتوسيع الحيز إلى ما يتجاوز حدوده المادية.
تجعل الصور من فضاء الاستوديو فضاء "منصة" أكبر – فضاء عديم الحدود مثلما يشدد غيز في كتابه، "أرض إسرائيل" هي تعريف ميثولوجي وذاتي لمنطقة جغرافية أوسع من دولة إسرائيل. المصورون الذين يرتدون أزياء لفلسطينيين، يشاركون في عرض أدائي اكبر بكثير وهكذا يتوجهون إلى جمهور المشاهدين.
النظر إلى هذه الصور في سياق فن الأداء، على الرغم من أنها قسم من بروبوغاندا، تبعدها عن الصهيونية وتدخلها في اطار الفن. وهكذا يصبح بالامكان ربطها بفعل توسيع الحدود وخلق فضاء تعددي أكثر بمساعدة التمحور في "الكيف"، بدلا من تقليص الأمر بواسطة "الماذا". يطرح التنازل عن وظيفية الفعل تساؤلات حوله وإمكانية التوقف والتفكير والكلام، مثلما يسعى الفن ومثلما يطالب أحيانا بأن نفعل.
يفحص الكتاب بالتالي الحالة المركبة للاستشراق قبل الإسرائيلي بواسطة موضوعة الصور هذه التي ترتبط في كل فصل بجوانب تأويلية وتاريخية من أجل توسيع وتفصيل سبب التعريف "قبل إسرائيلي" (على النقيض من "أرض إسرائيلي") تشهد وفقا له على توجه استشراقي مختلف عن ذلك الذي سيأتي بعده وذلك الذي سبقه. يعود غيز في كل فصل من فصول الكتاب ليكرر مضامين عامة ويوجزها، بحيث يمكن فهم المجمل العام في كل فصل نفتحه في الكتاب. أسلوب الكتاب ممتع والقراءة سلسة، وهي تمزج تفاصيل تاريخية، قصصا، صورا وآراء من وجهات نظر مختلفة وبشكل يكشف التركيبة ودقائق الأمور في هذا الموضوع. يتطرق غيز إلى الطابع الأدائي للصور بشكل موجز فقط قبيل نهاية الكتاب.
من اللافت متابعة تناسخ هذه الصور في حاضرنا، حيث ان إضافة كوفية بواسطة الفوتوشوب إلى رأس يهودي باتت تعتبر وتفهَم في الفضاء العام الإسرائيلي الراهن كفعل تحريض. ضمن هذا الفهم تحولت الكوفية إلى رمز قاطع للشر بشكل يشدد الاستشراق الراهن، الذي يتجسد بالعنصرية والاستعلاء. وفيما يتجاوز ذلك، ربما هذا تعبير عن مجتمع عاجز عن مواجهة قيم فن الأداء والفن عموما – توسيع المكان والزمان، الوعي والمسؤولية؛ مجتمع يفرق بين الذات والموضوع ويعمل على إنتاج تعريفات محددة وواضحة بينهما ولا يتحمل المسؤولية عن إطلاق ديناميكية مشتركة بوسعها انتاج الواقع الذي نعيش فيه.
- 1. وفقا لغيز، بعد أحداث 1929 وثورة 1936 الفلسطينية التي قتل فيها مئات البريطانيين، اليهود والعرب، بدأ المجتمع اليهودي بترك المبدأ الفلاحي وانتقل إلى سياسة أكثر عسكرية، انقطع عن المجتمع الفلسطيني المحيط به وتوقف عن رؤية العربي نموذجا قديما للمحاكاة وعن ترسيخه في الشعب اليهودي الجديد. ينظر، دور غيز، استشراق قبل-إسرائيلي: بورتريه مصوّر، رسلينغ،تل أبيب،2015، ص 18-19، ص 89، ص 91، ص 221، ص 229 (عبري).
- 2. المصدر نفسه، ص 179.
- 3. حول حالة أخرى للتصوير الكولونيالي الذي اتخذت في إطاره أفعال بعضها واع وبعضها أقل وعيا ومنها التنكر، ينظر: علماه، ميكولينسكي، "ألعاب الأرواح"، توهو، آذار 5, 2017.
- 4. يكتب غيز أن المحاكاة نفسها هي فعل ينطوي على تركيبة مزدوجة لأن بعد الزمن للتنكر إلى شرقيين مزركشين يظهر أيضا في صور بالنمط الاستشراقي لمصورين أرمن وعرب ظهروا فيها كفلسطينيين بتنكر شرقي – وهي تعابير مرتبطة بسياحة الغرب، وهي أيضا قسم من الممارسة التي يقوم فيها الخاضع للاحتلال بتقليد المحتل، يقمع شيئا في هويته الثقافية – وهذا جانب يكشف تعابير رمزية للقوة. ينظر، غيز، نفس المصدر، ص 232-233.
- 5. المصدر نفسه، ص 19.
- 6. المصدر نفسه، ص 227.
- 7. المصدر نفسه، ص 235-236.
- 8. المصدر نفسه، ص 248.
- 9. المصدر نفسه، ص 227.
- 10. See, RoseLee Goldberg, Performance Art: From Futurism to the Present, Thames and Hudson, London, 2001, pp. 8-9.
- 11. Ibid, p.162.
- 12. استخدم فنانو فيديو كثيرون هذا الموتيف بالتزامن مع فناني الأداء، وادعت روزليند كراوس (Krauss) أن الانعكاس والتقييم المتكرر ينطويان على فعل مزج وتملّك، وما يشبه المحو الوهمي للفرق بين الذات والموضوع. يُنظر:
- 13. غيز، المصدر نفسه، ص 74.
- 14. Joseph Beuys, “I Am Searching for Field Character”, translation, Caroline Tisdall, Art Into Society, Society Into Art (exhibition catalogue), Institute of Contemporary Art, London, 1974, p.48.
- 15. Goldberg, Ibid, pp. 121-122.