ماذا تعلمت من النصب التذكاري لغرامشي (The Gramsci Monument)

توماس هيرشهورن يتأمل متساءلا عن النصب التذكاري لغرامشي ، وهو إنشاء أقامه عام 2013 في قلب مساكن بلدية جنوبي حي الببرونكس في نيويورك. كان هذا النصب التذكاري الرابع والأخير من سلسلة كرّسها لكتّاب ومفكرين مهمين

Advertisement

بودّي في هذا النص حول النصب التذكاري لغرامشي أن ألخص كل ما خرجتُ به من هذه التجربة، والتي كانت صعبة، مركبة، جميلة وصعبة على الاستيعاب. بودي إضافة كلماتي الخاصة الى كل المعلومات، النقد، التحليل والآراء التي كتبت عن عملي. كان النصب التذكاري لغرامشي بالنسبة لي بمثابة جنّة – ليس جنة كل ما فيها بديع وجميل، مريح، متيسّر وناجح، لا أبدَا،  بل جنة تطرح فيها اسئلة حول الفن، معناه، قوة التغيير الكامنة فيه وتأثيره، حول الجمهور والصور التي يتقمصها الفن – وهي أسئلة أشغلتني على مدار اللحظة والساعة واليوم. يمكن الملاحظة بأن هذا اللقاء الفوري والمستمر للفنانين مع تلك الأسئلة هو جنة. وكان بالنسبة لي كذلك لأنني تعلمت الكثير جدا. تعلمت كثيرا عن أنطونيو غرامشي في اطار سلسلة  المحاضرات الأسبوعية التي قدمها باحثون عنه. قدم المحاضرون المدعوون رؤية وأفكار غرامشي بشكل شامل. وتعلمت خلال بحث فكره أنه يمكن للفن أن يتحفظ من مثاليات وواقعية تبسيطيين. غرامشي هو شخصية نموذجية في كل ما يتعلق بدحض الجمالية المفرطة والتطرف، مع انه يمكن أن يقف مكانه أيضًا أبطال آخرون مثل مالكولم إكس. في خاتمة المطاف، ومن خلال التشديد على فهم فكر غرامشي كفكر سياسي بجوهره وليس كنوايا حسنة، جَتمعة ومشاركة سياسية، دحضت سلسلة محاضرات الباحثين في فكر غرامشي النرجسية، الخمول والالغاء الذاتي. سأصف هنا ما تعلمته أنا من النصب التذكاري لغرامشي؛ مساهمتي في عرض ثيمة جديدة للبحث والتعاطي مع المشكلات التي واجهتها في مساكن فورست (Forest Houses). سأصف سيرورة الفهم من خلال التجريب، بدون اللجوء الى النظرية أو ذكر حقائق أو احداث معينة. أقوالي الخاصة ليست أقل أو أكثر حقيقية وأهمية من نصوص أخرى كتبت عن عملي، ولكن بما أنها شهادة فنان عن نفسه فهي تلبي أحد أسباب الكتابة عن أعمالي، وتقديم شهادة بنفسي. سأفعل هذا من خلال التشديد على تسع نقاط.

 

Thomas Hirschhorn, “Gramsci Monument”, 2013

Thomas Hirschhorn, “Gramsci Monument”, 2013
توماس هيرشهورن. النصب التذكاري لغرامشي
2013، تصوير: رومين لوبيز. مؤسسة. مؤسسة ديا للفنون

 

تعلمت معنى العمل داخل مجتمع

لقد تعلمت شيئا جديدا من النصب التذكاري لغرامشي:  تعلمت أن كلمة "مجتمع" هي بقرة مقدسة، ولغرض التعاطي معا بجدية وعدم الوقوع في فخ الاستخدام السياسي المخطوء والسطحية الدلالية، فيجب عليّ التواصل معه، الاقتراب منه والانضمام الى النضال الداخلي – هذا عمليا معنى المجتمع. إذا كان العمل الفني ينشأ من خلال التواصل مع مجتمع، فإن فهمه يصبح فهمًا لمجتمع. أي أن الواحد يفهم العمل بطريقة معينة، والآخر بصورة مختلفة، بينما الثالث بشكل مختلف تمامًا. تعلمت أنه لا توجد طريقة واحدة (مشتركة) لفهم الفن. أحد الأشياء التي فهمتها - يوميا – هو أن ما نتقاسمه أهم مما يفرّق بيننا. الفرق، كل فرق، قابل للتشارك في ديناميكية القصد والفحص نتيجة للعمل الفني. وجميع هذه المدارك المختلفة، العينية والجزئية، هي التي تنتج فهما لمجتمع. تعلمت أن معنى العمل مع المجتمع وفي داخله ليس بالضرورة بحثا عن قاسم مشترك بل محاولة للربط بين مركبات الاختلاف وتحويلها الى مجتمع. هذا ما يحاول سكان مساكن فورست حلّه: فكرة المجتمع كبنية غير كاملة لأفراد، مقابل تجانس داخل مجتمع. يتبلور هنا داخل مجتمع السكان – حيث شكّل النصب التذكاري لغرامشي مثالا واحدا فقط على هذا – فهم يرفض التمثيلات الثقافية، الاجتماعية والاقتصادية. المجتمع غير الكامل هو الحلم – ولذلك فإنني أتعاطى مع النصب التذكاري لغرامشي كجنة – حيث يتقاسم أعضاء المجتمع، دون أن يعرف أحدهم الآخر، كأفراد وكمجموع، فضاء حياتهم، سعادتهم، وحالات فشلهم، فيما هم يبحثون وينتجون أنماط حياة جديدة، أنماط تفكير جديدة، وتجليات جديدة للواقع.

 

Thomas Hirschhorn, “Gramsci Monument”, 2013

Thomas Hirschhorn, “Gramsci Monument”, 2013
توماس هيرشهورن. النصب التذكاري لغرامشي
2013، تصوير: رومين لوبيز. مؤسسة. مؤسسة ديا للفنون

 

تعلمت الأهمية الكبرى في أن تكون حاضرًا

تعلمت أنه من الضروري أن تكون حاضرًا. حاضر ليس كـ"فنان" بل حاضر ببساطة كإنسان، كشخص متساو. أن تكون حاضرًا بوصفك الشخص المسؤول، من يهتم بكل شيء. هذا ليس شيئا جديدا عليّ. الجديد الذي تعلمته من تجربة النصب التذكاري لغرامشي هو أن الحضور عنصر موازن. حضوري ليس غير متعلق بالواقع الاجتماعي، الاقتصادي والثقافي في مساكن فورست أو كل مكان آخر. حضوري ليس غير متعلق بمجموع الحقائق التي أعيش فيها. حضوري لا يسمح بالهرب: الفنان ليس خالقًا ولا ربًا صغيرًا. لست غير متعلق بالآخرين وحضوري غير مستقل. لذلك من المهم فهم الترابط المتبادل فيما بيننا جميعا. جميعنا نحارب الفوضى العارمة في العالم، بجميع تمظهراتها. ليس بوسعي ولا بوسع غيري إحلال نظام في هذه الفوضى. الشيء الوحيد الذي يمكنني فعله، يجب عليّ فعله، ليقيم فني علاقة مع الآخر، هو إعطاء شكل لصراعنا مع الفوضى. حضوري في النصب التذكاري لغرامشي اظهر للسكان والزوار أن الحضور ضروري من أجل مواجهة الواقع وجها لوجه. الحضور ضروري بالتأكيد. حين أكون حاضرًا فقط سيمكنني من إقامة علاقة بشخص آخر بمصداقية. حين أكون حاضرًا فقط سيمكنني تقاسم وقتي مع شخص آخر. حين أكون حاضرًا ققط سيمكنني فهم أن حضور الآخر مماثل لأهمية حضوري. تعلمت شيئا واحدا من حركة "لنحتل وول ستريت": في هذه الأوقات، حين تعيش الديمقراطية التمثيلية وضعا كارثيا، فإن حضور جسدي، أجسادنا، مهم بحد ذاته! حين لا يتوفر ما يميّز كونك حاضرًا – في مناسبات وظروف مختلفة – فإن الحضور يتحول الى فعل يميّز الحضور عن اللاحضور. لا يحتاج أحد في مساكن فورست الى حضورك، بل أنت وحدك من يعرّف ضرورته. هذا ما تعلمته: حضوري أو عدم حضوري – او لدى شخص آخر – ليس الاستثناء ولا أداة للاحتواء أو الاقصاء.

تعلمت ما معنى أن تكون اليوم نقديًا، مرتابًا وتطرح تشكيكا

سمعت ملاحظات كثيرة من نقّاد في مساكن فورست افتتحت بالتالي: "كنت في البداية مرتابًا..." أو "كانت لديّ شكوك في البداية..". أدهشني اكتشاف الى أية درجة يشكل التشكيك، النقد وطرح التساؤل، التوجه الذي يُنظر اليه اليوم على أنه الصحيح. لا أحد يريد أن يكون غير نقدي، عديم الشكوك. النقدية لها وقع طيّب. لا أحد يريد التعاطي مع نتائج غير واضحة علانية، بشكل مستقل وواثق. لا أحد يريد التعاطي مع يقين من غير الدرع المتمثل بالتوجه النقدي. هذه النقدية تشهد على نزعة الدفاع عن أنفسنا لأنه لا أحد يريد أن يكون المجنون، المؤمن، من يملك ايمانًا. يجب أن نظهِر بأننا "نعرف"، بأننا واعون وأذكياء بما يكفي كيلا نتنازل عن رؤيتنا لما يتفاعل، من خلال التشكيك والتوجه الدفاعي الكامن فيه. هذا تعبير عن خشيتنا من المخاطرة ومواجهة شيء ما جديد. تعلمت أمرًا مناقضا من النصب التذكاري لغرامشي: حين ننتج عملا فنيا فهناك استدراك للنقدية والوعي الايجابي الكامن فيها. الاستدراك هو فهم أن العمل الفني ينطوي على مخاطرة ولكن أيضًا على ممارسة إيجابية، تجعل من التشكيك الذاتي فائضًا عن الحاجة. التوجه المتشكك هو نوع من الكلبيّة، كلبيّة من لا يؤمنون بقدرة الفن على تغيير كل شخص يتواصل مع الفن. هذا التشكيك هو تعبير من يعتمدون توجه "لننتظر ونرَ"، من ينتظرون إقناعهم. هذا التوجه، خلافًا لمن ليس لديهم امكانية للاختيار، هو توجه حصري ومترف. أن تكون غير مقتنع هو ترف، لأن هذا في خاتمة المطاف هو تذرّع من لا يريدون أن يتغيروا، لا يريدون أن يتعرفوا على الواقع أو يعايشونه. أنا أريد أن اكون نقديًا وأن أسأل نفسي: أنا ماذا في هذا العالم؟ ما موقفي منه؟ ما جوهر عملي بهذا العالم؟ وأي مسار بوسعي اقتراحه للإجابة على تلك الأسئلة؟

 

Thomas Hirschhorn, “Gramsci Monument”, 2013

Thomas Hirschhorn, “Gramsci Monument”, 2013
توماس هيرشهورن. النصب التذكاري لغرامشي
2013، تصوير: رومين لوبيز. مؤسسة. مؤسسة ديا للفنون

 

تعلمت ألا يصيبني الواقع بخيبة أمل

تعلمت ألا أكون "خائب الأمل". ليس لدي أيّ حق كفنان في أن يخيب املي من شكل استقبال أعمالي وليس لديّ أي حق في تقبل هذا النوع من الخطاب، غير المعزّز. هناك الكثير من الأسباب لأن يخيب الأمل – ومفهوم ضمنًا أن هذا هو الأسهل. فالواقع غير متوقع ومفاجئ أكثر بكثير ويجب عدم مواجهته أبدا بخيبة أمل. علاقتي اليومية مع سكان مساكن فورست علمتني عبرة: شعور خيبة الأمل بما فيه من غنج وأنانية يستخدم فقط لايجاد ذرائع والتنصل من المسؤولية. لا يوجد متسع لخيبة الأمل لأنه ليست هناك سيطرة ولا يمكن أن تكون على مواجهة الواقع. التسليم بانعدام السيطرة على الواقع – وهو ما يواجهه سكان فورست يوميا – هو الخطوة الأولى نحو التخلص من خيبة الأمل. تعلمت أن خيبة الأمل هي ايماءة أنانية تهدف الى الامتناع عن خيبة الأمل الحقيقية: الخيبة من الذات، حين لا أقدم كل ما يجب علي تقديمه، وهذه هي المخاطرة في مواجهة الواقع. لذلك فخيبة الأمل هي الملاذ الأخير للروح المدهشة المقطوعة عن الواقع. إقامة النصب التذكاري لغرامشي أسوة مع أهل المساكن لم تكن مخيّبة بالمرة. كان فيها لهو، جنون وجمال. بعد تجربةالنصب التذكاري لغرامشي ليس فقط أنه لم يعد سبب لخيبة الأمل، بل لا يوجد حق لها! تجربة النصب التذكاري لغرامشي مكنتني من مواجهة الواقع كما هو، بدلا من الوعظ حول ما يجب أن يكون عليه.

تعلمت معنى العمل الميداني خلال عزلة معينة، ومعنى الاحترام

إن عملا مثل النصب التذكاري لغرامشي هو بالضرورة عمل مجتمعي. يمكن للعمل ان يتم، فقط لأنه كان عدد كبير من الأشخاص منخرطين فيه وملتزمين به، حيث ساعدوا واستمتعوا. هذا ما لا يمكن للفنان أن يقوم به وحده، وهو ممكن فقط بفضل مشاركة أشخاص كثيرين في العمل معا. بودي هنا الإشارة الى الاستقبال الدافئ والمباشر من قبل ديان هربرت وكلايد تومبسون، سكان فورست، الاستعداد الذي لا يصدق والمساعدة الرائعة من قبل اريك برمر، والشخصيات المركزية – الحضور المرح والاقتراحات المتفهّمة من قبل سكان مساكن فورست، وكذلك العناية الحيوية لسلطة الاسكان في نيويورك والدعم الرائع من صندوق ديا (Dia) للفنون. على الرغم من ذلك، وربما حتى خلافا لذلك، فالقليل من العزلة حيوي لعمل من هذا النوع. تعلمت من العمل الميداني على النصب التذكاري لغرامشي مدى أهمية – بل ضرورة – الشغل التمهيدي والبحث. موقع مثل هذا النصب التذكاري حيوي لغرض عقد لقاءات واقامة تعاون بين السكان وبين مبادرتي. القسم الذي ينطوي على التحدي الأكبر كان اللقاء مع السكان لغرض تحديد موقع ملائم للنصب التذكاري. تعلمت أيضًا انه خلافا للمتعارف على اعتباره بوصفه الطريقة الصحيحة، فإن العمل بعزلة معينة في الميدان، منهجي ومفهوم للجميع. لقد كان من الصحيح التمسك بفكرة الشخص المنفرد، بما في ذلك من هشاشته وضعفه، وقلة الثبات واليقين لديه. العمل الميداني وحده هو مساهمة لإمكانية الجَسر لأنه يقوم على ما يمكن للفن فعله: خلق حوار او مواجهة. خلال الجولات الميدانية تعلمت مدى أهمية تأسيس العلاقة على الفرضية الأساسية: 1=1. إن أي ادعاء ديماغوغي او انتهازي أو توجه استعلائي لن ينجح أمام شخص يتواجه مع الحقيقة يوميا. لذلك فان البُعد (المسافة) إلى حد ما مثلما لدى الفنان خلال القيام بمهمة – ولا نتحدث هنا عن رومانسية أو على انعزالية – هو امر حقيقي ومثمر. أجريت خلال سنة ونصف بحثا في مساكن سلطة الإسكان في نيويورك وكان انطباعي عميقا من مدى احترام السكان. بواسطة العمل الميداني، ولكن أيضا من مجمل أعمالي في مساكن فورست، تعلمت إن مصطلح الاحترام يمثل أيضا أفكارا مثل بساطة، كرم، وضوح، تكافل وانفتاح نحو الآخر. لقد رأيت الرغبة في الانفتاح كحاجة للتحرك بين التماثل والاختلاف، كرفض قاطع لانعدام العدالة والتعفن الجمالي، كغياب للحسد والأنانية ، كمثالية وايديولوجيا. إن الاحترام هو أيضا القدرة على فهم العالم مثلما هو عليه من خلال رؤية لا-ضرورة العالم كما هو. بكلمات أخرى: لا حاجة لوضع نظارة شمسية في مساكن سلطة الإسكان.1

 

Thomas Hirschhorn, “Gramsci Monument”, 2013

Thomas Hirschhorn, “Gramsci Monument”, 2013
توماس هيرشهورن. النصب التذكاري لغرامشي
2013، تصوير: رومين لوبيز. مؤسسة. مؤسسة ديا للفنون

 

تعلمت كيفية تقبل تراكم حالات الفشل وكيفية صد السلبية

النصب التذكاري لغرامشي كان تراكما لأخطاء. اقصد أخطاء حقيقية، ظاهرة، وليس مثل السلبية الشائعة اليوم التي تتمحور فيما لا ينجح، فيما خيب الأمل وفي الفشل. ولا شيء جديد هنا سوى الحجم. ويرتبط هذا برأيي بالحاجة إلى تكوين وجهة نظر حول كل شيء، تقديم ملاحظة على كل شيء، ومعرفة كل شيء بالتفاصيل. عمليا، هذا النوع من السلبية أيضا يمكن ان يكون مسليا، ولا يمكن التعلم منه ولو شيئا واحدا. أنا أردت أن استخلص العبر من حالات الفشل التي واجهتها خلال إقامة النصب التذكاري لغرامشي، وأشير هنا الى عدد منها: عملي الإخراجي في مسرح غرامشي، الأعلام التي تم تقليصها إلى خمسة لأنه لم تكن لدي طاقة، قلة نشاطي واجتهادي في تثبيت الكراسي والكنبات بواسطة شريط لاصق، عدد من فعاليات الركض دونما نشاط أو صلة، تسلّم القميص مع لوغو النصب التذكاري لأعضاء الطاقم، أعضاء طاقم لم يأتوا، المشع الذي سُرق، آلة التصوير التي تعطلت ولم يتم تصليحها خلال أسبوعين، الخلط الذي قمت به ما بين ارنست تلمان (Ernst Thälman) وكارل ليبكنخت (Karl Liebknecht) في مجموعة نقاش خلال فعالية ركض بين المنحوتات في برونكس، والمزيد أيضا... لقد كان يتوجب عليّ مواجهة تلك الأخطاء يوميا لان المزيد منها ظهر كل يوم. في بداية المشروع حاولت منع تراكم الأخطاء ولكن على الرغم من ذلك انصعت لحقيقة أنها واصلت الظهور يوميا. فتعلمت مع الوقت، بالطبع، بأنه يجب عليّ الامتناع عن الأخطاء بكل ثمن ولكن الأمر الأساسي والمطلق في  أهميته هو مواصلة العمل والإنتاج. وقد تحولت الأخطاء مع الوقت إلى اقل فأقل أهمية. تعلمت ان تراكم الأخطاء والنواقص ربما هو شرط للنجاح. فالأخطاء كانت على حالها بينما كان شيء آخر أهم من الامتناع عنها او تقليلها: الطموح للقيام بشيء يتجاوز النواقص، والرغبة في الملامسة بدلا من أن تصدك النواقص والأخطاء. ان التقدم والمضي قدمًا هو الشيء المهم وهذا التقدم هو جوهر النجاح. في العمل الفني لا يوجد نجاح ولا يوجد فشل – وخصوصا في العمل الفني داخل الفضاء العام، وأكثر من ذلك حين ينخرط فيه سكان المكان. لقد تعلمت مواجهة السلبية وإبعادها عني.

 

Thomas Hirschhorn, “Gramsci Monument”, 2013

Thomas Hirschhorn, “Gramsci Monument”, 2013
توماس هيرشهورن. النصب التذكاري لغرامشي
2013، تصوير: رومين لوبيز. مؤسسة. مؤسسة ديا للفنون

 

تعلمت أن الفن ليس علما

تعلمت في مساكن فورست ان محاولة عرض الفن كعلم مصيرها البقاء في مجال النظريات وأحلام اليقظة. الفن هو نافذة مفتوحة على الواقع، نافذة دون إطار ولا قيود. لقد تعلمت انه لا يوجد أي بحث واستطلاع بوسعه استبدال مواجهة مشكلة ليس لها حل، وهي طريق بلا مخرج، مثلما كانت تجربتي في النصب التذكاري لغرامشي. يجب علي في الفن مواجهة الواقع وتوكيده، دون الموافقة عليه بالضرورة. يمكنني حل هذه المعضلة فقط بعينين مغلقتين، بدون ما يكفل النجاح، بدون ضمانات، بدون قيَمية ولكن ايضا بدون واقعية. ان العلم ليس بوسعه استبدال الحاجة في إيماءة غير واعية تعرض الفن بوصفه فنا. لقد تعلمت ان الفن ليس علما لان الفن هو الجهاز الذي اتعاطى وأواجه بمساعدته مستقبلي – دون سيطرة ولا نتائج. ان إنتاج الفن في مساكن فورست تطلبت أحداث هزة للذاتي، طيلة الوقت. لقد توجب عليّ ان أعيد اختراع النصب التذكاري لغرامشي يوميا من الأساس وحتى الذروة المرة بعد الأخرى، اولا في دماغي وفقط بعد ذلك في دماغ السكان والزوار. فقد كنت مستعدا لدفع الثمن لأنني عرفت ان هذه هي الظروف التي يمكن للفن وكذلك الفلسفة والشعر، ان يعيش فيها، ولكن هذا لا ينطبق على العلم بأي شكل. ان فهم الفن كعلم اليوم هو على الأغلب طريقة رجعية لتحويل التحييد الذاتي، بواسطة الواقع والسياق، الى شرعي. الفن اليوم هو مَوجَبة الشكل وليس ادعاء علميا.

تعلمت مدى أهمية كشف انعدام المنطق

تعلمت مدى أهمية كشف بُعد اللامنطق في إنتاج العمل الفني، لان اللامنطق هو ما يريد النظام القائم في الواقع ان يبعده، ولأن اللامنطق يقوض معنى الواقع والنظام القائم. ان النصب التذكاري لغرامشي سعى قبل كل شيء الى مواجهة الواقع. ان إنتاج الفن اليوم معناه التطرق الى اللامنطق وتجسيد حقيقة انه يجب إنتاج المنطق، لان المنطق ناقص اليوم. لكن الأمر الحقيقي ليست استبدال اللامنطق بالمنطق. الأمر الحقيقي هو تحدي المنطق في حين تكون النافذة مفتوحة أمام دخول اللامنطق. ان النصب التذكاري لغرامشي يدمج بين المنطق واللامنطق. لقد تعلمت انه يجب عليّ إنتاج اللامنطق المرتبط بالمنطق وتشديده. من خلال إقامة النصب التذكاري تعلمت يوميا كيف ارتبط مع اللامنطق. لقد لامست في قلب الفن اللامنطق، الفراغ والهوة السحيقة، الهوة التي يقف فوقها الفن وتاريخ الفن.

 

Thomas Hirschhorn, “Gramsci Monument”, 2013

Thomas Hirschhorn, “Gramsci Monument”, 2013
توماس هيرشهورن. النصب التذكاري لغرامشي
2013، تصوير: رومين لوبيز. مؤسسة. مؤسسة ديا للفنون

 

تعلمت أن الإيمان بالمساواة المطلقة منطقيّ وليس بنظري فقط

كان طموحي لإقامة النصب التذكاري لغرامشي – مثل كل عمل فني – من خلال الإيمان الكامل بالمساواة. الفن بجوهره يستدعي المساواة. المساواة التي تتجلى معانيها أيضا بمفاهيم مثل العدالة، الآخر، العالم الواحد، والكونية. تعلمت خلال إقامة النصب التذكاري في مساكن فورست ان فهم الفن يمكنه ان يشكل تعبيرا عن مساواة أساسية ومتأصلة. ان الفن هو الجهاز، السلاح الذي يمكن بواسطته تشييد المساواة. يجب على الفن أن يعمل ويؤدي دورا وهو يقوم بذلك فعلا. ليس هناك فرضية أساسية أخرى ولا مهمة أخرى. إن الموثوقية المطلقة للمساواة هي الحلقة الرابطة، العلاقة غير المرئية التي توحد العمل. المساواة ليس حقيقة،لان عدد السيناريوهات غير المتساوية هائل، وأنا واع لذلك. لا أقيد نفسي بوظيفة المحلل او المشاهد الذي لا يستغل كل فرصة لتوكيد المساواة. انا أسعى للتعارك مع الواقع الذي يؤثر عليّ، رفض نزعة الفهم وتحويل نفسي، وتحويلنا جميعا، الى مواضيع في العالم غير المتساوي الذي يحيط بنا. بل على العكس، لست عديم القوة في مواجهتي مع السياقات المعطاة والظروف القائمة. يوجد لدي سلاح. بوسعي منح شكل. وبالضبط لأن المساواة الخالصة ليست حقيقة قائمة، فيجب الصراع عليها في كل لحظة. لقد تعلمت ان تلك الصراعات اللانهائية منطقية، وليس بالنسبة لي فقط. من اجل الوصول الى المساواة يجب علينا ان نفترض مسبقا وجود اللامساواة. تعلمت ان الفن، الذي ينوجد من خلال المصادقة على جوهر المساواة غير المرتبطة بالحقائق، يمكنه ان يشكل مصدرا لمصداقية عالية الثمن بالنسبة للآخر. لقد تعلمت هذا في مساكن فورست ورأيت فيه هدية تلقيتها، أملا – من السكان والزوار - ولكن أيضا التزاما تجاه نفسي.

  • 1. يتطرق المؤلف الى عادته وضع نظارة شمسية