خَشِن: مَعرض يُفكّك الخشونة ويُعيد التواصل مع الواقع المحليّ
في هذه الأيام يُقام معرض "خشِن" في ستوديو وصالة عرض الفنون "بلقيس" في الناصرة حتى نهاية الشهر الجاري. يُقدّم المعرض ثيمة الخشونة في تنويعات وأدوات وموادّ فنيّة تتيحُ حركة مفتوحة على أسئلة جوهريّة ذات صلة بالمجتمع الفلسطينيّ في البلاد وقضاياه الاجتماعيّة والسياسيّة وما يعانيه من أزمات جمعيّة.
يبدو أن اللجوء إلى تجسيد الخشونة في الفن له دلالات مفتوحة على تأويلات كثيرة تصطدم بالواقع وتتمازج معه وتحاوره وتنقضه وتفككه في معادلة الألوان والمواد الفنيّة السّخية التي تفتحُ العمل الفنيّ على قراءات وجوانب لآفاق المجتمع الفلسطينيّ الأقليّ في البلاد، المفتوح-المغلق، الناعم-الخشن، الحرّ-المقموع.
عاطفة خشنة، رؤية خشنة، نسيج خشن، إنسان خشن، طباع خشنة، واقع خشن. لماذا نقدم معرضا يحمل ثيمة الخشونة؟ الخشونة بما تحمله من دلالات العنف والبدائية، وما تبطنه من أنماط حياة يعيشها المجتمع العربيّ المحليّ تحديدًا، قرينة الظروف السياسيّة والاجتماعيّة والنفسيّة، هي المفتاح الذي يمكنه أن يكشف عن عمق التعقيدات والتناقضات التي تحياها هذه الأقليّة في علاقتها مع وجودها الجمعيّ، وفي علقتها مع محيطها، مع ما تُنتجه بفعلِ شيفراتها الاجتماعية والدينيّة، وبين ما يُفرزه واقعها السياسيّ ويفرضه عليها بكلّ انعكاساته.
مفهوم الخشونة في هذا المعرض ليس بالضرورة مفهوما ماديا، فبالاضافة لهذا المفهوم يجمع هذا المعرض بين فنّانين يستخدمون هذا المفهوم في أعمالهم من أجل تقصي هذا المكان، المكان الفلسطينيّ في مجتمع محليّ يعيش في دوائر طباقيّة ومركّبة، مقارنة بأماكن أخرى، الخشن مقابل الناعم الطري، الخشن مقابل الأملس، الطباع الخشنة مقابل الطباع السلسلة الاحتوائية، الرؤية الخشنة مقابل الرؤية الصمّاء الضيّقة.
استخدام مواد، بعضها تقليديّة والآخر روتيني يهدف إلى نقل مقولات شخصيّة، اجتماعيّة، وربما سياسيّة، وهو يخلق علاقات فريدة بين الفنّان وعمله الفنّيّ من أجل إثراء الأدوات الفنّيّة وفي الوقت نفسه إثراء القدرات التعبيريّة مع استخدام تقنيات الإخفاء والإلغاء من أجل التعبير عن مواقفهم مقابل الثورة الجماليّة الهادئة ضد الأوامر الذكورية – الأب، الأخ الأكبر – في المجتمع الأبويّ، والتي تفرض السلوكيات التقليديّة على النساء وتُطالب بإخضاعها.
الأعمال المُشاركة في المعرض تعيش المرحلة وتحتوي قيمًا جماليّة ورمزيّة تعبر من ناحية عن تصوّر الفنّان، ومن ناحية أخرى تخدم تعمّقه في فهم المجتمع والعالم. الفنّانون وسردهم الفنّيّ ليسا جوهر العمل، بل السعي نحو نماذج مختارة، وهم يستغلون المعرفة التي يملكونها من أجل الموازنة بين المُتخيل وتجلياته المتوقعة، ليشكلوا حوارًا لا ينتقص من جماليّة العمل الفنّيّ.
يشارك في المعرض خمسة فنانين وفنانات بأدوات ومواد ورؤى خصبة ومتنوعة بين الواقعيّ والسورياليّ والفانتازيّ، هم خضر وشاح، صبحية حسن، ساهر ميعاري، منال مرقص وريم النتشة.
في أعمال الفنان خضر وشاح هناكَ طرح لموضوع شرف العائلة والنساء اللواتي قُتلن من قبل ذويهن. كل لوحة تحوي رقما وكل رقم يرمز على القتل تسلسل للأحداث. الأرقام التي تزهر في اللوحات لها دلالة عميقة لل "مجهول"، الرقم كدالّ يصيرُ رمزًا للخَوف ممّا تحمله اللوحة بألوانها القاتمة. وتكرار المجهول من خلال الأرقام المتسلسلة، توحي بقبور لها علامات بلا أسماء. القتل الجمعيّ المتواصل على خلفيّة أو تحت مسمّى شرف العائلة يصبحُ حالة تمثيل جمعيّ يتوارى من خلفها أصوات نسائيّة تتجلّى في العبارات المكتوبة داخل اللوحات: "أحن إلى خبز أمّي" على سبيل المثال.
على خيطٍ رفيعٍ بين المَوت وذاكرة تحنّ، يرقد صوت أنثويّ يتجسّد في رقمٍ وراء رقم. التسلسل جريمة، والجريمة جمعيّة تتضافرتتضافر فيها كافة عناصر الخشونة التي يحتضنها الواقع المحليّ-القبليّ للمجتمع العربيّ الأقليّ في البلاد.
تأتي الفنانة ريم النتشه بكلّ من الشخوص فتكثفها في إطار اللوحة لتتحدث عن خشونة الحياة اليومية. المخيم. وصراع البقاء عند الفلسطيني أينما حلّ.
أما الفنانة صبحيه حسن قيس فتأتي بنبتة الصبار وخاصيّة خشونتها الواضحة كنبتة صحراويّة تحتمل الفظاظة وقسوة البيئة وظروف المعيشة، التي اننا من الجهة الثانية نرى ثمارها الحلوة والرطبة. هذا التمازج بين الخصال: الحلو الخارج من رحم الخشن، مدعومًا باللون الأخضر بتنويعاته ودرجاته الفاتحة والغامقة له دلالة عميقة على الواقع الفلسطيني الرمزيّ والمعيش. فجدارية صبار تشهد أحداث 1948 الا مرت على ابن الأرض الفلسطيني بخشونة وصعوبة التهجير والقمع.
يتعامل ساهر ميعاري. يتعامل مع عمال البناء العربي الفلسطيني في البلاد. فيدمج في عمله بين النعومة والخشونة. مستعملا المتناقض في المادة. مواد ومواضيع عالقة. من جهة الفنان والمادة.
أما عند الفنانة منال مرقص فنشاهد الملمس المتغير من عمل إلى آخر، حيث تعرض العلاقات الجافة بين البشر. علاقات خشنة بدون الأخذ بعين الاعتبار الاحترام المتبادل. يمكن أن ننزاح بالعمل نحو اشكاليات شخصية، اجتماعية وسياسية.