يختبئ المعرض الاستعادي للفنانة الكولومبية دوريس سلسيدو (Doris Salcedo) في متحف الغوغنهايم في نيويورك، داخل ما يسمى "غاليريهات البرج"، الموزعة بين جميع طوابق المتحف. ويتسنى الوصول إليه بواسطة ممرات جانبية تخرج كقوسين من الجملة المدوّرة التي تشكل اللولب الايقوني للمتحف. وهذا حسن. فهذه ليست أعمالا ملائمة لمشاهدتها مكشوفة في اللولب.
سنبدأ من النهاية: A Flor de Piel״", العمل الذي يختتم المعرض هو جلد مصنوع من الورود. "فلور" تعني وردة و "بيِل" جلد، لكن معنى المصطلح هو شيء أشبه بـ: مشاعر متأججة قرب سطح الأرض. يُسمع الأمر جميلا وشاعريا لكن المنحوتة نفسها مثيرة للاضطراب – هذا جلد مسلوخ، نازف، فورنوغرافي بباطنيّته، يهيمن بأجزائه السفلية على مسطبة غرفة بأكملها ويبدو كأنه يواصل التضخّم. هذا الموضوع مصنوع من مئات آلاف تويجيات الورود الحمراء التي حفظتها سولسيدو ومعها جيش من المساعدين في الغليتسرين والكولغين وخاطوها يدويا الواحدة بالأخرى بخيط الرتق الطبي. هذا كفن رمزي لممرضة ما تم قتلها بالتعذيب في قبو كولومبيّ ما بسبب شيء ما فعلته.
امرأة ما وقع لها شيء رهيب: هذا هو مستوى التفصيل السياسي-الديموغرافي-الكرونولوجي الذي تقدمه سلسيدو في عملها. ربما أن هذا مفهوم ضمنًا لسكان جنوب أمريكا، ولكن فهمه من الخارج يتطلب تعلم كلمة أساسية في المعجم السياسي – التاريخي لأمريكا اللاتينية "Desaparecidos"، الترجمة الحرفية للكلمة هي: "مختفون"، ولكن المقصود عمليا هو من "المختفون قسرًا": رجال، نساء، وأطفال اختفوا في احد الأيام دون ان يتركوا أية علامة، وفي أفضل الأحوال يجدون جثثهم في مقابر جماعية. يتم خطفهم، تعذيبهم وقتلهم لان أسماءهم ظهرت في قائمةٍ ما تربطهم بنشاط سري ضد النظام، الجيش أو منظمة إجرامية. اذا كان هذا يبدو للأسماع أشبه بتفسير عام، فالأمر يعود إلى أن أسباب "اختفائهم" هي عامة وغير شخصية، والقتل الذي يرافقها هو منهجي ومجهول الهوية.
سلسيدو هي فنانة سياسية بأكثر مفاهيم الكلمة وضوحًا، وفنها هو على الدوام تقريبا ردّ على كارثة محددة وقعت لأشخاص محدّدين في مكان محدّد. المشكلة هي ان الكوارث التي تتحدث عنها وقعت في العديد من المرات المحددة لعدد كبير من الأشخاص المحددين، الذين لو بدأنا بعد أسمائهم وتواريخهم فلن ننتهي. والاهم بالنسبة لسلسيدو – أن الحدث الصادم سيظل "هناك"، في بلاد بعيدة مع مشاكل سياسية أجنبية، وليس "هنا"، في العالم الذي نعيش فيه حيث يفوق العنف القدرة على استيعابه ويشكل حدثا يوميا. العمل الوحيد في المعرض الذي يرتبط مباشرة بمفهوم من تم إخفاؤهم هو إنشاء اسمه "Atrabiliarios" (وهي كلمة لا يمكن حتى لسلسيدو ان تترجمها) وفي مركزه أحذية نسائية وُجدت في المقابر الجماعية المذكورة وقامت سلسيدو بدفنها في جدران المتحف داخل محاريب مقفلة بمادة نصف شفافة مصنوعة من معد البقر. على الرغم من أن التقنية تذكر بمحاريب لقديسين معذبين في الكنائس، فلدى سلسيدو ليس هناك تاريخ أو إشارة لمكان الموت الى جانب الأحذية. كل ما نعرفه أن الأحذية المعينة كانت تابعة لمرأة أحبت الأحذية السوداء، والأحذية الأخرى تابعة لمرأة كان مقاس حذائها 38.
دوريس سلسيدو معروفة بانشغالها وعملها على الرضة الجماعية المرتبطة بالأنظمة الشمولية: تعذيب تحت وصاية حكومية، حرب ضد مجموعات عصابات وسائر الظواهر السياسية والاجتماعية المتداخلة في تاريخ كولومبيا وحاضرها. ان المعرض في غوغنهايم هو معرض استعادي، لكنه استعادي جزئيًا، لأنه تغيب منه المنحوتات العملاقة العامة التي انتجتها سلسيدو، والتي لا تلائم أحجام الغاليريهات في المتحف. ويُذكر بشكل خاص العمل "سنبلة" من العام 2007 حيث أحدثت سلسيدو شرخا هائلا بطول 167 مترا في مصطبة قاعة التوربينا في متحف تيت للفن الحديث في لندن، ولا يزال بالإمكان رؤية الندبة فيها حتى اليوم.
أعمال سلسيدو في غوغنهايم تكتفي بشرخ رمزي وغير ظاهر للجسد، إشارة حربية عنيفة تحدث خارج إطار الغاليري، ويتحدث ضحاياها عنها في مقابلات طويلة. احد الأمثلة المثيرة في المعرض هو العمل ״Disremembered״، وهي تلاعب بالكلمات ما بين كلمة ابتكرتها الفنانة نفسها، لا يتم تذكرهم. هذه الكلمة التي تذكر أيضا بالكلمة الانجليزية Dismembered (مقطّع). هذا المشروع يعرض ثلاثة قمصان رقيقة، نسائية وبسيطة، معلقة على الجدار في الغاليري الأكثر جانبية، فيما يشبه الممر. القمصان مضاءة بالكاد وتبدو كما لو أنها مجموعة ثياب خفيفة لمصمم الأزياء الياباني ايسي مياكي. ولكن رؤيتها عن قرب تكشف أنها مصنوعة من خيطان حريرية برية وبين الخيطان تلوح خطوط دقيقة سوداء، عيدان صغيرة هي بالأحرى ابر خياطة دقيقة محروقة. القمصان هي أدوات تعذيب غير مرئية، لا يمكن لمن ترتديها أن تتنفس دون ان تتألم. وقد أنتجتها الفنانة ردا على مقابلات مع أمهات لأبناء كانوا في عصابات وماتوا موتا عنيفا – وهي مجموعة سكانية ثكلها "لا يؤخذ بالاعتبار مثل الأخريات" وهو ما تسميه سلسيدو "موت على قيد الحياة".
إلى جانب القمصان تم وضع مجموعة أعمال أخرى تعمل سلسيدو عليها منذ ما يزيد عن 20 عاما واسمها ״La Casa Viuda״ "البيت الأرملة". السلسلة مؤلفة من أثاث وجدته سلسيدو وملأته بالباطون. في قسم من الحالات ربطت الأثاث معا وأنتجت أثاثا مهجنا يلبي المنطق الحلمي الفرويدي حيث يمكن السرير ان يكون خزانة أيضا، ويمكن للبيت ان يكون فارغا تماما وأيضا مليئا حتى النهاية، في نفس الوقت. الباطون هو مادة البناء لكنه أيضا المادة التي تصنع منها القبور. انه المادة الحديثة بلا منازع ولكنه أيضا أكثر المواد تمثيلا للفراغ بتجسده.
تقول سلسيدو إن كولومبيا ، التي تسميها "بلاد الأرامل" قد فقدت قدرتها على الحداد، وبمعنى معين فقدت القدرة على التفكير في المعاناة التي وقعت لأشخاص حقيقيين نتيجة لأحداث سياسية كبرى. الفنان والمعلم جون بلديساري (Baldessari) قال مرة إن وظيفة الفنان هي أن يؤشر. في أعمال سلسيدو تقوم بالضبط بهذا – تؤشر على ما وقع ولا يزال يجري في بلاد تعودنا ان نسمع عنها في الأخبار، وللحظة واحدة تضع لنا الفنانة أمام أعيننا الأخوات، الأرامل، والأمهات المحددات.
*المعرض الاستعادي لدوريس سلسيدو في متحف الغوغنهايم في نيويورك يعرض حتى 12 تشرين الأول.