يمكن للمسافر صدفة أن يمر في الشارع الرئيسي لبلدة الفريكة في لبنان من دون أن لا يلاحظها بالمرة. فهي تتداخل تماما مع القرى المتاخمة ببيوتها الحجرية المكشوفة، مقابل جبل صنين ومقابل تمثال سيّدة لبنان، المطلّ على السفح المنحدر المتدرج نحو بيروت. في ساحة احد البيوت يقف رجل انيق ببذلة بهيّة مستقبلا الزائرين. الالواح المذهبة واللامعة على البوابة تعلن بخط يد جميل: متحف امين الريحاني.
يفتح امين الريحاني الباب على البيت التاريخي للعائلة عارضا نفسه، بتواضع فضولي، من خلال محادثة قصيرة وتقديم ضيافة خفيفة، بوصفه بروفيسور كبير ومحرر فخور للطبعات التي لا تزال تقدم الموروث الأدبي لعمه، امين فريحة الريحاني (1876- 1940). مؤخرا، في 24 تشرين الثاني 2016 صدرت المجلدات الستة لأعمال الريحاني الكاملة باللغة الانجليزية بإصدار Librairie du Liban Publishers، على شرف الذكرى الـ 140 لميلاده. يقدم الريحاني ذكريات طفولية ويروي قصصا عن كروم العنب ذات السلاسل الحجرية التي قام عمه المرحوم ببنائها، وتتدرج اليوم وسط البنية الحجرية الصلدة للمتحف.
يشعل الضوء، يحمل مصباحا يدويا، وبمساعدة شاب محلي يباشر بجولة شاملة بين الرسائل، الكتب، الاعمال الفنية ولأغراض الشخصية للكاتب المشهور، وهي تشمل غليونه والقبعات الي اعتاد اعتمارها وفقا لمكانته، من قبعة الفيدورا التي جرت العادة على اعتمارها في قريته وحتى القبعة الاجنبية التي لاءمت نيويورك في فترة بلوغه. هناك اضواء خافتة تنير صندوقا زجاجيا يحتوي الى جانب كتبه حول المملكة العربية بين السنوات 1924- 1928، مجموعتي كتب باللغة العبرية – وهي لترجمات الاولى لكتابه المؤسس ملوك العرب، الذي صدر في الأصل باللغة العربية تحت هذا العنوان عن دار الكتب العلمية في بيروت عام 1924، في مجلدين يحتوي كل منهما على ما يزيد عن 400 صفحة للمجلد الواحد.
في العام 1926 مرت عبر مكبس الطباعة في يافا المجلدات الاربعة بالنسخة العبرية لكتاب ملوك العرب والتي ترجمها مناحيم كابليوك (1988). في العام 1933 تمت اعادة طباعتها من قبل دار النشر أمنوت التي أقيمت في العام 1917 في موسكو، اضافة الى فرع لها في أوديسّا، والتي فرّت من وجه الثورة البلشفية الى فرانكفورت في المانيا. في العام 1928 استقرت دار النشر اخيرا في فلسطين، كمعمل صهيوني بقيادة شوشانا بيرسيت. وقد نشرت دار النشر أمنوت حتى إغلاقها في العام 1942 نحو 500 عنوانًا لصالح قرائها الكثيرين نسبيا في تلك الفترة، وعرّفت آلاف محبي القراءة اليهود على الادب المترجم من جميع انحاء العالم.
امين الريحاني، الكاتب العربي الامريكي الذي اشتهر بفضل كتابه الممتاز كتاب خالد، والذي كتبه باللغة الانجليزية، ألهب خيال الحداثويين الأوائل. فالكتاب الذي صدر في العام 1911 جمع ما بين الاصول الشرق اوسطية وبين التيارات الثقافية التي عرّفت الحداثة الغربية. كتابه، "ملوك العرب، رحلة في البلاد العربية"، تمت اعادة تحريره وصدر بالانجليزية في ثلاثة مجلدات منفصلة، الأول في العام 1928 ثم المجلد الثاني والثالث في السنتين 1930 و 1931 على التوالي. لقد كان ناشروه، Constable, Houghton Mifflin, MacMillan, and Oxford University Press، الأبرز في ذلك الحين. ورأوا أن كتابته تحمل قيمة أدبية متفرّدة تنعش المنظور العالمي لتصل الى العقول المنفتحة من لندن حتى بوسطن، وتورنتو حتى بومباي.
كان قراء العبرية في تلك الفترة متعطشين للكتب التي رفعت لواء قيم الانسانية العلمانية العزيزة على قلوبهم، ورعوا الادب الذي يثير التفكير مع الحفاظ على لهجة مخففة لتثقيف السكان الذين باتوا متنوعين اكثر فأكثر. لقد رغب القراء بالأساس في مواد تناولت وضعية التعددية الثقافية والحالة الاجتماعية السياسية الحساسة التي عاشوا فيها.
بما انه لا تتوفر اراشيف حول مشروعه الأدبي، فان محاولات مناحيم كابليوك لترجمة أدب عربي علماني وحديث للّغة العبرية ظلّت محاولات مجهولة، ايضا بالنسبة لعائلته المقربة، والتي كان عدد من ابنائها مثقفين مركزيين مع نمو الدولة الاسرائيلية في القرن العشرين. اولغا كابليوك، حائزة جائزة اسرائيل على البحث اللساني العام وارملة ابنه – الصحفي المشهور امنون كابليوك– تكاشف بأنها لا تعرف سوى القليل عن مشروعه. لقد قام امنون الى حد كبير بدفع موروث والده الثقافي وذلك بكونه مناصرا متحمسا للأقليات في اسرائيل، ومن دعاة الحوار بين الثقافتين العبرية والعربية. لقد كان بين مؤسسي منظمة "بتسيلم" وألف سيرة ذاتية شاملة حول ياسر عرفات ("عرفات الذي لا يُقهر"، 2004) وقد تضمن الكتاب مقدمة كتبها نلسون مانديلا. وفي تأبين له نشرته صحيفة الغارديان البريطانية بعد وفاته، نوّهت الى دعمه النضال الفلسطيني طيلة سنوات حياته.
إن القلائل فقط من بين الباحثين المؤثرين الذين يتناولون اليوم تاريخ الادب في الشرق الاوسط، بمقدورهم ادراك عمق الاهمية التي اولاها مناحيم كابليوك لتاريخ الأدب في اللغة العبرية. د. هيلل كوهين هو احد أولئك الباحثين. فهو يصنَّف بين "المؤرخين الجدد" ، بفضل كتبه الكثيرة مثل "1929: سنة الصفر في الصراع اليهودي – العربي" والذي صدر باللغة العبرية عام 1913 وترجم للغة الانجليزية عام 2015. وهكذا يشرح كوهين، كما يكتب لتوهو، جوهر المشروع العابر للثقافات الذي شكلته ترجمة ملوك العرب: "كان الهدف الاساسي للترجمات من اللغة العربية تقريب سكان بلدات الاستيطان اليهودي الى الثقافة العربية المحيطة بهم". ويضيف: "بشكل عام تميزت تلك السنوات بالنزعة الراديكالية للفلسطينيين الذين فقدوا ثقفتهم بالحكم البريطاني وكذلك بالصهاينة الذين رموا جانبًا حلم العيش بسلام مع العرب الفلسطينيين".
ولد كابلويك في روسيا عام 1900 وهاجر منها في العام 1921. تلقى تعليما صهيونيا في حركة الشباب "هحلوتس" ، التي دعت الى إعادة اقامة ارض الآباء بواسطة الاستيطان الزراعي. جاء الى البلاد في العام 1928 بعد ان مكث في وارسو وانضم خلالها الى "مجلس طلائعيي روسيا"، الذي قام لغرض تقديم المساعدة للمهاجرين اليهود في طريقهم الى فلسطين. حين وصل اخيرا الى البلاد مع الهجرة الثالثة، اوصلته قدراته في مجالات الترجمة الى الجامعة العبرية في القدس، حيث تعلم اللغة العربية ودراسات الإسلام، لأنه كان متمكنا من اللغة العربية المحكية بعد عمله كمزارع الى جانب سكان عرب محليين.
بعد خمس سنوات على ذلك، في العام 1927 كان كثيرون قد قرأوا زاويته الصحفية حول حياة العرب على صفحات جريدة "دفار" ، أهم الصحف في تلك الفترة حيث حرر هناك قسم الشؤون العربية. فقد كانت الصحيفة بوق حزب العمل المهيمن، ولكن كابليوك بسط جناحيه ايضا نحو جريدة هآرتس، قبل ان يتوجه الى التفرغ التام للترجمة في الثلاثينيات. لقد نشر ترجمات بالعبرية لكتب كتاب مصريين ما زالت أسماؤهم تجلجل في العالم: مثل طه حسين، توفيق الحكيم، وحائز جائزة نوبل للأدب نجيب محفوظ. في العام 1937 ترجم كتابين للمؤرخ الفلسطيني عارف العارف تناولا البدو في النقب.
ترجمة كتاب (ملوك العرب) لأمين الريحاني عام 1933 كان الثاني في أهميته ضمن الترجمات من العربية الى العبرية. في مقال بعنوان "ضحالة العبرية: ثلاثة نماذج لترجمة الادب العربي الحديث الى العبرية" وصف الباحث محمود كيال، رئيس قسم دراسات العربية والاسلام في جامعة تل ابيب، كابليوك على أنه الأب المؤسس لنموذج الترجمة الاستشراقية الأكاديمية1. وقال لتوهو: "لقد صادق الريحاني على ترجمة كابليوك بل أرسل له رسالة دعم عبر فيها عن ثقته بان الترجمة ستقرب بين الشعبين وبين الأديان"، ويتابع: "إنني أتساءل ما اذا كان هذا هو الهدف الحقيقي لكابليوك، واعتقد مثلما ادعيت في كتابي ان مهمة كابليوك كانت استشراقية وكانت رغبته عمليا هي ان يصبح القارئ العبري متمكنا من الثقافة العربية لكي يخدم مصالح الحركة الصهيوينة".
في حين يمتدح كيال كابليوك كمحرر اظهر تمكنًا ومعرفة لكتابات افضل الادباء العرب في فترته، فإنه أيضا ينتقد الانحياز الواضح لدار النشر التي عمل فيها الى الحركة الصهيونية. على الرغم من مساهمته التاريخية، يذكّر كيال بالشخصية التي أنتجها كابليوك لنفسه كمستشرق وخبير في الاسلوب العربي التقليدي. ويؤكد كيال بان كتب كابيلوك وخصوصا المقدمات التي كتبها للترجمات تعج بالصور النمطية والرجعية التي لا تمكّن من تخليص الهوية العربية من سياقات الماضي التاريخية والصراعات القومية الراهنة.
حين وصلت ترجمة كابليوك لكتاب ملوك العرب الى جمهور القراء في العبرية عام 1933 قام ميخائيل اساف، وهو مستشرق وصحافي في "دفار" وعضو في مباي ، بنشر استعراض للكتاب مؤلف من 1500 كلمة، في 20 ايلول من العام نفسه. ومثلما كتب د. كوهين عن هذا الاستعراض: "لقد امتدح اساف جرأة الريحاني التي كشفت الحقيقة حول الثقافة السياسية العربية، ووصفه كالأكثر غربية من بين الكتاب العرب في فترته." وهذا رد طبيعي اذا اخذنا بالاعتبار روح الريحاني الكونية وعديدة الطياف، والذي عرف كصاحب وواضع أسلوب في الأدب الأمريكي بنفس القدر الذي عُرف فيه ككاتب عربي.
- 1. See chapter 2 in Kayyal’s 2017 book Selected Issues in the Modern Intercultural Contacts between Arabic and Hebrew Cultures: Hebrew, Arabic and Death, Leiden and Boston: Brill, pp. 71-105