المرة الأولى التي كتبت فيها نقدا لمعرض لدافيد ريف كانت عام 1979، بمناسبة المعرض الشخصي الأول له في غاليري برينترس في القدس. بالنسبة لدافيد ريف الذي كان قد ترك قبل ذلك بسنتين بتسلئيل مع انهائه السنة الدراسية الثانية، كان هذا معرضا أولا له، وانا أيضا كنت ناقدا فنيا مبتدئا – فكنت قد بدأت قبل ذلك بفترة وجيزة فقط الكتابة في جريدة كول هعير. كلانا من نفس الجيل، وكناقد يجب عليّ الاعتراف انني تعلمت من ريف حول الفن أكثر مما كان يمكنني ان أعلمه. كان ذوقي الى حد بعيد هو ذوق أبناء جيلي، وانا متأثر من ريف الى درجة لا تمكنني من اتخاذ موقف نقدي.
مرت منذ المقال الأول 40 سنة. اتابع ريف واكتب عنه على نحو دائم، حتى لو انني أحيانا أكرر نفسي او لا يكون لدي ما أقوله لأن الأمور تبدو لي بسيطة وواضحة جدا، وريف أيضا يكرر نفسه ويتحدث بشكل بسيط وواضح سواء في الكلمات أو في الرسم.
قبل عدة أيام على لقائنا، الذي تم تسجيله والذي ينشر هنا كمقابلة، زرت المعرض مع تارتا، دافيد تراكتوفر، وحين عدت الى البيت جلست وكتبت مقالة قصيرة حول الزيارة. فور انتهائي منها أرسلت المقال الى بني تسيبر الذي اأخبرني فورا، خلافا لأسلوبه، بأن المقال سينشر في نفس الأسبوع. بنظرة الى الوراء، أعتقد ان تسيبر لاحظ ما كنت أعرفه فقط بشكل مشوش، ان هذا المقال نجح بأن يؤثر في فنانين، في شخصين عنيدين يكبران في السن، لديهما شيء أكبر من نفسيهما، وهذا الشيء كما يبدو ذو صلة كبيرة في هذه اللحظة.
خلال المقابلة مع دافيد ريف بمناسبة معرضه في "ورشات الفنانين" في تل ابيب (القيمة: فيرد زفران غاني) سألته حول الاستقرار والمثابرة في أسلوبه ومواضيع الرسم لديه، ولكنني لم أسأله حول الشكل الذي يتم تلقي أعماله فيه، لأن هذا السؤال لم يخطر ببساطة في بالي في نفس اللحظة. بعد المقابلة، وخصوصا بعد النقد المتحمس والمرحب الذي قوبل المعرض به، خطر ببالي السؤال – كيف حدث أن قسما من معارض ريف يمر تقريبا بصمت تام في حين أن قسما منها يتم استقباله بالترحيب الحماسيّ؟ الفرق برأيي لا يعود الى فرق نوعي بين الأعمال وانما هو الفرق في السياق الاجتماعي – السياسي – الفني المتغير طيلة الوقت. على مر السنين رأينا تغيرات بندولية في مكانة الفن السياسي عموما وتغيرات في درجة رغبة الجمهور في تذكر الاحتلال أو نسيانه. كذلك، الانقلاب السياسي الذي لا يعتبر بالمرة انقلابا من ناحية الاحتلال، ينير الأعمال بضوء مختلف، وسيرورة تقدم الجيل الذي ينتمي اليه في السن هي سيرورة مختلطة: حسنٌ أن المسنين ينصرفون من مركز المسرح، فلربما يمكننا الآن ان نعيد النظر اليهم مجددا.
كان هذا تفكيرا ما بعد المقابلة، وفيما يلي المقابلة نفسها:
ايتامار ليفي: تعال نبدأ دافيد من رسم البورتريهات. لدينا هنا رافي، رافي ليفي، افيفا أوري، وهناك سياسيون، بوتين، غاندي الهندي وغاندي الإسرائيلي. كيف تختار، اذا كان يمكن طرح مثل هذا السؤال، وما معنى الاختيار حين تقوم بوضع رافي الى جانب بوتين او مروان البرغوثي؟
دافيد ريف: هذه أمور تدور في رأسي. لقد بحثت عن صور لأشخاص في الانترنت، رسمت 50 بورتريها كهذا واخترت منها البعض لهذا العرض. كلها شخصيات بهذا المستوى أو ذاك حاضرة لديّ في تفكيري، وجزء من صور عالمي. رافي لافي تعرفت عليه شخصيا وأفيفا لوري كنت قد التقيتها، لقد كانت لطيفة جدا. عرفت رافي كمعلم في المدرسة الثانوية، وآخرون أعرفهم فقط من وسائل الاعلام وبالأحرى هذه شخصيات أكثر مما هي شخوص حقيقية. أنظر، انا لا أعرف بوتين ولا نافالني، بالنسبة إلي هذه شخصيات من الصحيفة او من الحاسوب، من الانترنت. بورتريه بوتين مثلا هو عبارة عن صورة بروفايل صفحة الفيسبوك لديه.
أ.ل.: صورة لطيفة. يبدو جيدا في هذا الرسم.
د.ر.: يبدو أنه من المهم لديه أن يظهر لطيفا، وان يبدو شابا وقويا ووسيما وخطيرا. لهذا السبب لديه مصور وظيفته انتاج الصور التي يرغب فيها. في بورتريه آخر رسمته، ولم استخدمه في هذا المعرض في ورشات الفنانين يظهر مع رمزي قديروف من الشيشان، وهي أيضا صورة التقطها المصور الخاص. الصورة الثانية هي صورة اليكسي نافالني، في تصوير من المحكمة. مثلما تعلم كان قد دخل الى الدولة واعتقلوه على الفور، وهو يعتبر مجرما خطيرا في دولة بوتين، وكان في الطريق الى معسكر الاعتقال الأقصى الذي يمكث فيه الان. لدينا هنا عكس معيّن للأدوار. نافالني يبتسم ويرفع باصابعه شارة الانتصار وعلى الرغم من الابتذال المعين في هذه الايماءة لو اخذنا وضعه بالاعتبار، كونه يقف على اعتاب فترة طويلة من المعاناة والعذاب في أفضل الأحوال، فلا يزال مثيرا للانطباع. انه الشخص المثير للانطباع بين هاتين الشخصيتين وليس بوتين الذي يقدم مسرحية لشخص شاب من أجل الظهور في الفيسبوك. البوتين المصور مع دب في الثلج او الذي يتدرب على اطلاق النار من أجل الظهور كم هو قوي. لذلك...
أ.ل.: يوجد لدينا هنا عكس للواقع الى حد ما.
د.ر.: أو ربما subversion كيف نقولها؟
أ.ل.: نعم تسلل أو عمل سري؟
د.ر.: رفض معين... الأمر نفسه في الصورة التي بجانبها، صورة غاندي البطل القبضاي الازعر لدينا مع "يوم رحبعام زيئيفي" الرسمي لدينا والتي يتقاسم صورة مع المهاتما غاندي.
أ.ل: اذا أنت عمليا تستدعي نقدا على العرض السطحي. أنت كأنك تقول، لحظة، صحيح، أسود وأبيض، خير وشر، شخصيات شهيرة نحن نحبها ونكرهها، نعجب بها ونحتقرها، ولا تحاول ان تتنصل وتهرب من الأسود – أبيض، انت لا تحاول أن تتنصل من العرض السطحي.
د.ر.: ولكن في روسيا بوتين هو البطل.
أ.ل.: واضح نعم ولكن...
د.ر.: في روسيا معظم الناس سيقولون عن هذه الصورة: هذه زبالة. انها لا تظهر بوتين بكامل مجده. لا زالوا هناك معجبين بستالين.
أ.ل.: ولكن هناك استراتيجية معينة لأجل... أخذ وضع سياسي وجعله معقدا أكثر، لنقل الصراع ضد صورة مصممة ما، هناك استراتيجية أخذ صور كهذه والمبالغة فيها الى درجة الأبسورد. أنت موجود أكثر في التكتيك الثاني. أنت تقول: حسنا، أسود أبيض، سأبالغ في الأسود أبيض هذا، سأذهب الى الأسود وأبيض واحضر ذلك الى مكان مثلما احضر اندي وورهول جاكي كندي او مارلين مونرو. وضعٌ فيه الصورة قوية الى درجة أنه لا يوجد معنى لموقفك. أنت ضد مارلين مونرو؟ تحتقرها؟ هذا أكبر منك...
د.ر.: بالنسبة لمارلين مونرو نفسها، من الصعب عليّ أن اكون مؤيدا أو معارضا لها لان كل ما أعرفه عنها هو من وسيط ثاني او ثالث. هذا يعني أنه في افضل الاحوال هذه أمور كتبها شخص يعرفها، مثل زوجها الكاتب المسرحي ارثور ميلر على سبيل المثال. قرأت عنها في كتابه وكان الانطباع انها امرأة لطيفة ولكن هذا ليس هنا ولا هناك. كيف يمكنني ان أكون مؤيدا لها؟ ما يهمني هو صورتها. أي الـ pin-up girl في امريكا، المرأة التي جذبت الاخوين كندي، وهو ما ادى ربما الى موتها؟ لقد كان لها دور. انا اتناول في البورتريهات بالاساس الدور والشخصية العامة لمن اأرسمهم وليس الاشخاص أنفسهم... انا لا أعرف شخصيا أيا من مواضيع هذه السلسلة سوى رافي لافي، وما يهمني فيه انه هو ايضا كان ذا شخصية حازمة وذات هيبة، ويهمني كيفية التعاطي مع هذه الناحية لديه.
أ.ل.: أي أننا لا نتناول هنا الجانب البيوغرافي او النفسي، وانما أكثر الاجتماعي أو الشخصيات وصورة الشخصيات بوصفها تحدد حقلا خطابيا.
د.ر.: نحن كما يبدو بحاجة الى زعماء و... أعتقد أن هذا ما نحتاجه للتعاطي معهم كي نحسن حياتنا هنا في نهاية الامر... لنقل ان لدينا هنا بورتريهات لادريانوس وسبستيان (في اثنتين من المفردات الممكنة لأسمائهما)، القياصرة "الاشقياء" الذين ما زالوا نموذجا للسياسيين. من ناحيتي هم وبوتين يمثلون شيئا مشابها، يمثلون سلطة، يمثلون المجد بطبيعته التافهة.
أ.ل.: وأمامهم تبرز شخصيات مقيدة، نافالني وكذلك البرغوثي. ومن هذه؟ ما اسمها؟
د.ر.: خالدة جرار.
أ.ل.: نعم. الشخصيات المقيدة بحركة النصر أو بيدين مرفوعتين.
د.ر.: نعم. لانك حين تكون مع يدين مقيدتين وترفع اليدين مع القيد حولهما لديك هنا لحظة من... من النصر.
أ.ل.: إذا يوجد هنا الكثير من الوعي للاعلام، لخلق صورة أو طابع انتصار...
د.ر.: الاعلام هو أيضا نوع من الجمهور، مثلما نحن جمهور أو جمهورنا هو نوع من الجمهور... المشاهد موجود منذ البدء في هذه الصور.. والمصور، كما ترى، حين يصور المصور نافالني في المحكمة أو يصور بوتين، فللحظة ما لا يكون لديه رأي، هو حِرَفي وتقني يحضر الصورة الى الجمهور. بقدر ما يكون هذا ممكنا بالطبع.
أ.ل.: في الكثير من رسوماتك هناك نوع من التشويش، صحيح؟ خطوط أو تقاطعات مسحة أو خط مشوش باللون الأسود يحاذي الصورة ويشوش القراءة إلى حد ما.
د.ر.: عموما كلها تقريبا... في البداية كلها كانت مشوشة، مع خربشات فوقها أو رسم يخفيها وبعد ذلك أجريت عليها تعديلات للأعمال التي انجزتها، مرايا مكسورة، كل البورتريهات كانت تعاني من خراب بهذا الشكل او ذاك. لاحقا رسمت ازواجا من الشخصيات، الواحدة مقابل الأخرى – هذا بالتالي أمر بحد ذاته، هذا نوع من تشويش الصورة، لأنه يوجد هنا ما يشوش الصورة في جميعها تقريبا.
أ.ل.: اشرح لي ما هو هذا التشويش، هذا التخريب. لماذا تراه مهما؟
د.ر.: هذا مهم قبل كل شيء من أجل التشديد على أن هذه صورة فقط ورسمة فقط، شيء اصطناعي. لنأخذ هذه الصورة للبرغوثي. توجد صورة معروفة للبرغوثي تم التقاطها في المحكمة. أخذوا هذه الصورة ورسموها على إطار ورسموا الشخصية من خلال هذا الاطار، نوع من الغرافيتي. وبعد ذلك جاء أحدهم وصور هذا القسم من الجدار بجانب القاعدة العسكرية عوفر – وسمعت أنها كانت بجانب عوفر على الجدار الصغير هناك. بجانب هذا كتابة غرافيتي بعدة لغات.. صبرا يا مروان. هذه هي الصورة ولكن هذا المنتوج مر أجيالا على اجيال من الابتعاد، وهذا أيضا أعجبني. على النحو نفسه فإن الصور المنحوتة الجميلة لقياصرة روما العظماء قمت بإلباسها نظارات سوداء واسنان صبيانية. وكأنما الصورة نفسها بالنسبة اليّ أقل أهمية. انها فقط الصورة الجذرية لدي.
أ.ل: هذا يعني ان لديك بالاحرى الكلمة الاخيرة لتقولها، صحيح؟ أنت تقول الكلمة الاخيرة من خلال هذا التخريب...
د.ر.: أعتقد انه من ناحيتي، أنا قليل الاهمية في هذه السيرورة. ما يهمني هو فقط حقيقة الشخصية ولكنني لا أريد ان يأخذوا الشخصية او الصورة مثلما تم تقديمها، ومثلما تظهر. لأنها مثلما تظهر هي دائما صورة كاملة، وبنظري هذا دائما نوع من الوهم. هذا يعني أنه يهمني رسم صورة مع قوة ومع مكامن ضعف وليس الصورة الكاملة. لهذا السبب لا أعتقد أنني أرسم نوعا من الاشتراكية الواقعية مثلما تم الادعاء ضدي احيانا. نعم أنا لا أمثل شيئا كاملا... حتى حين أرسم اشياء أحبها.
أ.ل.: بالنسبة للأمور التي تحبها يوجد هنا بورتريه للرسام الامريكي ليون جولوب، وهذا الاختيار هو اختيار مهم على نحو خاص. ما يشبه نوعا من الاخ الاكبر.
د.ر.: يوجد فيه شيء ما مختلط قبل كل شيء، صورة ظهرت كتمثيل للعنف بأقصى الدرجات لدرجة انه من الممكن اتهامه بتعظيمها. والشكل الذي يظهر في الصور، خصوصا في سنواته الاخيرة، ذلك الرجل المسن والمريض نفسه، هذه ليست صورة بطل. ليس كالقياصرة او غاندي الاسرائيلي... انا أحب جولوب، قبل كل شيء هو أحد الفنانين الذين أثروا عليّ. بورتريهات السياسيين لديه، سلاسل بورتريهات رختر، يشكلان مرجعيتين (من بين مرجعيات أخرى) مدّتني بالرغبة في انتاج سلاسل البورتريهات التي عملت عليه في السنة ونصف السنة الاخيرة، وهي بالطبع عكس معيّن لهذه السلسلة لدى رختر.
جزء من السبب في انني انتجت البورتريهات بالأسود والأبيض هي أن هذه أعمال رسم تخطيط إلى حد ما...
ولكن أنظر، أنا أنظر ايضا الى افيفا أوري كنموذج فني، وكذلك الى ليلي كارسنر... ورافي، ربما أقل، لأن رافي كان معلمي في المدرسة الثانوية، وقد تعرفت على ضعفه حين كان لا يوافقني وكان يغضب ويواصل الغضب حتى... بشكل دائم.
أ.ل.: هل كتب عنك؟
د.ر.: نعم، كتب عدة مقالات نقدية لأعمالي واذكر مثلا أنه كتب كيف كان يذهب معي إلى مظاهرة لكنه لم يكن يعتقد أنه من الصحيح إدخال السياسة إلى العمل الفني، برأيه العمل الفني لا يجب ان يتعاطى بالمرة مع السياسة. في معرضي الأول الذي كتب نقدا عنه قال إن هذا يبدو أشبه بدكان لورق التابيت، معرض لأعمال بموضوع الخط الاخضر. وهكذا تواصل الأمر، كان يرفض تماما أي تنازل وأية هدنة مواصلا مهاجمتي، وبرأيي هكذا كان يتعامل أيضا مع نقده بالأساس، بشكل أدائي وكوسيلة داخل سياسة الفن في اسرائيل.
أ.ل.: إذًا رافي لافي هنا هو بالأحرى على المفترق ما بين السياسيين والفنانين.
د.ر.: صحيح. ولكن بطبيعة الحال الفن موجود أيضا في سياق سياسي مثل كل شيء آخر، مثل كل مجال.
أ.ل.: صحيح، أنا تحدثت فقط عن السياسة التي في داخل عالم الفن وليس فقط عن الفن بوصفه يعكس أو يتطرق الى...
د.ر.: كان رافي شخصا قويا بهذا المفهوم في إسرائيل، في حقله الصغير، وأفيفا، التي طورت إلى جانبه ما أراه بنظري فنا مثيرا أكثر للاهتمام، مع كل الاحترام للمساهمة المتواضعة ولكن الحقيقية لرافي، كانت ضعيفة من هذه الناحية في سياسة الفن المحلي. وبدون علاقة للعمل. ومارلين مونرو التي كانت ممثلة رائعة ولكن ضحية على ما يبدو على طول مسيرتها المهنية. هكذا يعمل هذا المجال في احيان متقاربة. لا يوجد بالضرورة علاقة ما بين قوة من النوع الاول وقوة من النوع الاخر. مثلما نعرف جميعا.
أ.ل.: إذا نحن نصل عمليا بواسطة البورتريهات الى حقل القوة. يمكن القول أيضا الى مستغِلين ومستغَلين ومسيطِرين ومسيطَر عليهم. هذه ايضا هي العلاقة ما بين البورتريهات ورسومات الاحتلال والمظاهرات. من الطبيعي أن تسير هذه الاعمال كلها معا. كيف يندمج هذا مع عنوان المعرض واللوحة بعنوان "دكان دافيد الحرامي"؟
د.ر.: كانت الطريقة التي وصلت بها هناك بسيطة. رسمت بالأبيض والأسود رسمة مجردة، أشبه بتمثيل حر، صورة مجردة للستوديو. وظهرت فيها أشياء كثيرة، رسومات؟ أثاث؟ جرة؟ ليس واضحا بالمرة. خربشات وايحاءات قليلة. من اليمين كانت هناك مساحة فارغة في اللوحة وقلت لنفسي أنه يجب أن أضيف شيئا ما – أن اكتب شيئا. وفكرت بما يمكن كتابته وخطرت ببالي جملة وكتبتها. وحين كتبتها احببتها، قلت: "جميل سأطلق هذا الاسم على معرضي القادم".
المعنى؟ في نهاية الامر لا اعرف بالمرة. يمكن ما بعد الفعل تفسير الجملة بمعان كثيرة: أعتقد انها تتطرق بالأساس الى مجرد فكرة محاولة بيع لوحة، او تمثيل الاشياء وكأنما هناك قيمة للفن. لأن القيمة الحقيقية للفن هي عنصر اللعب والجمالية فيه وبُعد الأحجية الكامن فيه وما شابه، وان تروي قصة... ليس بالضرورة مسألة من الصعب جدا تقديرها كميًا بواسطة النقود أو بقيمة اخرى، لأننا جميعا نحكي قصصا ويجب أن نحكي قصصا لكي نواصل حياتنا.
أ.ل.: لم أكن اعرف ان هذه رسمة للستوديو، يجب عليّ القول.
د.ر.: ستوديو ولكن هذا نوع من الدكان. هناك طاولة، قطعة اثاث، لا أعلم...
أ.ل.: لديّ أيضا يرتبط هذا بتلك الفجوة التي تستدعي الحرامي...
د.ر.: ربما، ربما، ربما لهذا السبب. كأنما الستوديو هو نوع من الفراغ، الفجوة.
أ.لأ.: تعال نواصل الى رسومات ولوحات المظاهرات ولكن لربما تحكي قبل ذلك عن المراحل التي تمر بها منذ تواجدك في مظاهرة، تصويرها، اجراء تحرير او مونتاج، ثم اختيار الفريمات. كيف تصف هذه السيرورة واختياراتك فيها؟ يمكنك ان تنظر الى الخلف وتقول ما إذا كان هناك مبدأ يوجه خياراتك بخصوص الفريمات؟
د.ر.: استخدم في الرسم مقاطع فيديو تظهر احتجاجات ضد الاحتلال والابرتهايد الاسرائيلي، والتي أكون قد شاركت فيها وأقوم بتوثيقها. بشكل عام اذا كان هناك فيديو يحتوي على مقاطع بصرية تعجبني فإنني أشاهدها، وانظر محاولا العثور على ما اذا كانت هناك صورة ملائمة للرسم بحسبها، فريم ملائم للعمل وفقا له. لديّ الكثير من هذه، الالاف منها ولذلك وبشكل عام يمكن العثور على شيء ما مثير للاهتمام لو بحثنا عنه.
أ.ل.: ولكن على نحو عام أنت لا تبحث عن لحظة ذروة سواء من الوحشية او من الصدام.
د.ر.: لا ولكن هذا مثير... ولكن هناك... هناك أمور بالنسبة لي هي تمثيل قوي، كأنما بشكل جانبي، ذلك التفصيل الذي يكشف الوضع بأكمله. تعال نقول إن هناك لحظات دراماتيكية التقطها، مثلما هنا في اللوحة التي أظهرتُ فيها اصدقاء لي، فلسطينيين واسرائيليين، واقفين في الماء محاولين وقف بولدوزر يشفط الماء من هذه البركة. كانت هذه مرحلة سابقة ومبكرة في اخلاء الناس من بلدة الخان الاحمر. رسمت لوحة وفقا لهذا المشهد. شغلت مقطع الفيديو الذي صورته في حينه، اوقفته، اخذت فريم، وفريم اضافي من فيديو صورته في قرية نعلين كانت تظهر فيه نباتات صبار، شجيرات من الصبر، ودمجتهما معا لأنني أحببت الصورة التي تظهر كيف أن الناس سجناء داخل هذه المواجهة مثلما داخل شجيرات من الصبار. لقد انتجت دمجا بالفوتوشوب بين الأمرين، كولاج.
أ.ل.: إذا انت تنجز المنظور أولا بواسطة الفوتوشوب، تدمج هذا وتقص ذاك.
د.ر.: دمجت في معظم اللوحات رسمتين، وضعت طبقتين، محوت في الأولى، وأظهر بواسطتها الطبقة الثانية. بعد هذا خربشت عليها مرة ثانية بالممحاة بالفوتوشوب، واستخدمت تقنيات اساسية جدا، بالأساس المحو. انتاج طبقات ثم محو. أنا لا أعمل بالفوتوشوب بشكل فني ذكي ومشدد ولا أريد ان أصل إلى هذه المستويات من الجودة. أريد أن يشاهدوا العمل في حين يظل فيه شيء مشابه للواقع، انا لا أنتج رسومات رقمية كي تظهر مثل الصور. هذا يعني ان يكون مشغولا عليها أفضل مما يمكن القيام به في الرسم، مثلا، وهذا معظم التفكير السائد بـ"الرسم الرقمي"، الذي يفترض ان يكون اشبه بصيغة محسنة اكثر للرسم.
أعرض هذا كله على شاشة وانجز الرسم وفقا لبث تلك الصورة، ولكن مع او بدون علاقة بالصورة التي تظهر على الشاشة، الرسمة تكون أفضل او أسوأ او مشغولة جيدا او بشكل أقل جودة، هذا يعني أن ما أبثه على الشاشة هو فقط سقالات أبني عليها اللوحة.
أ.ل.: في الفيديو نفسه، في الشكل الذي تبثه هناك شعور بأنك لا تحافظ عليه دائما في الرسمة وفقا له، وأن النبرة قوية، الصورة قريبة من الناس، وهناك عنف. أما في الرسمة، فحتى لو كانت شخصيات مرسومة عن قرب او بنصف جسد مثلا، يظل على الدوام ما يكفي من الفضاء او المشهد الذي لا يفرض عليها ذلك القرب العنيف الموجود في الفيديو، وعنف نحو المشاهد ايضا.
د.ر.: كلا، انا اتضامن مع المشاهد وبذلك فالأمر أشبه بالرغبة في رسم الضجة للمشاهد من أجل تمثيل الضجة التي أشعر بها امام الموضوع الذي يمثله الرسم.
أ.ل.: لربما أن الخربشات بالأسود التي تضيفها على وجوه الشخصيات نوعًا من الضجة. شيء أشبه بنوع الضجة التي سجلتها في الفيديو.
د.ر.: بنظري هذا محو أكثر من اي شيء اخر، كأنك تقول لديك هنا فعل النظام، الجندي يشير، الجندي يقف أمامي، انا اعرف انه يشير والى اي اتجاه، لذلك اذهب الى هناك. هو المنظم، انه يقوم بفرض النظام وهذه الخربشة. المحو، نوع من الاحتجاج ضد هذا النظام، تشويش لهذا النظام. مثلما أفعل بواسطة تشويش الشخصيات المليئة بالسلطة والهيبة في البورتريهات بالأسود والأبيض. مثلما في العنوان Press التي تظهر على معطف المصور هناك حرف ممحي ويحوّل الكلمة من ناحيتي الى ذات معنى اقوى مما لو لم افعل ذلك. هذا يحوّلها الى اكثر... وكأنما أكثر من كليشيه، الى شيء ذي معنى.
أ.ل.: هذا يجعلها ايضا حالة خاصة عينية.
د.ر.: نعم، نعم، لأنه كان مهما لي التعبير عن أن هناك محورا خاصا. لا يوجد لدي طموح الى نوع من الأمور الكاملة ولم يكن لدي دافع لإنتاج شيء او موضوع كامل. إذا كان هناك شيء مهم في الرسم فهو محاولة انتاج شيء وليس الشيء المنتج.
أ.ل.: لاحظت أنك في المظاهرات تصغي جيدا للازهار، سواء كانت أوراق سقطت على الارض، أوراق شجر اللوز وشيء يبدو مثل نبتة المجنونة (بوغنفيليا)، في الماضي كانت لديك رسومات لفتى يقف في وسط المظاهرة ويقطف شقائق النعمان.
د.ر.: نعم.
أ.ل.: هناك شيء ما، ماذا نسميه، عاطفي تقريبا؟
د.ر.: نعم. منذ نحو 10 سنوات وحتى اكثر تظهر هذه في الفيديو الذي صورته في الشتاء لأنه توجد عندها فترة إزهار قوية جدا هنا في المنطقة. بالمجمل لا اتجول كثيرا في الطبيعة، الطبيعة التي اراها بالأساس هي في هذه المظاهرات التي اتواجد فيها. وفي كل سنة هناك إزهار رائع لشجر اللوز وشقائق النعمان والكثير من الازهار الاخرى وانا احاول ان اصورها من خلال القيام بتنويع، كي لا تظهر الأمور كلها "بوم طراخ" وناس يركضون بالأساس، وأحب ان ادمج الازهار في لوحاتي، نعم.
أ.ل.: هناك شيء اخر يلفت النظر وهو القرابة، وهي القرابة في الجيل ما بين المتظاهرين والجنود..
د.ر.: نعم، الشبان الفلسطينيون هم بنظرة عامة أكثر شبابا، مثل أخوة الجنود الصغار، ولكن هناك الكثير من الشبان الذين في عمر الجنود. ولكن الفرق بالطبع هو انه يوجد لدى الجنود سلاح بينما لا يوجد لدى الفلسطينيين – لأنه لو كان الشبان من القرية يحصلون على سلاح او يأخذونه فكانوا سوق يقتلونهم وكانت النتيجة سيئة بالنسبة للقرية. ولكن هذه الحرب هي حرب رمزية بالأساس.
كنت أريد ايضا أن أشير إلى أن الفيديو وكذلك هذه الرسومات تمثل بنظري الطابع العسكري جدا للمجتمع الذي نعيش فيه. الجيش موجود بشكل مرئي أو غير مرئي، والجيش هو الاجماع الحقيقي للدولة مثلما هي اليوم بكل ما يعنيه ذلك.
أ.ل.: يبدو، بنظرة سطحية على الأقل، أنك لا تتناول بالمرة مسألة تطور الاسلوب لديك. هل هذا صحيح؟ كيف كنت تصيغ هذا؟
د.ر.: انظر. بيني وبينك، معظم الفنانين الجديين الذين أعرفهم يصلون إلى أسلوب معين في فترة مبكرة من عملهم وبعد ذلك ينشغلون ويعملون طيلة الوقت في ؟ to refine. انهم يعملون في التلطيف والدفع نحو الكمال بقدر استطاعتهم لأسلوبهم هذا ولا يحيدون عنه لا يمينا ولا يسارا. فأنت تعلم انه إذا لم يكن هذا مهشما فلماذا يجب أن تصلحه؟ ولكن هناك الكثير من الفنانين وليس بالضرورة ممن نعرفهم، يهتمون بتطورهم وهم مثيرون للاهتمام في العديد من الحالات. ولكني لا أعتقد ان هذه استراتيجية جيدة بالضرورة من ناحية تجارية.
من ناحيتي الشخصية، انا لم أكن لأتصرف وفقا لاستراتيجية عشوائية صحيحة او حكيمة، انا لا اعتقد انني اقوم بالعمل في محاولة لـ"التطور" على نحو خاص. لدي في رأيي شيء ما اريد ان اقوله، انا اريد ان انقل هذه الفكرة للجمهور وأريد ان يرى الجمهور ما أفكر أو ما أشعر فيه. هذا الشيء ليس من السهل القيام به من ناحية تقنية، لدي ألف طريقة للقيام بهذا لذلك فإنني أحاول العمل قدر ما يمكن بشكل مباشر.
بشكل عام كلما كنت مقلا أكثر في الانشغال بالوساطة التي أقوم بها، بما أحاول نقله وكيف، فهذا يكون أفضل. كوني بدأت التصوير بالفيديو عام 2004، 2005، كان بالنسبة لي تجديدا وانعاشا للغتي البصرية. على الرغم من أن هذه اللغة بالأساس تختلف تماما عن لغة الرسم، ومحاولة القرار فيما بينهما او انتاج شيء يضم كليهما وهو ما أعجبني على الدوام، بالضبط مثل اللغات المختلفة التي توجد بينها تناقضات كثيرة واحداهما هي اللغة التمثيلية، والرسم بنظري ليس اللغة التي يشكل التمثيل اساسها. التمثيل بالنسبة لي هو جزء ثانوي باللوحة. مثلما قلت من قبل، الرسومات التي انجزتها وفقا للفيديو بواسطة الفوتوشوب، تضم طبقات ومحو وخربشات فوقها. لذلك فاللوحة بهذا المفهوم هي كولاج يجري بثه تم انجازه بالفوتوشوب. هذا عمليا توجه جديد جدا في اعمالي. ولذلك فلربما هذا نوع من التطور؟ لا أعلم.
أ.ل.: سؤال أخير. هل حدث لديك مرة أن اشترى أحدهم منك لوحة بالغلط... مثلا شخص يحب الجنود او شخص يبجل بوتين او شخص يمثل غاندي – راحبعام زيئيفي، بالنسبة اليه شخصية نموذجية؟
د.ر.: لو اشترى أحدهم لوحة فهذه اشارة أنها تلائمه. اذا كان يرى في غاندي اسما يوجد في عينيه بريق مجنون وهو يحب هذا، اذا فهذا ما يريده. لا يهم أن يشتري أحد لوحة على سبيل الخطأ. اذكر انني رسمت نمرودي عام 1987، وبعد ذلك بسنة جاء أناس من عائلة نمرودي إلى الغاليري واهتموا بهذه اللوحات. ولكن على حد ما أذكره لم يشتروا في النهاية أية لوحة. هذا مثال على ما تصفه، ولكنهم في النهاية لم يقوموا بالشراء.
أ.ل.: ليست كل دعاية هي دعاية جيدة.
د.ر.: Advertising makes it better, that's what it's good at.
أجريت هذه المقابلة بمناسبة معرض دافيد ريف "دكان دافيد الحرامي"، قيّمة: فيرد زفران غاني، غاليري ورشات الفنانين، تل أبيب، 23.10.21-18.12.21.