يقدّم الفنان وليد رعد بمعرضه الشامل الأول بمتحف الفن الحديث في نيويورك، قيم الدقّة الى جانب الشكّ والالتباس، وذلك من خلال بحث معمّق. قيّمة المعرض، الذي يحمل عنوان "وليد رعد"، هي إيفا ريسبيني ( Respini) ومساعدتها كاترينا ستاتوبولو (Stathopoulou). ويشتمل على فيديو، نحت، إنشاء، تصوير وكولاج. على امتداد المعرض يختلط الخيال والحقائق بعضًا ببعض، وذلك لغرض زيادة وعينا للبعد الذاتي في التاريخ، من خلال محاولة مواجهة الألم، الكلبيّة، التفاهة ومجمل فترة ما بعد الحرب.
لو أردنا وصف أعمال رعد الفنية بكلمة واحدة لقلنا إنها أعمال "مدقّقة".فهو يشدّد على الدقة منتبها لكل تفصيل صغير. وفيما يفوق كونه ينشد الكمال من الناحية الشكلية للعمل، فإنه يحيك قصصًا مفصّلة تعزّز السردية الشاملة. بالاضافة الى ذلك، فمن خلال التعاطي مع مجموعة فنانين وأعمال أيقونية، يوفّر لكل عمل تسويغه الخاص به، متطرّقًا الى شكله ومنطقه، وكأنه يسعى الى تقديم مصداقيّة للحقائق وعرض حجّة مقنعة. وفي حين يبتكر رعد قصصًا معقدة وشخصيات استثنائية، فإنه يرسّخها في أرض الواقع مستعينًا بوثائق أصلية، صور، قصاصات صحفية وكذلك أوضاع حيّة.
يتوزع معرض رعد على طابقين في المتحف وهو مقسّم الى قسمين أساسيين: الأعمال التي أنتجتها "مجموعة أطلس" معروضة في الطابق الثالث، بينما المشروع المتواصل بعنوان Scratching on Things I Could Disavow (خدش أشياء يمكنني التنصّل منها) في الطابق الثاني.
مجموعة أطلس (1989-2004), التي أنتجها رعد كمجموعة فردية، تهدف الى "العثور على، حفظ، بحث وإنتاج مواد سمعية-بصرية أدبية واخرى، من شأنها كشف تاريخ لبنان المعاصر". وهي تتقصى، على وجه الدقة، فترة الحرب الأهلية (1975-1990). التنصيب الشبيه بالأرشيف لأعمال مجموعة أطلس يتألف أساسًا من التصوير لكنه يضم أيضًا الكولاج، الفيديو، وبطبيعة الحال الجدران التي تحمل نصوص الفنان الخياليّة، التي تساهم بشكل مركزيّ في نقل رسالة الأعمال. مثلا، العمل "تعالوا نتحدث بصراحة، الطقس ساعدنا" (1998/2006) (Let’s be honest, the weather helped )، عبارة عن سلسلة صور بالأسود والأبيض لأحياء في بيروت صوّرها رعد وكانت تعرّضت للتفجير والقصف. النص المرافق الذي كتبه الفنان، يصف كيف انه حين كان طفلًا في أواخر سبعينيات القرن الماضي، اعتاد جمع الرصاصات والشظايا وتسجيل موقعها في دفتر؛ يغطي ثقوب الرصاص في واجهات البيوت المصوّرة بملطقات ملونة مختلفة الحجام، بأسلوب جون بلديساري (Baldessari), وهكذا ينجح في توثيق منتجي الذخيرة المختلفين الذين يمثلون طيف المجموعات المتحاربة في بيروت حينذاك.
في عمل آخر، بعنوان دفاتر، المجلد 72: حروب لبنان الناقصةMissing Lebanese Wars), ) اختلق رعد مؤرخًا لحروب لبنان يدعى د. فاضل فاخوري (Fakhouri). وهو وفقًا للنص المثبت على الجدار مقامر متحمّس، قامر برفقة عدد من الزملاء المؤرخين في سباقات الخيول. وبكثير من اللهو لم يقامروا على الحصان الفائز – بل على مدى فشل المصوّر الذي تابع الحصان الفائز في توثيق لحظة اجتيازه خط النهاية. الصور في العمل نفسه هي قصاصات من صحيفة النهار اللبنانية اليومية. خلال سرد أوصاف الحصان المنطلق المعروفة لدى ادوارد ميبريج، يتطرق رعد الى تملّص الصورة، تملّص التاريخ، والموقع الزائف لمن يسمون أنفسهم "مؤرخين".
إن ما شدّ انتباهي في مشروع رعد كان الإحساس بأنه لا شيء محدّد للتمسّك به، على الرغم من الوثائق الأصلية والحقائق النافذة التي اشتمل عليها العمل. المعلومات والأدلة سيّالة، غير مستقرة، مضلّلة، بفعل الخلط ما بين الحقيقي والخيالي. لقد حاجج الكاتب د.هـ. لورنس مرة "لا تثقوا بالفنان، فكم بالحري بالقصة". ولكن ماذا لو كانت القصة نفسها كاذبة، أو تحتوي على حقائق متضادة – هل يمكن عندها الوثوق بالفنان؟ قال رعد في مقابلات سبق نشرها أنه حين كان طفلا في لبنان لم يتعلم بالمرة تاريخًا لبنانيًا. اكتسب معظم تحصيله التعليمي في مجال التاريخ العربي في الولايات المتحدة، التي هرب اليها عام 1983، حين كان في الـ13 من عمره. كان السبيل الوحيد امام رعد في تلك السنوات لفهم ما يجري في وطنه، مكالمات هاتفية مع أقربائه او تقارير الاعلام. يبدو أن تفسيره للحرب مؤلف من خيال مبدع وذكريات مجردّة، تترافق مع فقدان شخصي وجماعي والأعراض التالية للرضة. وبواسطة عرض معلومات كأنها خفيّة عن فترة الحرب الأهلية، يسرد التاريخ من وجهة نظر شخصية، من خلال التشديد على الذاتية والطابع المتملّص لما نتلقاه ونستهلكه كحقائق ناجزة. في خاتمة المطاف، على الرغم من العرض الراقي للمواد الأرشيفية المدمَجة في حقائق مختلقة، فإن أعمال رعد تنتج شعورًا من الخديعة.
نعود قليلا الى التعبير المتناقض "حقائق مختلقة". كتبت حنه أرنت في مقالها "الحقيقة والسياسة" عام 1967: "[ولكن] هل الحقائق، حين تكون متحررة من الآراء والتأويلات، موجودة أصلا؟ ألم تثبت أجيال من المؤرخين وفلاسفة التاريخ انعدام القدرة على إثبات حقائق من دون تأويلها، لأنه يتوجّب اولا اختيارها من حشد أحداث فوضوي... ثم ملاءمتها لقصة يتسنى سردها من منظور محدد، لا علاقة بالمرة بينها وبين الحدث الأصلي؟..." كيف نميّز بين الحقيقة والخيال، بين الواقعي والمختلق؟ وهل هذا ممكن أصلا؟ في هذه الحالة، على الرغم من التشويش، يبدو أن أعمال رعد تعرض نوعًا معينًا من الحقيقة، وهي تظل موجودة على الرغم من حركيّة "الحقائق". إحدى الحقائق الأكثر شاعرية في مشروع مجموعة اطلس تجسد هذه المقولة: أسرار في البحر المفتوح (Secrets in the Open Sea, 1994/2004) هي سلسلة مؤلفة من 29 طباعة برشّ الحبر الملوّن، وتُعرض خمس منها في هذا المعرض. الطباعات الكبيرة (111X173 سم)، وكل منها بأحد أطياف الأزرق المختلفة، تشكل استراحة تأملية وسط الأعمال العديدة التي تعرض حالات خلل تصويرية في أرجاء القاعة. الطباعات الخمس الزرقاء، النقيّة من أي خلل، تمثل البحر وفي كلّ منها، عند الزاوية اليمنى التحتى لإطارها، هناك صورة بحجم طابع بريدي. يشير النص المرافق الى ان الطباعات وُجدت تحت انقاض المباني حين انهار المركز التجاري في بيروت. تم تقديمها الى مجموعة أطلس للحفظ والتحليل، ما كشف صورًا بالأبيض والأسود لأشخاص غرقوا وماتوا في فترة الحرب. بالمقابل، وفقًا لمقال ريسبيني في كاتالوغ المعرض، تم تصوير هذه الصور الجماعية في قاعات اجتماعات تجارية وتافهة. وهكذا فإن رعد يستقدم المشاهد ليعيش أزمة عاطفية، تتكشف في النهاية كمسألة زائفة وبهذا يطرح أمامنا السؤال: من الذي يسيطر على مصداقية الحقائق التاريخية؟ عند الانتقال الى القسم الثاني للمعرض تتوفر إجابة لهذا السؤال، وربما لا.
عمل رعد اللاحق، خدش أشياء يمكنني التنصّل منها ( Scratching on Things I Could Disavow 2007), موضوعة في بهو بالطابق الثاني، في فضاء قادر على احتواء البنية المسرحية للعمل. العمل ترافقه "جولة مع إرشاد" – عرض-محاضرة يقدمه رعد مرارًا خلال العرض، وهي جولة متوفرة في موقع موما على الانترنت وفي تطبيق آيفون.
مستلهمًا أعمالا رائدة لفنانين مثل روبرت موريس (Morris) في ستينيات القرن الماضي، جوزيف بويز (Beuys) في السبعينيات وأندريا فريزر (Fraser) في الثمانينيات، يقدم هنا رعد، المعروف بخبرته بمجال المحاضرة كعرض، نوعًا جديدًا من النشاط الفني. إنه "يجسد" وظيفة الفنان الذي يرشد جولة بين أعماله. يمر في المعرض ويشارك الجمهور معلومات، قصصًا، وطرائف. استمرارا للنص المثبت على الجدار الى جانب أعمال مجموعة اطلس، الذي يؤدي وظيفة مرشد جولات مكتوب لكن صامت، يقترب رعد أكثر فأكثر كي يعرض البعد الشخصي والتثقيفي حين يقود جولة حقيقية بين أعماله. في حين ان غاية الجولة هي اختبار تسليع الفن في العالم العربي، فغن رعد يشارك الجمهور خلاله بانفعال قصصًا مؤلمة تتطرق الى إسقاطات الحرب.
يبدأ رعد العرض بمحاضرة مفصّلة يصف فيها كيف أن صندوق تقاعدات الفنانين Artist Pension Fund) ), وهو صندوق لأغراض غير ربحية يعرض أمانًا ماليًا لفنانين في كل العالم، قد حاول تجنيده للانضمام الى صفوفه. ويروي كيف بحث ووجد أن الصندوق المذكور مرتبط بالجيش الاسرائيلي وأن معظم العاملين في واحدة من شركات الهايتك التي ساهمت بتأسيس الصندوق، قد خدموا في وحدات نخبة الاستخبارات الاسرائيلية. ويشير الى وجود مستثمرين غربيين، وكذلك عرب، في الصندوق، وهم يشدّون الانتباه الى واقع سياسي معقد وواسع الانتشار تتم المتاجرة به. وفي المرحلة التالية يتحدث رعد عن بناء المتاحف الفخمة في أبو ظبي، والتي تشتمل على فروع للوفر، غوغنهايم وغيرها. وهنا يرمز رعد الى القوى التي تتحكم حاليًا في عالم الفن وكيف أن هذه المؤسسات، بالأحرى هذه التشكيلات المالية، تؤلّف وقائع ملموسة في العالم وبذلك تنتج تاريخًا بواسطة فرض حقائق ناجزة.
بالمقابل، فاشتغال رعد على الحرب واسقاطاتها مخفّف أكثر. وهو يقود الجمهور الى الجدار التالي، الذي نقشت عليه أحرف عربية بالأبيض على أبيض، ويقول ان الأحرف تشكل أسماء فنانين عملوا في لبنان خلال القرن الماضي، وأرسِلت اليه بالتخاطُر من فنانين مستقبليين. وخلال محاولة اكتشاف معاني الأسماء يدرك أن الفنانين المستقبليين يريدون أو يحتاجون الى شيء ما منه. ويفهم أن ما يحتاجه فنانو المستقبل هو اللون، طيف محدّد للأحمر الذي لم يعد متوفرًا بعد، لأن اللون تأثر بالحرب. في المرحلة التالية نقف امام جدار كبير معلّقة عليه وثائق مؤطرة بأسلوب صالوني، حيث يتحدث رعد كيف أثرت الحرب على أشياء كثيرة، ولكنه "لم يعتقد أن بمقدور الحرب التأثير على الألوان، الخطوط والأشكال أيضًا". وهو يلخص بمقولة ثقيلة ومُلهمة: "حين تستشعر الألوان الكارثة المقتربة فإنها تقوم بخطوات دفاعية وتقرر الاختباء".
معرض "وليد رعد" عُرض في متحف الفن الحديث بنيويورك من 12 تشرين الأول 2015 حتى 31 كانون الثاني 2016