ذاكرة غزيّة للنسيان: قراءة محمود درويش في ظلّ الحرب الراهنة

يرى محمود درويش أن الذاكرة ليست مجرد أداة مقاومة لمحو الوجود، بل تحمل أيضًا جانبًا من الموت الرمزي للهوية والتاريخ، حيث تفرض حالة من الجمود والانغماس في ألم الماضي، مما يُبقي الإنسان عالقًا في دائرة من الحزن والتفكير في خسائر الزمن. ومع ذلك، يقدم رائد أبو سعادة قراءة مختلفة لكتاب "ذاكرة للنسيان"، إذ يراه وسيلة أدبية للتشبث بالحياة وبناء الأمل. ومن هذا المنطلق، يتساءل أبو سعادة، كغزيّ، عن دور الذاكرة في النضال الفلسطيني المستمر وفي تشكيل الهوية الجماعية الإسرائيلية، متتبعًا علاقتها بالهولوكوست، وبيروت المحاصرة عام 1982، وغزة اليوم.

 

Advertisement

نُشر كتاب "ذاكرة للنسيان" لمحمود درويش في عام 1990 والذي يُعتبر وثيقة أدبية تعكس الألم والمعاناة للشعب الفلسطينيّ، وهو واحد من أهم أعمال محمود درويش التي تُبرز مواقفه الأدبية والسياسية تجاه القضايا الفلسطينية التي تتمحور حول الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية منذ عام 1948، وبعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة في عام 1967، حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم، سياسة النفي والتهجير التي عانى منها الفلسطينيّون منذ 48، والصراع على إقامة دولة فلسطينيّة مستقلة ذات سيادة.

كتب درويش هذا الكتاب، من جلة أمور أخرى، كردّة فعل على الاحتلال، حيث سعى إلى التأكيد على أهمية الذاكرة كجزء من النضال من أجل حقوق الفلسطينيين. مدفوعًا بقوّة الكلمات، يُظهر الكتاب كيف يمكن للأدب أن يكون وسيلة للمقاومة، حيث يوظف درويش الكلمات لتوثيق الذاكرة وتحفيز الأمل، وينقل صوت الفلسطينيين إلى العالم. ويعكس الكتاب تجارب الكاتب كلاجئ فلسطيني، حيث يعبر عن معاناته الشخصية وتجارب الشعب الفلسطيني بأكمله في الفقد والهجرة والاغتراب ليكون بذلك إعادة استكشاف مفهوم الهوية الفلسطينية، حيث يمثّل النظر إلى الماضي أداة لفهم الحاضر وبناء جسر نحو المستقبل. يناقش درويش من خلال فكرة الهوية والانتماء في الكتاب العلاقة بين الهوية الفلسطينية والانتماء للأرض، وكيف أن الشعور بالارتباط بالأرض يبقى حاضرًا رغم الفقد. ولا شكّ أنّ كل هذه المواضيع تتداخل هذه المواضيع عبر فصول الكتاب، مما يجعل من "ذاكرة للنسيان" نصًا متعدد الأبعاد، يُعبّر عن الألم، والحزن، والأمل في الحياة الحرة.

يتألف كتاب درويش من عدة فصول، وتتناول أجزاؤه الرئيسية الموضوعات المعروفة المتعلقة بالقضية الفلسطينية: الذاكرة- حيث يتناول هذا الجزء أهمية الذاكرة في تشكيل الهوية الفلسطينية، والدور الذي تلعبه في الحفاظ على التاريخ والتراث. الفقدان- حيث يشير إلى تجارب الفقدان الشخصية والجماعية، مع التركيز على تأثير النكبة في استمرارية الشعور بالفقدان والحزن الذي يعيشه الفلسطينيون. المنفى والاغتراب- حيث يستعرض معاناة الفلسطينيين في الشتات وكيف تؤثر المسافة عن الوطن على إحساسهم بالهوية والانتماء. الأمل والمقاومة- حيث يُبرز درويش إمكانية التمسك بالأمل والمقاومة رغم التحديات، وقوة الكلمات والأدب كأدوات للتعبير عن المقاومة والتشبث بالحياة.

من خلال فكرة الهوية والانتماء، يُشير درويش إلى الروابط بين الهوية الفلسطينية والارتباط بالأرض. تتقاطع هذه الموضوعات عبر جميع فصول الكتاب، ما يجعل "ذاكرة للنسيان" نصًا متعدد الأبعاد يُعبّر عن الألم والحزن والأمل بحياة حرة.

ومع ذلك، تُطرح هنا إشكالية جوهرية: ما مدى راهنيّة الكتاب للوضع الفلسطيني الحالي؟ وماذا يمكن أن تقدم رؤية درويش كإسهام لفهم الواقع الفلسطيني في هذه اللحظات؟

 

Untitled-2.jpg

فهد حلبي، نكبة، زيت وأكريليك على ورق مقوى، 27×23 سم، 2024 بإذن من الفنان
فهد حلبي، نكبة، زيت وأكريليك على ورق مقوى، 27×23 سم، 2024
بإذن من الفنان

 

ذاكرة الضحية

سواء كان درويش نفسه أو الفلسطيني بشكل عام، فإنّه في الحالتين، يفكر في عدة أمور تتشابك بين الذاتي والجمعي، الفردي والسياسي، وتجسد حالة الصراع مع الذات ومع الواقع.

تفكر الضحية بشكل متواصل في معنى الحياة في ظل الحرب والموت الذي يحيط بها. الحصار والقصف يجعلان التفكير في البقاء قسريًا، حيث تسعى لإيجاد مبررات للتمسك بالحياة، حتى في التفاصيل الصغيرة مثل فنجان القهوة الذي يرمز للحياة الطبيعية. وللسجائر في مواجهة الطائرة كما يفعل الغزّيون اليوم، في الحرب الحاليّة الدائرة. يعبر درويش عن هذه الثنائية بين الحياة والموت وكأن الفعل في التدخين او الشرب طقس يعيد للضحية إحساسه بالإنسانية.

تلعب الذاكرة دورًا محوريًا في فكر الضحية. تسعى الحرب والصراعات إلى نزع الهوية وتدمير الذكريات، لذلك تجد الضحية نفسها في معركة مستمرة ضد النسيان. الذاكرة هنا ليست فقط عن الماضي الشخصي، بل عن تاريخ الشعب، عن الأرض. تتأرجح الضحية بين الحاضر المليء بالألم والدمار وبين الماضي الذي تحنّ إليه. الحنين إلى الزمن الذي كان فيه الفرد أو الشعب يعيش في حالة أفضل، زمن ما قبل الحرب، يشكل جزءًا كبيرًا من تفكير الضحية. وهذا ما يوضّحه الغزّيون اليوم حين يضعون صورا لمنازلهم التي نزحوا منها قسرا او صورا لأطفالهم بملابس نظيفة ولطعامهم وسياراتهم التي ذهبت مجانا. هذا الحنين لا يتعلق فقط بالمكان (المدن، القرى، المنازل) ولا بالتفاصيل " طعام سيارة ملابس " بل بالزمن الذي كان فيه المستقبل يبدو أكثر وضوحًا وأملًا من الآن، بالإضافة لمحاولة فهم الواقع المأساوي الذي تعيشه. تفكر في الأسباب التي أدت إلى هذه الحرب، وتحاول إيجاد معنى لكل هذا العنف والموت.

هل هو قضاء وقدر؟ هل هو نتاج الظلم السياسي؟ وهل يمكن أن ينتهي هذا الصراع يومًا ما؟ الضحية هنا ليست سلبية، بل تسعى لفهم موقعها في هذا العالم، ولفهم سبب ما يحدث لها.

من وجهة نظره يؤمن درويش بأن هناك نوعًا من الأمل الذي ينبع من الإيمان بقضيتنا العادلة، وهو ما يجسد قوة الفلسطيني في مواجهة المحن. الأمل لا يأتي من التفاؤل الساذج، بل من الإصرار على عدالة القضية والايمان بها بشكل مطلق رغم كفر البعض بذلك وهو نتاج الاستسلام للنسيان، فالضحية تتجاوز التفكير الفردي لتصبح مُرغمة بكونها جزءًا من صراع جمعي وجودي.

 

IMG_20240123_115737_edit_65910220625878.jpg

فهد حلبي، طفل، وسائط مختلطة على قماش، 40×40 سم، 2017 بإذن من الفنان
فهد حلبي، طفل، وسائط مختلطة على قماش، 40×40 سم، 2017
بإذن من الفنان

 

الهولوكست -بيروت أمس- وغزة اليوم

يُعتبر حصار بيروت الذي عاشه درويش خلال حرب 1982 جزءًا من تاريخ أوسع للحروب التي تعرّض لها الفلسطينيون والعرب. في تلك الفترة، كان درويش يرى الموت حوله، لكنه في الوقت ذاته يحاول أن يبقي على شعلة الحياة في قلبه. تتكرر هذه التجربة اليوم في غزة، حيث يعيش الناس تحت قصف متواصل، ويفقدون منازلهم وأحباءهم، لكنهم يحاولون الحفاظ على الروابط العائلية والتفاصيل الصغيرة للحياة. فتجد العائلات الفلسطينية نفسها اليوم، مثلما كان الحال في بيروت، تبحث عن أبسط الوسائل للبقاء: تأمين الطعام، الماء، الكهرباء، وحماية الأطفال. وقد رأينا مرارًا صورًا تُنشر على وسائل التواصل الاجتماعي من غزة لمنازل مدمرة أو لأطفال يضحكون وسط الأنقاض، ما يعكس تلك الرغبة الدائمة في الاستمرار رغم الموت.

لكن مقارنةً بين الذاكرة الفلسطينية وذاكرة الهولوكست قد تكشف على نحو مثير للاهتمام كيف يستخدم كل طرف التجارب التاريخية لتعزيز هويته السياسية والاجتماعية.

يقابل الذاكرة الفلسطينية الهولوكوست: ففي الأولى نجد ارتباط الفلسطيني بالذاكرة كجزء من نضاله المستمر، بينما يضع الإسرائيليون الهولوكست في قلب ذاكرتهم الجماعية، مستحضرين آلام الماضي ويستخدمونها كأداة توثيقية ومعنوية، تتعامل فيها إسرائيل الجمعيّة مع الهولوكست كتحذير من النهاية المحتملة، وتجعل منه جزءًا مركزياً من الرواية السياسية والثقافية. تتعلق الذاكرة الفلسطينية بالنضال المستمر للشعب الفلسطيني، ونتائج النكبة، وواقع الحياة تحت الاحتلال. إنها موجودة في كل مجال، بما في ذلك الحياة اليومية، والسياسة، والمجتمع. يعاني الفلسطينيون من تأثيرات الاحتلال، والتهجير، والصراعات بشكل مباشر، ولذلك فإن هذه الذاكرة حية ونشطة في واقعهم. على النقيض من ذلك، تعتبر الهولوكوست حدثًا تاريخيًا حوّلته الذاكرة الجمعيّة إلى تراث ثقافي وحقيقة تاريخية. يتذكر اليهود الهولوكوست كجزء من الماضي، ولكن الخوف من تكرار تلك التاريخ (مثل معاداة السامية أو التمييز) لا يزال موجودًا، وغالبًا ما يؤدي إلى مشاعر من القلق أو الحذر.

هذا العبء التاريخي يجعلهم حساسين تجاه أي تهديد قد يواجهونه، ويُشعرهم بضرورة الحفاظ على تذكير دائم بما عانوه. لكن بالنسبة للفلسطيني، الذاكرة ليست عبئًا من الماضي بقدر ما هي جزء من النضال المستمر. فالفلسطينيون لا يحتاجون إلى توثيق معاناتهم بنفس الطريقة التي يفعلها الإسرائيليون مع الهولوكست. تُحفظ ميراث النكبة الفلسطينية كذاكرة تنتقل شفهيًا من جيل إلى جيل (ولذلك يسهل نسيانها بسرعة أكبر).

 

Untitled-3.jpg

فهد حلبي، هجرة، طباعة أحادية على ورق، 25×45 سم، 2020 بإذن من الفنان
פהד חלבי, הגירה, מונוטייפ על נייר, 25x45 ס״מ, 2020
بإذن من الفنان

 

الذكريات الفلسطينية ليست مجرد أحداث تاريخية، بل هي الهوية الجماعية التي تُحفظ وتُنقل وتتوارَث شفهيًا، مما يجعل الذاكرة سلاحًا يُنقل من جيل إلى جيل عبر السرد الشفهي، مثل القصص، الأغاني، والحديث بين الأفراد. إنّها أداة مركزيّة تقاوم تعرّض الذاكرة الفلسطينية لخطر التلاشي بسبب عوامل عدّة مثل التهجير، فقدان اللغة، وتغير الظروف الاجتماعية، مما قد يؤثر على قدرة الأجيال الجديدة على التواصل مع تاريخهم. بالتالي تصير الذاكرة المتوارثة شفهياً محورًا مركزيًا في الخطاب الوطني الفلسطينيّ من حيث قدرتها على إبقاء القضايا الفلسطينية حية في الوعي الجمعي، وشكل من أشكال المقاومة ضد محاولات الطمس والنسيان. بيشير درويش إلى أن "النسيان" الذي يُطلب من الفلسطينيين، سواء من قبل بعض المثقفين أو من إسرائيل، ليس أكثر من فخّ. فإسرائيل، التي تُطالب الفلسطينيين بنسيان ماضيهم، ترفض هي ذلك، بل وأضيف إنّها تحيي ذاكرتها بشكل متطرف، مما يُحوّل حياتها وحياة الفلسطينيين إلى جحيم مستمر.