حديث البلد #2 – ربيع سلفيتي

ميشيل نصار يحاور ربيع سلفيتي عن السفر والتجوال، التأمل، البروباغندا والشهادة

ولد ربيع سلفيتي عام 1979 في مدينة شفاعمرو لعائلة عربية كاثوليكية ومحافظة. حين بلغ الـ19 من عمره سافر الى ايطاليا لدراسة التصميم، ومن هناك واصل السفر والتجوال في أوروبا والهند لمدة عقد من الزمن. في تلك الفترة عمل ونشط في عدد من المجالات المختلفة – من التصوير في سيرك متحرك متنقل في اليونان وحتى دراسة الفلسفة في فيرناسي، الهند. هذه التأثيرات وجدت طريقها لتنخرط في أعماله بمجالات التصوير، الانشاء، الفيديو والعرض. وفيها يقوم ببحث ما يصفه بالعلاقات بين الناس وبين محيطهم وبيئتهم، بين الصورة وانعدام الصورة، وبين الحقيقة والزيف. عُرضت أعماله الأخيرة في معرض جماعي بغاليري زومر للفن المعاصر (2011)، في بيت الكرمة والمركز الأكاديمي فيتسو – حيفا للفن والتصميم (2012)، وفي إطار بينالي قلنديا الدولي (2014). كذلك، عمل مصممًا ومديرًا فنيًا في فيلم المخرجة مها حاج "أمور شخصية" (Personal affairs) ومع هاني أبو أسعد في فيلمه الأخير "يا طير الطاير"  (The Idol, 2015).

أجريت المقابلة في منزلي بوادي النسناس، دار مؤلفة من غرفة باردة في مبنى يعود الى ثمانينيات القرن الـ19، سقفها عبارة عن قناطر وشبابيكها ملونة.

 

615194_1514124245467804_1378286196479144285_o.jpg

ربيع سلفيتي. الحجيج. صورة من فيديو 2014
ربيع سلفيتي. الحجيج. صورة من فيديو 2014

 

ميشيل: لم أجد لك أعمالا على شبكة الانترنت. لماذا؟

ربيع: لا أحب رفع أشياء على الانترنت – وخصوصًا الفيسبوك. السياق يؤثّر على الاعمال. ففي الغاليري أنت تنتج طاقة وجوًا ويمكن للناس أن يدخلوا ويفكروا. بينما الفيسبوك كارثة. والانستغرام أيضًا. لا يمكن تصميم التجربة بالشكل نفسه. فيها تختفي الطبقة الأعمق. وما يضعونه هناك هو صور لا أكثر، وليس تصويرات (صور ذهنية).

ميشيل: كيف تميز بين الصورة وبين التصويرة?

ربيع: الصورة هي ما تراه فقط. وهذا أمر سطحي. بينما التصويرة، هذا التمثيل البصري-الذهني، هي مادة بصرية تثير التأمل الداخلي. توجد في التصويرة سياقات اجتماعية، فلسفية، وشخصية، في حين أن الفيسبوك يخرج الأمور من سياقها. هذه فوضى عارمة. كيف يمكنك أن تنظر الى مادة بصرية طالما أنك محاط بكل أنواع تشويش الذهن؟ بالمقابل، فإن الغاليري يساعدك على التفكير.

ميشيل: هل تفكر كثيرا قبل أن تخطرببالك فكرة للعمل؟

ربيع: ليس هناك مصدر محدد لأعمالي. يبدو لي أحيانًا أن الكون يلعب معي. الأمور تنتظم وحدها، بكل بساطة. أعتقد أن الفضل في هذا يعود لمكتبتي، للقراءة، للسفر... يمكن لهذا أن يحدث خلال درس تعليمي، او السياقة، أو حين أجلي الصحون. الأفكار تأتي. الماء ينبهني ويوقظني جدا. الأعمال التي أنتجها ليست لي، ليست ملكي. أنا لا اوقع اسمي على الأعمال. إنها ليست لي فعلا، لذلك أكتب "أنتجها..".

الأعمال كلها تأتي من مكان ما عميق جدا في داخلي. الأمر موجود بين الصورة وبين انعدام الصورة، حيث تكمن السيرورة الابداعية. تأثرت كثيرًا من جولاتي في العالم. أنا مدين بالشكر لإيطاليا، الهند، اليونان، انجلترا، وكل البلدان التي كنت فيها. لقد نلت شيئا من كل بلد زرته، وكل منها وسّع من بصري. جولات السفر بنت في داخلي طبقات كثيرة غنية، وهذا حثّني على التفكير ثم التفكير. لقد ساعدتني على فهم ان هناك شيئًا أصدق وأعمق من القوالب الاجتماعية.

 

 

ربيع سلفيتي. ضجيج أبيض. 2014 

 

ميشيل: ما المقصود?

ربيع: القوالب الاجتماعية هي الرموز التي تستخدمها المجتمعات في أزمنة مختلفة. مثلا، موضات تتغير من دولة الى اخرى، أو إمكانية ممارسة الجنس قبل الزواج في هذا المجتمع بينما ليس في ذاك. هذه سيرورة متحركة. التنقل بين قوالب اجتماعية مختلفة يخلق احتكاكات وأزمات. ضجيج أبيض.. وما هو هذا الضجيج أصلا... هذا صوت الواقع الذي يتجاوز القالب الاجتماعي. هذه حالة العقل قبل أن يرتدي صورة.

هل تعرف أنه في حالة من الصمت المطلق يمكن سماع موجات الدماغ وهي تجري متحركة من الجهة اليمنى الى اليسرى؟ نغمة الحقل المغناطيسي داخل الدماغ تشبه كثيرًا نغمة الضجيج الأبيض. لقد سمعته مرة، في اليونان. كان ذلك في ساعات الفجر وأطلق سلك الكهرباء نغمة مثل – ززززززززز. أصغيت وفكرت في أن هذا مألوف لديّ. 

في مرحلة لاحقة اكتشفت أنه يمكنك في التأمل العميق سماع هذا الضجيج الأبيض، وأنه يشبه تلك النقاط السوداء-البيضاء التي تتذبذب على شاشة التلفزيون. إنها في حالة مواجهة دائمة، مثل الوعي. عمل العرض الذي أنتجته يتناول هذا الموضوع، الضجيج الأبيض. وهو يتحدث عن أربع حالات للوعي: نوم، وعي، عدم وعي، ووعي متفوق.

ميشيل: متى بدأت باجراء التأمل  meditation؟ وكيف أثر هذا على أعمالك؟

ربيع: التأمل فتح عينيّ. بدأت عام 2004 وما لبث أن غيّر لي حياتي. حين عدت الى الهند في المرة الثالثة، عام 2009، فهمت أن هناك علاقة بين الإدراك، التأمل والتصوير. التصوير، مثل جميع أشكال الفن، هو انعكاس لما يوجد في الذهن. حين تتماثل مع وضع خارجي معين فهناك شيء ما في داخلك يرتبط به ويتحول الى خط وشكل ولون. في لحظة الارتباط هذه، حين يرتدي شيء عديم الصورة في داخلك صورةً له خارجك – فإنك كأنما تشرق. التأمل هو نتيجة مرافقة للعمل في الفن والارتباط به.

ميشيل: ما مميزات العمل الفني الجيد?

ربيع: العمل الفني النموذجي برأيي هو ذلك الذي ينشّط الخيال ويجعلك تغوص في العالم الخفي لما هو غير مرئي. انه يفتح أبوابًا ولا يقوم أبدًا بإقفالها، وكلما واصلت فتح الأبواب، فسوف يظهر الكثير منها. إن الحياة هي استعارة، وفي أعمالي اسعى الى توثيقها. يمكن لجلي الصحون أن يكون استعارة، والسيارة أيضًا، ومسار الركض، المنظر الطبيعي... كل شيء هو استعارة وأنا أوثق هذا بواسطة الانتقال من سياق الى آخر، من الاعتيادي الى الغاليري. في المحيط الذي أعيش فيه ينعكس الأفراد الذين يؤلفون المجتمع. يوجد للفن دور مركزي في تصميم العالم – معمار، أزياء، تلفزيون. أنظر حولك – كل شيء يمر من بين يدي فنان. أنظر، تصبح البروباغندا لئيمة بشكل خاص حين تستخدم الفن لخداع العالم

 

Self-Portrait_Trees.jpg

ربيع سلفيتي. بورتريه ذاتي. 2004
ربيع سلفيتي. بورتريه ذاتي. 2004
 

ميشيل: ما هو الحد الفاصل بين البروباغندا وبين الفن?

ربيع: الفن يجعلك تفكر فيما تشعر به ويساعدك على أن تطوّر نفسك. اما البروباغاندا فإنها تستغل المشاعر لتجعل منك جنديًا. انها تنصاع للسيد وتخدعك لكي تخدم احتياجات السيد. يمكن أن يكون السيد كل شخص وكل شيء – كاهن، سياسي، شركة زارا. شركة أبل تبيعك فكرة معينة وداعش يبيعك شيئًا آخر. اسرائيل تخدع مواطنيها لكي يرغبون في الخدمة بالجيش، وهي ليست الأولى ولا الأخيرة التي تفعل هذا. جميع الدول تخدع مواطنيها.

سمعت مرة أن التأمل هو عدو الدولة، وأفضل سلاح ضد الرأسمالية. حين تكون في وضعية تأمل فلست بحاجة لشيء موجود خارج نفسك لكي تكون سعيدًا. انت تعمل فقط لكي توفر احتياجاتك وهكذا يتحول العمل الى حب. علم النفس يقول لنا هذا الأمر نفسه بالضبط. كلما استهلكت أكثر ستصبح مكتئبا أكثر. لكن السياسيين ومن يحتلون مراكز السلطة يريدونك أن تستهلك أكثر فأكثر، ويبيعونك الاحباط. يجب أن تركض لكي تعيش، مثل الفأر على العجلة الدوّارة، يركض ويركض دون ان يكون لديه متسع للتفكير.

هنا يدخل الفن الى الصورة. برأيي أن الفن للفن هو كلام فارغ. لا يمكن للفنان أن يكون مفصولا عن المجموع. فحتى سعر الألوان هو مسألة سياسية. كل هذا الخراء يرتبط بشيء ما. يمكن للفن برأيي أن يزيد من الوعي. يمكنه ايضًا أن يكون مسليًا لكني لا اريد أن اشتغل في الترفيه. لست فيلما أمريكيا سيئا ولا الجمهور غبي. حين اقوم بشيء ويكون مفهومًا ضمنًا في العمل الفني أقول: "هيا أيها الحمقى، تكلموا".

ميشيل: أنت تعرض في أحيان متقاربة. لماذا وما الذي يجذبك الى استخدام الجسد في أعمالك؟

ربيع: واقعك الخاص في العمل الفني هو حقيقة؛ منحوتة حية تتغير بمرور الزمن. أنت تتحول الى قسم من العمل، ولمدة ساعتين ونصف الساعة تتغير مع الجمهور، أنت ومزاجك. هناك فرق بين المعرفة والتجربة، وأسلوب العرض هو تجربة مباشرة. هو الحقيقة الحية هنا والآن. التسجيلات من أعمال عرض سابقة هي تذكير بما حدث فقط. ولكي تعايش فعلا عملا فنيًا يجب عليك أن تكون هناك. الجمهور قسم من العرض، مثلما أنا قسم منه أيضًا.

ميشيل: لماذا تختار الظهور عاريًا في كثير من التصويرات؟ 

ربيع: الظهور عاريًا في مكان عام بالنسبة لي يرمز الى أن تكون أنت ذاتك، بدون الملابس التي يفرضها عليك المجتمع. كلمة Persona باللغة اللاتينية تعني القناع، واللباس هو جزء من ذلك القناع. التعاطي مع العري ومواجهته يحررني ويتيح لي العودة الى الطفولة... أنا لا أطلب من الآخرين أن يتعروا. الفكرة تتلخص في أنني أريد أن أشعر بارتياح مع نفسي. جئت الى هذا العالم عاريا من داخل الظلام، سأعيش في مسرح الحياة ثم أغادره. 

ميشيل: قلت إنك تخيط بنفسك كل ثيابك?

ربيع: أنا أو أصدقائي نصمم ثيابي وآخرون يخيطون. لماذا يجب شراء الثياب من زارا طالما أن مئات ملايين الناس يلبسون الشيء نفسه في النهاية؟ التميّز يضيع وسط الجمالية الحديثة.ضربٌ  من الجنون أن تجد مصممين أكثر من أي وقت مضى بينما ما نزال جميعا نلبس الثياب نفسها، الماركات نفسها. لدينا اليوم إمكانيات أقل مما كان لكن الناس يعتقدون ان لديهم حرية اختيار. حين تمنحك الدولة ثلاث امكانيات اختيار فقد تفكر أنك حر، ولكنك في الحقيقة لا تملك شيئا. وهم الديمقراطية والتحرر يباع في كل ارجاء العالم، لكنهم في النهاية يسيطرون على تفكيرك. وهكذا يتم صلب الجميع. هذا هو وطن المسيح. فعلا. والتجند للجيش أشبه بأن يتم صلبك. أنت لا تختار هذا بل يغرسونه لك. وعندها سيتوجب عليك أن تعاني. كل هؤلاء الشهداء، الأمر مجرد خدعة. 

ميشيل: ألا يمكن للشهادة أن تكون حقيقية؟ لقد كتب هورتسيو: "من الخير والصحيح الموت من أجل الوطن"  (“Dulce et decorum est pro patria mori”).

ربيع: هذا هراء. لو أن الجميع عاشوا بسلام مع أنفسهم لما كنا نتحارب على حدود أو أراض، لأن الدولة في نهاية المطاف هي انعكاس للذات البشرية. كانت الذات (الأنا) في الماضي أصغر فلم نكن بحاجة الى حدود. لكنها اليوم ضخمة وصرنا بحاجة الى حدود وأسوار، مثلما يريد (رئيس الحكومة بنيامين) نتنياهو. من يرغب في الجدران هو صاحب الأنا الأكثر تضخمًا. الوضع هنا يجعلني أفكر أكثر على الأقل. هل تعرف معنى شمبالا (shambhala) إنها الفكرة البوذية عن عالم هو مملكة طاهرة من ناحية مادية وروحانية. هذه البلاد كانت مرة في شمبالا، لكن الله ليس مهندسًا: لقد توفيت اليهودية حين احتلت الصهيونية فلسطين عام 1948. حتى ذلك الحين كانت فلسطين الاسم المادي لهذه البلاد، واسرائيل كانت الاسم الروحي، وكانت البلاد كاملة. أما اليوم فهي مصابة بالانفصام.