بعد عبور الباب الأخضر الكبير لمتحف الثقافة الإسلامية وشعوب الشرق في بئر السبع، يدخل الزوّار إلى فضاء واسع يضم الكثير من الظلال، الروائح والصور، حيث يلهم ويثير حواسهم. معرض "أنيسة اشقر: ذهب أسود"، المعروض هذه الفترة في الفضاء الذي كان في السابق مسجدًا عثمانيًا، موقع عبادة نشط، هو مشروع مركب ومتعدد الطبقات يتسرب الى الحواس ويخلق كافة جوانب الادراك الانساني.
تتناول أشقر في فنها موضوع الادراك من خلال استخدام الحواس التي تعتبر "متدنّية" من بين الحواس الخمس – الشم، السمع والذوق – وتناقض الحاسة التي تعتبر أكثر تفوقا بينها، النظر.1 وهي تقوم بذلك كاستعارة تسعى إلى تحدّي الفئات التي تعتبر مسلّمات اجتماعية. في أعمالها السابقة استخدمت أشقر حواس ومواد "بيتية نسائية" مثل مرجرين، طحين، سكر، حليب وقهوة حيث قامت بتقديمها كاستثناء لحدود استخدامها المعيارية، وذلك لغرض عرض موقفها المركب، سواء كمرأة أو كفنانة فلسطينية مسلمة تعمل داخل المجتمع اليهودي –الأبوي في اسرائيل.
في معرض "ذهب اسود" تختلط سرديّات خزف الصين من هولندا بالكتابة والتاريخ العربيين. هناك رمل لامع من شاطئ البحر، تمرٌ مذهّب يتدلّى مما يبدو مثل ثُريا معلقة في السقف، خرز أحمر، بشكل نقاط دم وبقع لونية قوية داخل فناجين قهوة وكذلك أصوات خافتة لموسيقى ومحادثات مسجلة، تمتزج كلها معًا في قاعة العرض وتنتج شحنة حسية قوية.
إن الاستراتيجية الفنية التي تتوجه بها أشقر إلى حواس المشاهدين لم تبدأ في المعرض الحالي. يمكن العثور على جذورها في بدايات نشاطها. فهي تتركز في الحواس "المتدنية" لغرض التسلل تحت بنى اجتماعية مفروضة وغير طبيعية، وذلك وسط الطموح للتعبير عن كافة هوياتها المتعددة والمختلفة.
انأ ابدأ أعمالي بشعور داخلي وامتنع عن أي تفكير تحليلي. اتذوق واشم، ادهن مواد مختلفة وأتحسسها على جسدي. وعندها فقط ابدأ بعملية التفكير التأملي حول العمل، وهذا جزء مهم جدا من العمل. على الرغم من أن المعاني السياسية، الأثنية، الدينية والجندرية موجودة هناك مسبقا في داخلها، فإنني أصيغها كأفكار فقط بعد ذلك. يعتبر الحدس – الاعتماد على الحواس – في ثقافتنا أمرًا متخلفا، غير عقلاني، متدنيًا وغير موثوق بالمقارنة مع الطبائع فوق الحسية للعقلانية الذكورية الغربية... كذلك استخدمتُ الحواس "قليلة الأهمية" لغرض التدليل على كوني أقلية بمعان إضافية... أنا أتغير دائما وهذا يتعلق من المكان الذي اكون متواجدة فيه... "(من مقابلة معها).
يشرح هذا الاقتباس تعامل الفنانة مع الادراك الانساني. فمن خلال تجنيد كافة الحواس تسعى للتسلل تحت أشكال إدراك/فهم جندرية، وتطرح على طاولة البحث التقاطعات والمفترقات السياسية التي يلتقي فيها الادراك الحسي وفئات مختلفة للهوية مثل الجندر، المكانة الاجتماعية، العرق والدين. مجمل الحواس والمحيط الحسي، وهي مفاهيم أوسع بكثير من الحواس نفسها، تشتمل على منظومة كاملة من الاحاسيس، الادراك والعلاقات التبادلية مع العالم2. هذه كلها حيوية لفهم الفن لديها. وهي تعتمد على الحواس من أجل كشف تجارب مُعاشة في العالم، وتستغل مواد مختلفة لتحدّي حدود استخدامها المتعارف عليه. وهكذا فهي تقترح وتعرض مدارك جديدة ومثيرة للفضول وتسعى إلى تشديد صفاتها من حيث الرائحة والملمس.
في عمل العرض الفني بربور 24000 من العام 2004 ، قرأت اشقر وهي ترتدي ثيابا بيضاء بصوت عالٍ باللغة العربية (ترافقها ترجمة فورية للعبرية من الصحافي أهرون برنيع)، النص الموجود على الجدران- مراحل الوضوء وفقًا للشريعة الاسلامية - في حين كانت تقوم بسكب حليب من أكياس داخل إناء تغسل فيه وجهها. هذه الممارسة الجسدية، التي يتم نسبها إلى الأنوثة، تقف على النقيض من فعل الكلام وفكرة اللغة، المرتبطة بالذكورية. حركاتها السريعة والقوية كانت ترمز إلى العنف الجسدي، الشعوري والاقتصادي الذي تضطر النساء الفلسطينيات لتحمله على جسدهن، سواء من قبل المجتمع الفلسطيني أو من قوى خارجه.
خلال العرض اختلط الحليب بالغبار والأوساخ حوله، حيث ردد صدى "وضعيّة الذل"3 مثلما وصفتها جوليا كريستيفا: من خلال تحويل الحليب إلى غير أبيض، غير طاهر، ملوث، ليمثل الشكل الذي يتفكك فيه الجوهر النسوي داخل النظام الأبوي أو الطريقة التي يصبح فيها الحليب مثل حبر ابيض يمكن الكتابة به عكس التيار.
من خلال اختيارها برنيع– رجل يهودي اشكنازي – كمترجم، شدّدت اشقر على هويتها كمرأة عربية – مسلمة فلسطينية تعيش في دولة اسرائيل اليهودية. القمع الطبقي تجسد ايضا في عنوان المعرض – الرقم 24000 هو الرقم البريدي (ميكود) لعنوان بيت أهلها في عكا،، في منطقة تعاني من الاهمال يعيش فيها غير اليهود. وقد وجه العرض الاهتمام إلى منظومة علاقات القوة القائمة بين مجموعات مختلفة – يهود وعرب، فقراء وأغنياء، رجال ونساء.
امتدادًا لادعاء المنظّر ادوارد سعيد حول الاستشراق والذي نص على أن الغرب يفهم ويدرك الشرق كأنثوي، تطرقت اشقر هي الاخرى إلى الفكرة في عملها E-Alina، الذي عرض في متحف بات يام عام 2010. اختارت الفنانة مركبًا شائعًا من المطبخ العربي، القهوة السوداء، وأعدّتها على مهل مع إضافة الهيل في القاعة المركزية للمتحف. لقد سعى هذا العمل إلى تفعيل كل منظومة الحواس البشرية. وقالت حول تجربة بقع القهوة السوداء اللزجة والرطبة: "لقد استغرقني الكثير من الوقت وما لا يحصى من تجارب إعداد القهوة حتى وصلت بدقة إلى الرائحة والملمس الصحيحين، ونسبة الرطوبة الصحيحة حتى أتمكن من العمل مع هذه المادة خلال العرض"4. القهوة التي يتم رشها خلال العرض على الجدران، سالت إلى المصطبة لتخلق بقعة على طول ممرات المتحف، وظهرت مثل "شلال اسود التصق بالجدار الأبيض، وخلق شيئا يبدو كنسيج لجسد داكن البشرة"، كما تقول الناقدة نعومي افيف5.
في بداية العرض، يتحدث رجل يهودي ابيض بدون توقف قبل أن تقوم الفنانة بإسكاته بالتدريج. وحين نجحت أخيرًا في إسكاته تماما، أسقته القهوة السوداء التي حضرتها سكبت عليه السائل القاتم ودفعته في النهاية بأكمله تقريبا إلى داخل الاناء الكبير، وكأنها تحاول إغراقه6. وهكذا قامت أشقر بخلط وتمويه وتقويض المنظومة الثنائية الفاصلة بشكل مصطنع بين "الأنثوي" (الجسد، التعددية والحسية) وبين "الذكوري" (الكلام، الفرد، العقلاني)، وكذلك بنى مختلقة أخرى مثل الأبيض، الغني واليهودي التي يتم تمييزها عن الاسود، الفقير والمسلم.
تطلّب هذا العمل اهتماما ومشاركة مكثفة من المشاهدين، حيث اقتحمت رائحة القهوة القوية حاسة الشم لديهم، حتى قبل أن يدخلوا إلى منطقة العرض. وكذلك، فان سيرورة الدهان بالقهوة والرجل الذي عرض مع الفنانة أشقر بقع القهوة وتبللهما بها بشكل تام، ساهمت في زيادة مستوى الاختلاط والتماثل من قبل الجمهور. عبر الأفعال المختلفة التي قامت بها، حاولت الفنانة اظهار المواقف المركزية متعدّدة الطبقات والمتقاطعة لجميع الحاضرين في العرض - الفنانة الرجل العارض والمشاهدين. إن مسائل مثل سيرورات ترسيخ الهوية، التمييز على خلفية العرق أو الجندر، وقفت في مركز المنصة، في حين استخدمت سياقات مثل الطبخ (الأنثوي) البيتي، مقابل عالمل الفني العالي في فضاء المتحف (الذكوري)، أو اللغة العبرية مقابل اللغة العربية، من خلال الاستناد إلى الحسية. وبذلك فقد شدّدت الفنانة على الجوانب السياسية ووسعت هذه المدارك بشأن الهويات المتعددة التي تحيط بجميع المشاركين.
يسعى المشروع النسوي في الفن المعاصر للتسلل تحت جدران الفرق الجندري المصطنع القائم بين البشر وتحت الفروق الاضافية بين من هم ليسوا سوى نتاج لترسيخ البنى الاجتماعية، في حين يرفع لواء تميّز الذات. استمرارًا لهذه الفكرة فان اعمالا مثل E-Alina تمثل الطرق التي يمكن فيها لنساء من مجموعات غير مهيمنة ان تقوم بالتفكير وبأفهمة (إنتاج مفاهيم) وجودها وفهم العالم حولها من وجهة نظر غيرقائمة على الثنائيات، وفي غضون ذلك النضال من أجل تغيير مدارك أساسية مهمة في الجدل النسوي، مثلما تعلن أشقر:
من يختار الاستناد فقط على النظر والمنطق، بالشكل الذي يصنف كذكوري، يختلف تمامًا عمّن يختار العمل بواسطة جميع الحواس، وخصوصًا حاستي اللمس والشم، اللتين تعتبران أنثويتين ومتدنيتين. أنا أقترح العمل بطريقة بديلة لأنني كمرأة وكفلسطينية ملزمة بالعمل في عالم الرجل اليهودي. ولكني لن أقيد نفسي بالاستناد على النظر كأداة اساسية لإنتاج الفن! (من مقابل مع الفنانة)
المواد المختلفة التي تستخدمها أشقر في أعمالها تخدم الاجندة النسوية والسياسية لديها. خلط ومزج المواد هو أيضا رمز لاستقلاليتها المنفصمة ومتعددة الطبقات – فلسطينية تعيش هنا في اسرائيل؛ مسلمة تعيش في مدينة يهودية لكنها تعود اسبوعيًا الى مدينتها لزيارة عائلتها؛ تتحدث العربية والعبرية؛ وامرأة في ثقافة أبوية.
عودةً إلى المعرض "ذهب أسود"، ففيه أيضًا تعرض الفنانة موقفا نسويا يدعو إلى تحدي وتقويض البنى المصطنعة للفئات التعريفية الناتجو عن قرارات اتخذها بشر؛ وهو موقف يعكس توجيهات ثقافية متعارف عليها. بواسطة الاصوات التي تسمِعها في فضاء العرض، رمل البحر الذي يمكن لمسه بأيدٍ عارية، والتمر الحلو المذهّب الذي قدمته للزوار في إطار العمل Yummy, Yummy, Middle East ، الذي عُرض في أمسية افتتاح المعرض، تكشف هذا الموقف من خلال تفعيل حواس الزوار. وقد تحدثت في العرض إلى الجمهور فيما هي تقوم بتنظيف سجادة شرقية بماء البحر الذي احضرته من مدينتها عكا، بعد ذلك لفّت التمور بأوراق مذهبة وقدمتها للجمهور. هذه الافعال شددت على الجانب الجسدي التجريبي، من خلال استخدام جميع الحواس لمزج فئات تعريف وكذلك تقويضها، في حين وجهت اهتماما خاصا إلى الجوانب الجندرية لهذه الفئات.
هذه الأفعال تلائم أقوال المنظرة النسوية ايريس ماريون يونغ،( Young) التي رأت أن النساء عمومًا لا يدركن جسدهن على أنه "متعالً" فوق الوجود المادي، ولا يقمن باستنفاد قوتهن الجسدية الكامنة، خلافا للرجال الذين يميلون للقيام بذلك. تتميز النساء غالبا بأنهن في موقع رد الفعل على الاحداث وليس المبادرة لها، كما تدعي يانغ7. وبروح هذه الفكرة فان فن أشقر هو تذكير ممتاز بان المشاريع النسوية قادرة على كشف مفهوم الادراك والحواس كمبادئ مجندرة وقامعة. ان مشاريع مثل هذا المشروع من ِشأنها ان تساعد في تفكيك فئات التعريف المرسخة في المجتمع، ورفع الوعي بشأن الحاجة الملحة في التغيير الثقافي والنشاط لتحقيق المساواة بين مجموعات مختلفة في المجتمع. فمن خلال استخدام الحواس "المتدنية" في أعمالها تنتج الفنانة بديلا نسويًا فعالا للعمل السياسي في الفضاء العام.
معرض أنيسة أشقر "ذهب أسود" (قيّمة: داليا منور وشارون لأور-سيرك) عُرض في متحف ثقافة الاسلام وشعوب الشرق في بئر السبع، حتى 3 اذار 2018.
*هذا المقال نشر للمرة الاولى في صيغة مختلفة في: Signs - Journal of Women in Culture and Society, vol. 40, no. 2, 2015
- 1. الحواس الخمس مرتبة بشكل تقليدي هرميًا، ويتم وضع حاسة النظر على أنها الأولى في أهميتها وبعدها السمع وعلى بعد أكبر خلفها حواس اللمس، الذوق والشم. ومنذ فترة عصر التنوير، خصوصًا، اعتبر النظر والمعرفة متساويان (بالعربية أيضًا: "البصر والبصيرة")، لأن النظر يعمل عن بعد اكبر من سائر الحواس، وبذلك يعتبر الأكثر موضوعية. وفي حين اعتبر الجسد والوعي وحدتين منفصلتين، كانت حاسة النظر منسوبة إلى الوعي، الادراك، العقلانية والمنطق. بالمقابل فان اللمس والذوق والشم نسبت إلى الجسد وبالتالي اعتبرت مصدرًا لعدم الادراك، الانفعالية واللاعقلانية. (Dumcum 2012, p. 184).
- 2. Duncum, Paul. 2012. “An Eye Does not Make an I: Expanding the Sensorium,” Studies in Art Education, 53(3), pp. 182-193.
- 3. Kristeva, Julia. 1982. Powers of Horror: An Essay on Abjection. Trans. Leon S. Roudiez. New York: Columbia University Press.
- 4. ايلي عرمون– ازولاي، ماذا يقول وجهك، هآرتس 29-10-2010
- 5. نعومي أفيف، 2010. "صمود – حول أنيسة أشقر ومعرض زفت". اجري في غاليري نيلي أمان عام 2010. من: "أنيسة أشقر – زفت (كاتالوغ). تل أبيب: أشقر ونيلي أمان.
- 6. حسني الخطيب شحادة، 2012. "وتبقى عكا في هذا الوعي للأبد...: أنيسة أشقر ولغة البحث عن الذاتي: قراءة نقدية في عمل الفنانة انيسة أشقر، زفت واعما أخرى". من: "أنيسة أشقر – زفت (كاتالوغ). تل أبيب: أشقر ونيلي أمان.
- 7. Young, Iris Marion. 1990. “Throwing Like a Girl: A Phenomenology of Feminine Body Comportment, Motility, and Spatiality.” In Throwing Like a Girl and Other Essays in Feminist Philosophy and Social Theory, 27-45. Bloomington: Indiana University Press.