الواقعية الرأسمالية: أمس واليوم؟

 "الواقعية الرأسمالية" – هل يمكن للمصطلح أن يقترح امكانية جديدة للتغيير في فترة ما بعد اليقظة من حركة OCCUPY، حيث تحكم المصالحُ الاقتصادية عالم الفن؟ علما ميكولينسكي تستعرض العدد الخاص لمجلة ARTMargins عن الواقعية الرأسمالية

Advertisement

في حين تصل أسعار مبيعات الأعمال الفنية من النصف الثاني للقرن الماضي والأعمال المعاصرة، الى مبالغ يصعب هضمها، يصدر آخر أعداد المجلة الأكاديمية ARTMargins والمخصص بكامله لمصطلح الواقعية الرأسمالية (ARTMargins Volume 4: issue 3, October 2015). لقد صاغ كل من غرهارد ريختر (Richter)، كونراد لويغ (Lueg)  سيغمر بولكِه (Polke)، ومنفرد كوتنر (Kuttner)، هذا المصطلح عام 1963 في ديسلدورف. ولكن في تلك الفترة نفسها، في الطرف الثاني من العالم، استخدم المصطلح أيضًا الفنان الياباني جنفي أوكاساوا (Okasawa) لغرض شرح أعماله الفنية. "الواقعية الرأسمالية" هو مفهوم يصف سيرورة فنية تقوم باستخدام الأشكال، وسائل الانتاج والنشر والايديولوجيا الرأسمالية لغرض إنتاج اعمال فنية.

010-ARTM_x_00099-ARTM0403-Cover.jpg

غلاف العدد الخاص لمجلة ARTMargins الذي خُصّص للواقعية الرأسمالية
@ The MIT Press

 

ليس من قبيل الصدفة أن هذا التعريف يذكّر بالاسلوب الذي يصف فن البوب بشكل عام. فالواقعية الرأسمالية تنضوي في كثير من الأحيان تحت مظلة "البوب العالمي"، وهو التعبير الشامل للحركة والذي يقصد عمومًا الفن البريطاني والأمريكي. قياسًا بـ التفكير الواقعي البرازيلي أو الواقعية الفرنسية الجديدة (Nouveau Réalisme) مثلا – وهي تيارات إضافية اشتمل عليها معرض "البوب العالمي" الضخم في مركز ووكر للفنون (Walker Art Center) عام 2015 - فإن إحدى الخصائص التي تميّز الواقعية الرأسمالية عنها، هي حقيقة أن هذه الأخيرة تردد مباشرة صدى "الواقعية الاشتراكية"، أي منظومة التمثيل الفني الشيوعية التي برزت في الاتحاد السوفييتي والصين الماويّة، وكذلك في صور صهيونية من فترة حرب عام 1948. المعاني المترتبة على هذه المقارنة نراها واضحة وصريحة في مقدمة العدد الخاص للمجلة، كالتالي: "في حين أن الجداريات والمنحوتات بأسلوب الواقعية الاشتراكية تمثل صورًا لأيام الحصاد البهيجة والعمال الأبطال في المصانع، فهل صور الواقعية الرأسمالية التي توازيها تُظهر اعلانات لمنتوجات استهلاكية وزبائن يشعرون بالرضى والاكتفاء؟1. والجواب هو: نعم ولا.

إن أشهر الأمثلة على الأعمال بأسلوب الواقعية الاشتراكية هو عمل ريختر ولويغ عام 1963: العيش مع البوب: نموذج للواقعية الرأسمالية (Living with Pop: a Demonstration of Capitalist Realism) وهو عبارة عن نشاط يجري في متجر عمومي، حيث وضع الفنانان أثاثًا (كنبة، طاولة، مصباح إنارة) على منصة ومكثا هناك، بحيث تحوّلا بنفسهما الى جزء من "نموذج الواقعية الرأسمالية". فتحت غطاء المتجر، وبمساعدة سلعه التي تشكل مواد فنية، عمل الفنانان أيضًا كمسوّقين للبضائع وكذلك كناقدين للجهاز الذي يبيعها. إن الاهتمام الذي تجدد مؤخرًا بتلك اللحظة التاريخية يتراءى كرد فعل نوسطالجي على حالة سوق الفن المتضخمة في هذه الأيام.

الفن الذي تتحدث عنه مختلف مقالات هذا العدد من مجلة ARTMargins يعكس ازدواجية في توجهه نحو المنظومة التي يستقي منها هذا الفن ويستوحي – "إنه يرفض استراتيجيًا.. قوة الوسم التجاري" (Branding)، وفي الوقت نفسه يُظهر "جهودًا واضحة للمساهمة في النجاح التجاري لحركة الدادية-الجديدة، الواقعية الفرنسية الجديدة والبوب"2. وهكذا فإن الشكل الذي يستنسخ به الفنان الياباني جنفي أوكاساوا أوراقا نقدية من فئة 1000 ين، أو الذي يستعير به الفنان السويدي أوفيند فالستروم (Fahlstrom) صورًا ومقاطع من برامج تلفزيونية شعبية، يسير على الخيط الرفيع بين تمجيد وامتداح النظام الرأسمالي وبين اتخاذ موقف نقدي منه. مثلا، فائض إنتاج النـُسخ لدى أوكاساوا والسياق الفني الذي تم فيه نشرها وعرضها، تسمح لها "بالتسلل تحت قانونيّة العملة الرسمية"3.

يعلن العدد الخاص من المجلة عن نواياه بتشكيل ما يفوق التكرار التاريخي لنزعات فنية طويَت صفحاتها أو نسخ البوب العالمي. وهو يعيد المرة تلو الاخرى ذكر التاريخ، لغرض الاشارة الى تجارب راهنة في نقد الرأسمالية ومدى شدة هيمنتها على حياتنا. المؤرخة الفنية جيمي هملتون فاريس (Hamilton Faris) تحاجج في المقدمة بأن الفنانين المعاصرين، مثل سابقيهم في الثمانينيات، "ما زالوا معنيين بإنتاج او كشف توترات داخل النظام الرأسمالي، والذي بات اليوم أوسع مما كان في أي وقت مضى".4 استمرارا لذلك، فإن اندرو ستيفان وينر  (Stefan Weiner) وهو بروفيسور في جامعة نيويورك، يحاجج في استعراضه لمعرض "العيش مع البوب: نسخ الواقعية الرأسمالية" (صيف 2014 في Artists Space  نيويورك)، بأن عودة الاهتمام بالحركة تعود الى الرغبة في "تطويع الواقعية الرأسمالية كجهاز نقدي لغرض تطوير نظريات ايديولوجيا سياسية معاصرة وانتاج ثقافة"5

هذه الفرضية تتحقق من خلال المشروع الفني لدى ستيفاني سيجوكو (Syjuco) بعنوان: "مقترحات تخيّليّة: نخبة انماط بصرية" (Speculative Propositions: a Visual Pattern Sampler) وتستعير الفنانة فيه تقنية "التمويه الذي يُعشي الأبصار" – طريقة تمويه بديلة من فترة الحرب العالمية الأولى، حيث حاولت إحداث صدمة للعدو في هجوم مباشر، بدلا من الاختباء منه. تطبق سيجوكو فكرة الطباعات المشوّشة بواسطة مختلف الأغراض، بدءا بأثاث إيكيا وحتى سفن الشحن، "سفينة الحرب الحديثة للتجارة والرأسمالية"6. هذه العجينة (وفقًا لمصطلح فالستروم، الذي يتم تحليله في العدد) تعمل كـ "وسيلة للتخصيب والتهجين المتبادل بين ثقافات وقارات"، الأمر الذي يعمّق الوعي بشأن الثمن الحقيقي للمنتوجات الرخيصة، المستعملة لمرة واحدة، التي نستهلكها7.

 

زخرفة وجريمة، ستيفاني سيجوكو، موجود على Vimeo

 

في العمل بعنوان "تزيين وإجرام" تستخدم سيجوكو تقنية سبق أن استعان بها  لا كورفوزييه (Le Corbusier) لتصميم فيلا سفوي التي أقيمت بين السنوات 1928-1931 في بويسي (Poissy) في فرنسا – فمن خلال نماذج منسوجات من البلاد التي كانت تحت الاستعمار الفرنسي، تسعى الفنانة الى غمر هذا النصب الحديث "بالصدمة والهجرة".8 ان قرار التذكير بتراث الحداثة وتشويشه يسلط الضوء على العلاقة بين الطموحات اليوتوبية للطليعة التاريخية (التي فشلت) وبين الوظيفة المعطاة من خلال هذا التأويل المجدّد للواقعية الرأسمالية. إن موقف الحركة مزدوج المعنى، بكونها نقدية نحو النظام الرأسمالي وفي الوقت نفسه تسعى للنجاح الاقتصادي في داخله، يجري استغلاله لغرض مواجهة قوى الرأسمالية الهائلة، ولاقتراح ما يشبه الخلاص.

تساهم القيّمة الدانماركية مايربيت بورغن (Borgen) في هذا العدد بمقال عن إنشاء فالستروم قـُـبَل أحلى من النبيذ (Kisses Sweeter than Wine) الذي شكّل جزءا من تسع أمسيات: مسرح وهندسة. ويختتم المقال باعلان عن قوّة الاستواء والتحرير الكامنة في الفن، ويحاجج بأن الفنان يعرض الفضاء المقطّع والمنساب للوسيط الكوني كفضاء فيه "تتحقق قوة التغيير الكامنة بواسطة ردود فعل المشاهد العاطفية"9. واليوم، مع تآكل اوهام حركة OCCUPY حيث أن عالم الفن محكوم بأيدي أصحاب المصالح الاقتصادية بوسائط مختلفة (معرض فني، بيناليهات ومعارض ضخمة)، تبدو الحجّة بوجود إمكانية كهذه تحت غطاء التمثيل التاريخي، كحجة ساذجة – هذا إن لم تكن عديمة الأمل تمامًا.

  • 1. Jaimey Hamilton Faris, “Introduction”, ARTMargins: Special Issue on Capitalist Realism 4:3 (October 2015): 3.
  • 2. المصدر نفسه, 5.
  • 3. Jaimey Hamilton Faris, “Rooms in Alibi: How Genpei Akasegawa Framed Capitalist Reality,” ARTMargins: Special Issue on Capitalist Realism 4:3 (October 2015): 41.
  • 4. Jaimey Hamilton Faris, “Introduction”, ARTMargins: Special Issue on Capitalist Realism 4:3 (October 2015): 16.
  • 5. Andrew Stefan Weiner, “Stoffbilder: On Capitalist Realisms” ARTMargins: Special Issue on Capitalist Realism 4:3 (October 2015): 83.
  • 6. Stephanie Syjuco, “Speculative Propositions: A Visual Pattern Sampler” ARTMargins: Special Issue on Capitalist Realism 4:3 (October 2015): 60.
  • 7. المصدر نفسه.
  • 8. المصدر نفسه، 67
  • 9. Maibritt Borgen, “Fundamental Feedback: Övyvind Fahlström’s Kisses Sweeter Than Wine” ARTMargins: Special Issue on Capitalist Realism 4:3 (October 2015): 64