قطع كبير، مقال صغير (الى هيله بيخر)

اكتشف يئير براك خلال لقاء متأخر مع شبكة صور هيله وبيرند بيخر أن تجربته الفكرية والموضوعية كمشاهد للأعمال، تحولت الى انفعال روحاني. لماذا حدث ذلك، وهل الشحنة الوراثية للتصوير النموذجي الاسرائيلي قريبة فعلا من ذلك الألماني، أم الأمريكي بالذات؟ تساؤلات ومدارك بعد وفاة هيله بيخر.

Advertisement

التقيت عام 2008، للمرة الأولى وجهًا لوجه، بمعروضات شبكة صور هيله وبيرند بيخر (Becher). كان ذلك بعد عقد ونيّف منذ تعرّفي على مشروعهما كطالب تصوير. ملاحظة الفجوة بين التعرّف النظري وتصفح كتبهما السميكة وبين اللقاء الفعلي للجسد المشاهد مع مسطح الجدار، تستدعي مني تأملا إضافيًا، الى جانب تأملات كثيرة أخرى، في إحدى أكثر الظواهر الاستحواذية، الآسرة، المليئة بالشغف، المثيرة للغضب والمُضجرة، في تصوير القرن العشرين.

في أواخر الخمسينيات التقى بيرند بيخر، مصوّر وطالب تصوير حينذاك، مع مصورة شابة اسمها هيله فبسر، تحت سقف أكاديمية الفنون في ديسلدورف، التي ستصبح لاحقًا حصن الزوجين المنيع. بدأ الفنانان مطلع الستينيات بإشهار معارضهما المشتركة، وكان المعرض المؤسّس ذو نماذج مبان صناعية وزراعية في ألمانيا، بعنوان "منحوتات مجهولة الهوية" (وهو معرض نالا عليه جائزة في النحت رغم أنه كان تصويريا بحتًا؛ والتفكير في عمل الكاميرا بوصفه نحتيا يستحق قراءة إضافية جميلة لأعمالهما). خلال ما يفوق السنوات الـ30 التالية (حتى أواخر تسعينيات القرن الماضي عمليًا) عمل الزوجان بيخر كمصور ذي رأسين، حيث بحثا صنف المعمار العملي في أوروبا والولايات المتحدة، والذي كان يعيش في أواخر أيامه تآكلا وانقراضًا. وفي غضون عمل البحث والتصوير انهمكا في تصنيفه بشكل مثابر ومنهجي الى نماذج.

 

Bernd + Hilla Becher Gasometers, 1973-2009 9 black and white photographs each 30 x 40 cm each 46 x 56 cm (framed) overall dimensions 142 x 172 cm (framed) Copyright Bernd + Hilla Becher Courtesy Sprüth Magers

هيله وبراند بيخر, حاويات غاز 1973-2009 9 صور بالأبيض والأسود, 30*40 سم. 46*56 سم (مؤطر). مقياس عام - 142*172 سم. جميع الحقوق محفوظة لهيله وبراند بيخر. بلطف  Sprüth Magers
هيله وبراند بيخر, حاويات غاز
1973-2009 9 صور بالأبيض والأسود, 30*40 سم. 46*56 سم (مؤطر). مقياس عام - 142*172 سم. جميع الحقوق محفوظة لهيله وبراند بيخر. بلطف Sprüth Magers

 

 في أواخر القرن الـ19 رسّخ المعماري الحداثوي الألماني لويس أوسوليفان (Sullivan) مصطلح "الشكل ينبع من الوظيفة" (Form Follows Function). وسرعان ما تحول المصطلح الى واحد من رموز الحداثة في المعمار. وفي أعمال الزوجين بيخر يسري مفعوله مرتين. الأولى حين يوثقان معمارا وظيفيًا، شكله نتيجة خالصة لاستخدامه؛ والثانية حين يبتكران عرض الشبكة الذي يميزهما. اذا قبلنا فرضية أن التصوير النموذجي هو بمثابة بحث مقارن، فإن الشكل يخدم الحاجة هنا ايضًا.

 الوصفي هو السامي

ما هي الفجوة التي عايشتها بين تعرّفي النظري، الأساسي، على أعمال الزوجين بيخر وبين مشاهدتها الحقيقية؟ يمكن الجزم عمومًا أن المسألة هي الجودة المتسامية للصورة "البيخرية". يمكن، افتراضًا، بحث مشروع الفنانين المتواصل كفعل جمع أرشيفي، عمل تصنيف وإعادة تمثيل لأسلوب معماري بواسطة انعدام الأسلوب التصويري: تبني توجه موضوعاني، كتجسيد لفكرة موت الذات لدى المصور، ونتيجة لذلك كله – في منظومة مقتضبة من الصور المتكررة، التي يمكنها أن تعلمنا على الأكثر شيئا ما عن تاريخ الثورة الصناعية وحداثة القرنين الـ19 والـ20. يمكن القول إن النموذج الألماني هو مواز بصري لتفكير بنيوي وأن هيله وبيرند بيخر هما باحثا مبانٍ بالضبط كسابقيهم في عشرينيات القرن الـ20، أوغوست ساندر (Sander), كارل بلوسفيلدت (Blossfeldt), وألبرت رنغر-باتش (Patzsch). وفقا لهذا التوجه، يتلخص بحث الزوجين بيخر في العثور على قواسم (ومنظومات) مشتركة وتصنيف "النمطي" أو بحث الشبيه. بوسع هذا الشكل من التفكير وتكتيك العمل إنتاج توثيق معلوماتي، بهذا العمق أو ذاك، وتعليمي الى حد كبير. ولكن صور الزوجين بيخر ليست على هذه الشاكلة. صحيح انها تستبطن خصائص بحثية وتعليمية الى حد ما، لكن هذه ثانوية قياسًا بالتجربة بدرجة أخرى تمامًا. سأحاول الآن فهم كيفية تحوّل لقائي اللاحق مع المشروع من تجربة فكرية وموضوعية الى انفعال روحاني.

التصوير تمثيل بوسيطِ جهاز. هناك أعمال تقلّص هذه الخاصية، وأخرى تدفع بها للواجهة. لا أعرف أعمال تصوير تقنية أكثر من أعمال هيله وبيرند بيخر، ربما ما عدا تلميذتهما كنديدا هوفر (Hofer). الفحص المشدد الذي أحاطا به مواضيعهم (صوروا ربيعًا وخريفًا، حين كانت السماء مغطاة بطبقة متجانسة من الغيوم)، موقع الكاميرا الصارم، عمل المنظور المشدد المدموج مع حرف ظهر الكاميرا لغرض تسوية خط المبنى تماما، الحدة النموذجية: هذه كلها تخلق في النقطة القصوى تجربة من الفائض الأداتي، وبموازاتها – بساطة ومباشرة حدّ الإسفاف تقريبا. من جهة – عمل فهرسيّ من الدلالات، الـ"هذا" الذي يتحدث عنه رولان بارت (Barthes) في كتابه "أفكار حول التصوير"، ومن جهة ثانية – منظومة مركبة جدا ومعقدة جدا من ناحية تقنية (لأجل القول "هذا").

اللقاء بين البسيط، افتراضًا، وبين الفني البارع يشكل جوابًا واحدًا غير كاف للتجربة التي أصفها. يجب أن يكون هناك سبب إضافي. أفكر بالزوجين بيخر وهما واقفان أمام المباني. هناك حكاية معروفة تصف كيف كانا يستقصيان المبنى لساعات طوال الى أن يتأكدا من أن الزاوية التي اختاراها هي الأكثر دقة. أود المحاججة بأن رحلة النظرة، التمعّن المتواصل في الموضوع، انتظار كشف المبنى عن نفسه للكاميرا، كلها عناصر موجودة في الصورة. جرت العادة التفكير بصور بيخر على أنه ا"مجرّدة من الأسلوب". للوهلة الأولى، هذه الصور تسطّح نقاط الرؤية فعلا، تموّت الضوء، وتلغي حسّ الزمان والمكان. إنها خالدة وبكماء. لكن هذا البكم، بظهوره الأنيق، بكثافة تفاصيله ومئات ألوان طيفه الرمادي – يتحول إلى خلاص للنظرة وتنوير حقيقي. نلتقي هنا حالة استثنائية 1 موضوع ثابت، معماري، نتاج حاجة واستخدام، حيث يتحول حضوره الحميم الى ما يثير المشاعر، وكاشف للبواطن. يمكن لغرض فهم هذه الحميمية التفكير ببورتريهات تلميذهما توماس روف (Ruff), الملتقطة في التسعينيات، لشباب ألمان في جيله، تم تصويرهم بوجوه مكشوفة وأنظار موجهة الى العدسة بحضور قويّ وصريح.

 

Bernd + Hilla Becher Detail, Petrochemical Plant, Wesseling, GER, 1992 Black and white photograph 60 x 50 cm 91,5 x 75 cm (framed) Copyright Bernd + Hilla Becher Courtesy Sprüth Magers

هيله وبراند بيخر مصنع بتروكيماوي، فسلينغ، ألمانيا (تفصيل) 1992, حجم: 50*60 سم. 75*91.5 سم (مؤطر). جميع الحقوق محفوظة لهيله وبراند بيخر. بلطف من سبروث ماغرِس
هيله وبراند بيخر مصنع بتروكيماوي، فسلينغ، ألمانيا (تفصيل)
1992, حجم: 50*60 سم. 75*91.5 سم (مؤطر). جميع الحقوق محفوظة لهيله وبراند بيخر. بلطف من سبروث ماغرِس

 

يجب علينا التريّث قليلا هنا. هذه الاطراءات المذكورة تستدعي بحثًا أكثر تعمقًا. كيف تجتمع التكنولوجيا ونظرية الجهاز، الضوء وظروف المناخ لإنتاج تجربة السامي؟ ينتمي عمل هيله وبيرند بيخر الى إرث طويل لمصورين (مع تأكيد لغة المذكر – لأنه إرث ذكوري جدًا)، يستخدمون الكاميرات بقطع كبير وسالب كبير الأبعاد (8/10 إنش لدى آل بيخر). قدرة رسم حقائق مادية مصورة بمثل هذه المساحة الداخلية تفوق بأضعاف مضاعفة قدرة الكاميرا العادية بل تفوق جودة التقاط التفاصيل بعين متوسطة. وبناء عليه، تنتج الكاميرات من هذا النوع نوعًا من "الرؤية من فوق". هذا تمثيل مفصل جدًا للواقع، حاد جدًا وحقيقي جدًا. الإضاءة الناعمة والمتجانسة التي تميّز صور الزوجين بيخر تشدّد نقاء التفاصيل والإحداثيات لدرجة فائضة. تخيّلوا إصغاء الى صلاة في كنيسة تردّد الصدى؛ صرصرة الكراسي، دوّاسات الأرغن، ومئات أجزاء الصوت التي تؤلف الكامل. التجربة الجمالية التي ينتجها التصوير "البيخري" أشبه بمحفل عيد الغطاس.

غياب الأسلوب كأسلوب

شكّل مشروع الزوجين بيخر مصدر إلهام مؤسّس لكثيرين في النصف الثاني من القرن الماضي، بدرجة غير قليلة بفضل مكانة الزوجين الأسطورية كرئيسي قسم التصوير في أكاديمية الفنون في ديسلدورف، وبفضل جيل الطلاب الناجحين الذي تربى تحت كنفهما، ومنهم توماس روف، اندراس غورسكي (Gursky), توماس شتروت (Struth) وكنديدا هوفر. بالنسبة للآخرين ممن يرون في التصوير أداة تأملية أو تجريبية، كوسيط للروح أو المزاج، فإن المدرسة التي أسسها الزوجان كارثية بنظرهم. أحد التعابير القاسية لهذه النظرة تجسد في مقال نشر بمجلة American photographer عام 2011, وعنوانه: هل كانت مدرسة ديسلدورف مميتة للتصوير؟

الفرصة الضائعة المتأصلة في هذا الجدل الخلافي هي أن غياب الأسلوب لدى الزوجين بيخر سرعان ما تحول بنفسه الى أسلوب مميّز، لدرجة أنه ليس هناك عبارة أكثر شيوعًا بين المصورين من: "أسلوبك بيخري جدًا". أي أنه بمرور السنين تحول أكثر الأعمال تطرفًا التي يمكن تخيّلها - المجرد من الذات، الذي يرفع لواء استحضار الموضوع وإلغاء زاوية النظر - الى الأكثر بروزًا في الوثائق التاريخية للتصوير الحديث.

فرصة ضائعة أخرى تستدعي قراءة معجمية لعملهما هي احتمال مون هذا العمل رومانسيا. يوجد هنا للوهلة الأولى تناقض: كيف يمكن لوثيقة مقارنة، منهجية، مشددة ومكرّسة أن تتحول الى هكذا رومانسية في الوقت نفسه؟ والجواب بسيط: إن دافعية الزوجين بيخر الجليّة لحفظ ما كان وغاب، استقصائه، إنقاذه وتخليده، حمل الرسالة القسري لسنوات، تتحول دون أدنى شك الى إحدى أكثر الايماءات رومانسية في التصوير الحديث.

إرث الزوجين بيخر والتصوير الاسرائيلي

لا يمكنني هنا البحث بعمق في العلاقات بين الصورة الألمانية وبين الإرث النموذجي لأمثولة الصورة الإسرائيلية، لذلك أكتفي بملاحظة عن الفجوة ما بين ممارسة الفنان وبين تجربة المشاهد. منذ عقدين تناول الخطاب المحلي مسألة هذه العلاقات وكانت ذروته معرض هام بعنوان "فضاء عيش"،  بإشراف  القيّمة فيرد مَيمون عام 1988 في متحف هرتسليا للفنون. عرضت في المعرض سلاسل نموذجية لمصوري مدرسة ديسلدورف والى جانبها أعمال لمصورين محليين بارزين منهم غلعاد أوفير، روعي كوبر، أسنات بار أور وشارون يعاري (في بداية طريقه). توجهت ميمون الى الممارسة والى التكتيك التصويري؛ الى الجمع المقارِن للنماذج والى الأوجه التاريخية والثقافية المستشفّة من السلاسل. فقد حاججت أن التصوير التسلسلي تأثر بشكل مباشر وواضح من نماذج ديسلدورف وعرضتها عبر تقديم مقارِن لمصورين ألمان واسرائيليين في فضاء المتحف. وقد أصابت في توجهها لأن قراءة وتشخيص الشخصية كانت حقًا نافذة ومرحّبة. إلا أنني اود التوقف للحظة عند الفجوة الكامنة في معايشة المشاهد أمام هذه السلاسل. فالنموذج الإسرائيلي يلامس بمفاهيم عدة الكآبة المحلية: إنها صورة مرآة نقدية لمناظر ملوثة ومنظومات صهيونية كوَت الحياة اليومية والفضاء. وبالمقابل، فإن المدوّنة الألمانية (التي لا تقل عنها نقدية) تنتج دهشة وتساؤلات، توترا وانفعالا. فهي تنطوي على التزام وسحر بالتكنولوجيا حتى صميمها، من منظر أخير ومتلاشٍ لجمالية صناعية، وتعكس علاقة ملتبسة، على الأقل، بالمنظومات التي يمثلها.

بهذا المفهوم، فكرت طوال السنين بأنه رغم الشبه الكبير، يبدو ان التصوير الاسرائيلي في التسعينيات تأثر بدرجة أعمق من المسار الموازي للتصوير الأمريكي، كما يتجسد من أعمال  الطوبوغرافيين الجدد في السبعينيات، مثل بلتز (Baltz) وروبرت آدامز  (Adams). للوهلة الأولى، فإن كلا من التصوير الألماني وذلك الأمريكي وجّها نظرة فاحصة ومنضبطة الى ظواهر معمارية ومشهدية انطلاقا من نظرة التحولات التاريخية، البيئية والاقتصادية. لكن في حين يصف الطوبوغرافيون الجدد الأمريكيون ونظراؤهم في التصوير المحلي، بدرجة كبيرة، كارثية وعنفا وعسكرة عقارية وعسكرية، فإن هيله وبيرند بيخر يحولان المباني الى نصُب: فهي تعرض بكامل تألقها والنظرة اليها مفعمة بالدهشة. يمكن القول عمليًا إن صور الزرجين بيخر هي صور "ما قبل الانهيار". انها التعالي الأخير، نشيد مديح هو أيضًا موت وتفجّع. إن التصوير الاسرائيلي، في أعقاب الأمريكي، لا يبقي مكانا للسامي. إنه تصوير قيمي ومعماري لـ "ما بعد الانهيار"، ووظيفة التصوير النموذجي هنا هي مسح للغـُبن وليس مسحًا لأساليب معمارية وتصنيفها داخل أرشيف تاريخي 2.لو تبنينا نظرة "الما قبل" و "الما بعد" فيمكن التفكير بسهولة في هاتين النزعتين، أيضًا، قياسًا بتاريخ الوسيط نفسه وموقع التكنولوجيا في هذا التاريخ. إن نماذج الزوجين بيخر هي تأبين فخم للتصوير اليدوي في القرن العشرين، في حين أن التصوير الاسرائيلي هو إقرار صريح باحتضاره.

*كُتب هذا المقال بالتزامن مع وفاة هيله بيخر، 10 تشرين الأول 2015

  • 1. . هناك حالة مشابهة لأول وهلة هي صور واجهات الكنائس التي صورها ووكر إيفانس (Evans) في إطار مشروع إدارة رعاية المزارع خلال الثلاثينيات في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن حضور المباني هناك يظل ماديًا وعينيًا وغير مشحون بإحساس السموّ
  • 2. ويجب في هذه النقطة التدقيق والتذكير بأن مشروع الزوجين الألمانيين يتناول أيضًا بمفاهيم عدة الغبن، لكنه هنا أكثر تجريدًا، أكثر خفاء، ويتناول عموما القوة الكارثية الكامنة التي جلبتها الحداثة معها