في البدء كانت البيضة. على مدخل معرض "العصر الأيضي" بإشراف القيّمة تشوس مرتينز (Chus Martínez) في متحف الفنون الأمريكية-اللاتينية في بوينس آيرس (MALBA)، هناك صيغة مستعادة لمنحوتة نحن الذين في الخارج (Nosotros afuera) من العام 1965، وهو عمل هام للفنان الأرجنتيني فدريكو منويل بيرالتا راموس (1992-1939 ,Federico Manuel Peralta Ramos). وربما ان كلمة أسطوري أدقّ من كلمة هام لوصفه، لأن العمل الضخم الذي يشبه البيضة، كان آخر أعمال بيرالتا راموس قبل إعلانه اعتزال عالم الفن. عرضت المنحوتة الأصلية مرة واحدة فقط في معرض ببوينس آيرس حيث فاز بالمكان الأول. لكن نجاحه كان قصيرًا إذ بدأت منحوتة الجبص تتفتت حتى قبل إقفال المعرض. هناك روايات أخرى تدعي أن الفنان نفسه هدم عمله. بالنسبة الى القيّمة تكمن أهمية العمل فيما يتجاوز السيرة الذاتية للفنان. وهي تقول إن المنحوتة، التي تسميها ببساطة "البيضة"، قد تنبأت بالانترنت وخصوصًا الطابع غير الخطي وغير الهرمي الذي ترتبط فيه كل الأشياء معا في الشبكة – من اعلانات حتى أفكار، نصوص فلسفية حتى ميميات. وتكتب مرتينز:
"إن البيضة، أشبه بالرابط، تشكل معلمًا رمزيا لنهاية الخطوط المستقيمة، صورة بيضوية تحتوي على خليط من الطاقات الصوتية التي تتواجد في حركة دائمة، وترسم منظومات ربط بين مواد عضوية، رمزية، جمالية ودلالية: مصدر للحياة مع علم منطق جديد. والبيضة والرابط ينتميان الى الأسرة نفسها. فكلاهما يقترحان أشكالا مختلفة للتصفح في معاني الأشياء".
المعرض صغير لكنه طموح، وفيه ثمانية أعمال لفنانين نشطوا من فترة ستينيات القرن الماضي وحتى اليوم. قسم من الأعمال مغروس عميقًا في الثقافة البصرية المعاصرة، مثل راقصات التعري والراعيات الفاتنات جنسيا لدى بترا كورترايت (Petra Cortright) واللواتي يرقصن أمام خلفية من المناظر الخلابة الصناعية الى درجة التسخيف، وتم إنتاجها بواسطة تصميم غرافيكي محوسب. هناك أعمال أخرى، مثل عمل الفيديو مجمع مكاتب ببوفا ليسيتسكي لجون رفمان (Jon Rafman), تعود في الزمن لغرض فحص كيف تندمج الرغبات المثالية للحداثة في العنصر الجمالي لفضاءات المكاتب.
جميع الأعمال تتقاسم صفة مشتركة – إنها في الوقت نفسه عميقة وغبية تماما. أكثر الأعمال التي أحبها هو أنظروا ما أكبر هذه المانغو لويلفريدو بيرييتو (Wilfredo Prieto), وفيه ثمرة مانغو مربوطة بجهاز بلاك-بيري بواسطة شريط مطاطي. لا ازال احاول اتخاذ قرار عما اذا كان أمامنا تفريط بمانغو طازج أم اعلان مكتئب عن الفئات المتبدلة للإنسانية حيث لا يتم تعريف مقياس الرسم بواسطة المقارنة مع الجسد الانساني، بل مع الاجهزة التكنولوجية التي نستخدمها. مرتينز تحدثنا أنه بعد توقف منويل بيرالتا راموس عن انتاج الفن، استغل نقود منحة غوغنهايم التي فاز بها، لإقامة وجبة عشاء فاخرة حيث قضى أيامه وهو يخربش مسلّمات على قطع ورقية كان يتركها لأصدقائه – جمل مثل "آمنوا بالعالم غير المرئي، فيما يتجاوز البعيد والقريب"، وهي ترنّ فارغة لكنها تعج بالرثاء في الوقت نفسه. هذا المبدأ للتغابي المعمّق والتعمّق الغبي، الذي أوصله بيرالتا راموس لدرجة من الكمال، انتشر في جميع الاتجاهات – نحن على مسافة كبسة واحدة عن حساب الانستجرام الخاص بالقاضية الغاضبة، غرامبي.
في الأسابيع اللاحقة لزيارتي المعرض عدت مرارا الى موقع الانترنت الخاص بالمعرض، وهو جزء لا يتجزأ منه، والجانب الأقوى فيه برأيي. خرجت من المعرض وكلّي طاقة، منفعلة من الأعمال الممتازة المعروضة فيه، ومن الاستخدام المُلهم الذي قامت به مرتينز للرابط كأداة في خدمة عملها كقيّمة. ولكن بنظرة للوراء تبدو اختياراتها غامضة أكر مما هي دقيقة. كل واحد من الأعمال التي يشملها المعرض – حتى أفضلها – يمكن استبداله بأعمال أخرى تشخّص المبدأ نفسه. حتى البيضة، التي كانت حيوية جدا لشكل تفكير القيّمة، عرضت كعمل مركزي ونقطة انطلاق نظرية في معرض آخر سبق أن كانت مرتينز قيّمة لها، بعنوان "نحن (الذين) في الخارج"، وذلك في فضاء العرض (e-flux) في نيويورك. كنت سوف أقول إن هذه هي المسألة – محاولة لإضاءة خاصية معينة لثقافتنا، حيث أنه يمكن استبدال كل شيء فيها بالآخر، وكذلك شهادة على قوة أطروحة مرتينز – لولا وجود موقع الانترنت. تعرض حياة المعرض الافتراضية درجة من العينيّة، في المضمون وفي الشكل أيضًا، كانت غائبة عن المعرض نفسه. وأعتقد اليوم أن أفضل شكل لتجريب ومعايشة المعرض هو ليس زيارة المتحف بل الانترنت. مثلا، مبنى الموقع: جميع المعلومات – من نظريات، سير ذاتية للفنانين والأعمال، أفكار مركزية – معروضة برسم بياني مركب تقع في مركزه صورة البيضة. كل مسار تم اختياره، كل اتجاه او سهم نقرر الذهاب في أعقابه، بالانجليزية أو الفرنسية، يعيدنا الى مبدأ الاستعارة المحددة للمعرض، الى بيضوية البيضة والى الروابط. نحن نتصفح خلف معنى الأشياء، في مقابل محاولة التعمّق، وننتقل من رابط الى آخر بحركة دائرية، وهي تجربة لا يتضمنها المعرض الحقيقي.
في النص الممتاز بقلم القيّمة، تعرض مرتينز الجهاز العصبي المتفرع للأخطبوط – يبدو أن ثلاثة أرباع مخ الأخطبوط موجودة في أذرعه الثماني – كنموذج جديد للتفكير خلف عصر اطلاق الأحكام. التحدي الأكبر والمغامرة التي يقترحها المعرض هو النظر الى الفن كما لو كان أخطبوطا – الحكم بدون الاستناد الى منظومات وضع الأحكام المختلفة، التفكير دون جهاز عصبي مركزي، التزلج، التواجد بحركة دائمة دونما سطحية. لا أعرف إن كان هذا ممكن، لكن لن آكل في حياتي بعد فواكه بحر مقليّة.
معرض "العصر الأيضي" في متحف الفنون االأمريكية-اللاتينية في بوينس آيرس، الأرجنتين، من تاريخ 11.09.2015 حتى 15.2.2015