أحب الرسم كثيرا. ويبدو أنه حب اتقاسمه مع كثيرين. الرسم، كما يبدو لي، بكل ما فيه من صرامة حركية متأصلة، في وضعية مكانك عُد، مما يدفع كثيرين الى تأبينه. ومن فترة الى أخرى، فيما يشبه رد الفعل المضاد للتسمم، تجتمع أفضل الأدمغة في محاولة لفهم ما نريده عمليًا من الرسم. لماذا يرفض الموت؟ كيف لا يزال ذا صلة بالفعل الفني الراهن؟ والاجابة تأتي دومًا كنوع من الحجة الدائرية، أي أن الرسم ذو صلة بفعل وجود رسم جيّد وبالتالي فهو ذو صلة. وأنا أتفق تماما مع هذا.
صادف أنني أقوم هذه الأيام بترميم دار. بالاضافة الى وجع الرأس الرهيب المنوط بالترميم، فهناك أمور أخرى. فأنا أفكر كثيرا بالمعمار، بالفضاء المادي الذي نعيش فيه وبالقيم الأكثر تجريدا التي ترافقه. أرى في المستويات المنبسطة المغبرة واليومية خطوط بلاط الخارصين التي تتلاقى أو تخطئ إحداها الأخرى. أعي مسار المواسير والانحناءات في المسطبة. "أفهم" الشبابيك والضوء المنبثق منها. وفي المستويات الأكثر تجريدًا أفكر باللغة. أفكر بالشظايا المعمارية بوصفها ألفاظا، كلمات وجملا تؤلف لغة. وتثير التفكير. أتساءل حول الخارج والداخل، وهم العُمق، التشفير، ثبات الجسد مقابل حركية البصر. وهناك، في الزمن القائم بين المنطقة الملموسة من الستارة التي تغطي الشباك وبين فكرة الشباك، لديّ في البيت الخاضع للترميم، رأيت معرض مايا غولد.
يثير اهتمامي رسم الشبابيك، بتاريخه الغنيّ. الرسم المعلق على الجدار كشباك هو بمثابة ميتا-رسم على الدوام، حيث الشباك الماثل في الرسم يسمح لنظرة المشاهد باختراق الرسم من خلاله نحو الرسام أو نحو ذاته (يمكن في هذا السياق التفكير بفريدريك، ماغريت، لسكاز وكثيرين غيرهم). هناك قاسم مشترك واحد وتافه لتلك التقنية وأولئك الرسامين، لكنه قاسم لامع: مفتاح معماري، حاجة استعمالية ضرورية للحياة. فمعرض مايا غولد يتناول المفتاح نفسه في المعمار والألفاظ المشتقة منه. إنه يثير التفكير من خلال الرسم المنضبط والفاخر. لذلك، أقول بتسرع واقتباسا للحجة الدائرية: إن الرسم لدى غولد جيد بما يكفي لفهم ضرورة الرسم. بالنسبة لي على الأقل.
كل الرسومات في المعرض متشابهة في حجمها. وهي مرسومة بألوان الزيت على MDF أو على قماش. رسوماتها ما عدا اثنتين هي رسومات زجاج ملون (فيتراج). وهو رسم يستخدم الزجاج الملون وفصله عن بعضه بواسطة الخشب أو المعدن أحيانا، وتحويله الى أشكال تنتج معاني. يعرَض الفتراج على امتداد التاريخ بوصفه زجاجا مبقعا وجدارا مضاءً. إنه متقدم في العمر – نحو ألف عام – ومعظم استخداماته كانت في المواقع الدينية (كنائس، مساجد) أو في بيوت وقصور الأثرياء جدا. إن وظيفة الفيتراج كمعزّز لخصائص الضوء، كموشور يحول الضوء الى مضمون كلياني أو ديني، مفهومة ضمنا تقريبا. وهكذا، قبل أن تقال ولو كلمة واحدة عن الصورة في رسومات غولد، فهي تراكم وزنا تاريخيا وسياسيا. مثال ممتاز على ذلك يتجسد في الفيتراج لجمجمة ملونة بشكل مدهش، ومحاطة بورود، مع شمعتين مغروستين في تجويفي العينين (Memory, 2015). قسم من الفيتراج مُضاء وقسمه الأخر مظلل. الظل النابع من خيال مبنى مرسوم خارج الفيتراج، يتحول الى بقعة عمياء تصعّب على تشخيص صورة الجمجمة. يمكن للجمجمة، من زاوية نظر معينة، أو بفعل عدم الانتباه، أن تتملص من عيني المشاهد. ممنتو موري في رسم السفيرين لدى هولبين (Holbein) كنقطة مقاربة؟ يومية المعمار الركيك، ربما كاستعارة للمومنتو موري نفسه؟ موت الرسم؟ انبعاثه؟ داخل وخارج، مقدس ودنيوي، عمى ورؤية، وكل هذا انطلاقا من رسم تحقيقي وليس اغرائي بالمرة. هذا رسم زاهد للفيتراج، النقيض التام لغاياته الاستعراضية الفخمة؛ رسم عديم المؤثرات، يكاد يكون نموذجًا معماريًا. أو لربما أن الاختيار المقلّ نابع من وعيها لفضاء الغاليري الصغير؟ في جميع الأحوال، أمامنا اختيارات دقيقة تطرح أسئلة حادة، لكنها تلزم بشدة إعطاء أجوبة.
أقرأ فصلا في كتاب عن نظرية المعمار للمؤلفة اليزابيث غروس1. أحد الأسئلة التي يطرحها الكتاب يتعلق بصلة عمل جيل ديلوز (Deleuze) بالمعمار. هل يمكن أن نجمع معا ما بين نص ديلوز ومادية الفضاء؟ تعتقد غروس أن الأمر وارد وممكن، وأنه يمكن ملاحظة رابط بين ديلوز والفضاء، الحيز والحركة، وأننا نجد لديه تفضيلا للجغرافيا على التاريخ. ديلوز هو رحالة الأفكار الأبرز، تكتب غروس، حيث يجري مسحًا للقوة وليس للصورة. إنه يقترح في كتابته اختلافًا، علاقات وثيقة مع الخارج، تبادل أفكار، فتح حدود (شبابيك؟)، تصدير واستيراد احداث، وهكذا. فلو لاءمنا نص ديلوز للغة المعمار، يمكن ربما تخيُّل فضاء مادي متعدد الشبابيك، ضوء أو ظلام يخترقانه، أصوات الخارج تمزق سكينة الداخل، والعكس أحيانًا، مناظر تشاهد من الداخل للخارج، واحيانا ينظر الخارج للداخل. هكذا هو رسم الفيتراج لدى غولد أيضًا: رسم يجعل المشاهدين يتحركون بواسطة النظرة، حيث المعاني تدخل وتخرج عبر جدرانه المقتحمة.
هناك قدر من "الاحتيال" في رسومات غولد. وهي معلقة على جدران الغاليري، تبدو ساذجة المظهر، مسطحة ومسطِّحة. للولة الأولى فقط. المشاهدون عليهم النظر مليًا في الرسومات من أجل فهم السيرورة، وملاحظة نظام الفيتراج كمسطِّح، وفهم الرسم بعمق حينذاك فقط. نحن أمام وهم ذكي لحدّ مدهش، ما يشبه القنبلة الذكية التي يجب تفكيكها بصبر. هناك رسومات تصوغ عمقًا بواسطة الرسم الخيالي2; رسم غولد ليس واحدا منها. بل يطالب باستبدال الادمان بصياغة رسم ينتج عمقا، انطلاقا من الفهم بأن العمق يتوفر حتى لو افتقر الرسم أيضًا الى نقطة التلاشي. أي أننا نتحدث عن منظومة إرجاء، للاكتفاء أيضًا. وهي منظومة متوفرة بشكل متواز في الرسم نفسه ولدى المشاهدين أيضًا. حين "نتحرر"، حين نحيّد منظومة الاشتراط، فإن المردود يكون ممتعا بشكل مضاعف: مرة قياسًا بالرسم (فهمت) ومرة ثانية بالنسبة الى أنفسنا (أنا! فهمت). لكن القدرة على تطوير مجاز متقدم كهذا منوطة دومًا بالمشي على الطرف. "الاحتيال" لن يُستقبل دومًا بالترحاب. هناك من سيشكك في الدافع خلف الفعل، وسيقول أن الأمر دجلٌ ممن يعرف كيف يضغط كل الأزرار الصحيحة معًا. أنا أومن بصراحة الرسم لدى مايا غولد. أي أنني أعتقد بوجود علاقة طردية بين زمن "بناء" الرسم (الشحنة) وزمن تفكيكه من قبل المشاهد. واذا كان زمن المشاهد (التفكيك) يتراوح بين الطويل والطويل جدا والذي يطول ويطول، فمعنى الأمر أننا امام مادة جيدة.
إن رسومات مثل One Day أو Three Women and Bananas هي تخطيطية وساذجة من جهة، ولكنها دقيقة بشكل مدهش من جهة ثانية (رسم ظل مبنى). وهي لا تكف عن إقلاق راحتي. وتواصل ادخالي للوحة واخراجي منها بحيث أكون مشاهِدا ومشاهَدا. أنا في حركة دائمة، وفي الوقت نفسه أفكر ما هي الصورة التي في الرسم عمليا. هل تواجد تراتبية للصور؟ ما الأهم من الآخر؟ رسم الفلاحين أم رسم الصيادين؟ أعمال الأرض بأسلوب مييه (Millet) أو فان غوخ؟ استعمار أم اشتراكية معافاة؟ أو لربما فضاء حضري مع فيتراج مقابله؟ أعتقد أنه ليس هناك تراتبية بالمرة في أعمال غولد، حيث أن الصور التي يعطي بعضها للأعمال أسماءها، هي شظايا اللغة الخاصة لدى غولد، وقسم كبير من الاستمتاع برسمها ينبع تحديدا من القدرة على أخذ حروف، كلمات وجمل ثم خلق خطاب خاص للداخل والخارج. Rachel
هي لوحة صغيرة الحجم وتصويرية وفقًا لتقاليد الرسامين الكبار، وهي مشغولة جيدًا برأيي. هذا رسم نبع منه المعرض بأكمله، بوحي من "امراتان في الشباك" لبرتولومه استيبان موريلو (Murillo) من القرن السابع عشر. إنه الاستثناء في المعرض. رسم موريلو امرأتين: الأولى شابة، متكئة تضع ذراعًا على عتبة الشباك وعنقها على كفة يدها الثانية، المضمومة؛ والثانية تقف خلفا واكبر منها، تنظر وتغطي وجها بمنديل. كلاما تنظران للأسفل، نحو الشارع. غير راغبتين بنظرة الرسام أو المشاهد. إنهما مشغولتان بشؤونهما. غولد رسمتهما من دون الشباك الذي يؤطرهما. إنها تتنازل عن قصة "الشباك" في تاريخ الرسم وتلقي بها خارجا. ما تفعله عمليا هو تحويل العلامات الملموسة للشباك الى شيء فائض عن الحاجة – الاطار، اللغة، الأباجور. بعد إسدال النهاية على الشباك المادي (المرسوم)، تقترح غولد تحويلا – "ايماءات لشباك" (اتكاء، امساك، نظر) للمرأتين في الرسم. بعد ان تخلصت من قيود الموروث فقط، تبدأ رحلة الرسم خاصتها؛ رحلة تشير الى راهنية الرسم، ضرورته لفهم اليومي بواسطته وبالعكس – فهمه من خلال فعل اليومي. هذه مسيرة الرسم في ختامها، كاليراعات، تشرق، تضمحل ودائما تعود.
معرض مايا غولد في غاليري ألون سيغف حتى 18 كانون الأول 2015