عمل داخل عمل: حول "إكسكورسوس، تكريم للمربع3" لإيرفين في ديا بيكون

مطلع صيف 2015 عاد روبرت إيرفين الى متحف ديا: بيكون، وأقام فيها إنشاءً كان أنتجه عام 1998، في موقع سبق له بنفسه تصميم مبناه ومحيطه عام 2003. ولكن الصيغة الجديدة للانشاء "إكسكورسوس" تكشف ما يفوق بكثير تاريخ الاستقصاء البحثي البصري الذي قام به الفنانين على مدى سنين

 

 

Advertisement

يستعيد روبرت إيرفين بعينين دامعتين زيارته الأولى إلى بيكون، بناء على الدعوة التي تلقاها من مؤسسة ديا للفنون (Dia Art Foundation)عام 2003 لتحويل المطبعة القديمة المهملة التابعة  لشركة نابيسكو الى متحف. كانت المدينة مختلفة جدًا عما هي عليه اليوم، كما قال الفنان للجمهور في محاضرته التي قدمها مطلع هذا الصيف في الغاليريهات التي أعاد تصميمها. مرّت سنوات على آخر زيارة له هنا. والآن، بمناسبة افتتاح الإنشاء "إكسكورسوس، تكريم للمربع3" عاد إيرفين ليتحدث عن تجاربه، ومعه المديرة جيسيكا مورغان وعشرات المستمعين ممن انجرفوا، لشدة مفاجأتهم، خلف تجوال إيرفين العاطفي في مسالك الذاكرة الباطنية. وقد انفعلوا أيضًا حين راح الفنان يستعيد كيف وجد الأشجار التي غرست في الحديقة، وكيف أن الغارسين حذروه حينذاك من أن هذه الأشجار لن تعيش؛ وكيف أن الشارع الرئيسي الذي يعجّ اليوم بالمقاهي، المطاعم والغاليريهات كان موحشًا وشبه قاحل؛ كيف أن مجلس الأمناء خشي من فكرة أن يقوم فنان، وليس مصممًا معماريًا، بتصميم فضائهم الجديد خارج مدينة نيويورك، وكيف تخيّل هو الطريق إلى ديا: بيكون كمسيرة لا تبدأ من بوابة الدخول إلى المتحف، وإنما من غراند سنترال في نيويورك على سكة الحديد التي تقود المتجوّلين إلى البلدة عبر نهر هدسون.

 

Robert Irwing talk at the Dia

Robert Irwing talk at the Dia
تصوير روتم روزنطال

 

مؤسسة ديا سعت منذ تأسيسها عام 1974 الى مساعدة فنانين في تحقيق مشاريع تتجاوز أحجامها تخوم المتاحف التقليدية. من خلال العمل مع فنانين مثل دونالد جود، دان فلافين وريتشارد سيرا، كانت المؤسسة مساهمة في العديد من المشاريع التي سعت لتعريف فن الأرض، التبسيطية (مينيماليزم)، وتجارب فنية أخرى تناولت المشاهد والحيّز. وقد بات واضحًا مطلع الألفية الجديدة أن المؤسسة بحاجة إلى فضاء عرض إضافي لموقع تشيلسي لعرض مجموعاتها، يمكن إبقاء الأعمال الفنية فيه لفترات طويلة. ودخل الى الصورة روبرت إيرفين، فنان إنشاء أمريكي بارع، تطرح أعماله مثل ديا نفسها الى حد بعيد، تحديات على حدود المؤسسة. العديد من الحواجب ارتفعت باستغراب حين اختار مديرو ديا إيرفين الذي يفتقر لأية تجربة معمارية لغرض تصميم فضائهم الجديد المنتقى في مدينة بيكون. فقبل سنوات قليلة فقط، أثار نفس نوع الخلاف حين تم اختياره لتصميم الحديقة المركزية لمتحف غيتي (Getty Museum) قبل افتتاحه عام 1977، على الرغم من افتقاره الى تجربة تصميم الحدائق. بالنسبة الى إيرفين، كانت الحديقة في غيتي فترة من التجريب مع المجهول، حيث أن مفاجآت الطبيعة الاعتباطية حددت النتيجة النهائية. منهج إيرفين الخاص يبدو كأنه يعكس النمو البطيء للنبات. وقد نوه في العام 2002 بشأن الحدائق: "الشيء الذي أكتشفه أحيانًا - نوع من وعي الاحساس - لا يدخل حيز التطبيق الفعلي لسنوات. أحيانًا يتجلى بهيئة غريزة أولية يجب مواصلة استقصائها. أفضل الأحوال تكون حين تفاجئ نفسك حقًا، حين يتردد صدى ما سبق لك اكتشافه في موقعه وبأفضل من كل ما كان يمكن لك أن تتصوّره". كذلك الأمر في بيكون، كل المفاجآت على طول الطريق نبعت من قراره الغريزي بالإبقاء على الصورة الأصلية للمطبعة، من خلال تشييد حديقة ستنطق بخصائص المنطقة التي تتموضع فيها – وادي هدسون.

 

מראה חוץ, דיה:ביקון, גלריות ריג'ו, ביקון, ניו יורק. צילום: סטודיו ביל ג'ייקובסון. באדיבות קרן דיה לאמנות

מראה חוץ, דיה:ביקון, גלריות ריג'ו, ביקון, ניו יורק. צילום: סטודיו ביל ג'ייקובסון. באדיבות קרן דיה לאמנות
صورة خارجية، ديا: بيكون، غاليريهات ريجو، بيكون، نيويورك.
تصوير: ستوديو بيل جيكوبسون. بلطف من مؤسسة ديا للفنون.

 

معتمرًا قبعة بيسبول، بثياب غير رسمية ونظارتين سوداوين، جالسًا تحت النوافذ التي صممها، بأربعة ألواح زجاجية شفافة فقط مطلة على العالم الخارجي، يبدو إيرفين كسائح متلهف أكثر مما هو فنان معروف، قادت أبحاثه لمسائل الضوء، الفضاء، تصميم المشاهد الطبيعية والإدراك إلى ما يعرّف الفن المشروط، الذي ينظر الى العمل الفني كغير هرمي، لا بدية له ولا نهاية. "هذه هي المرة الأولى التي أكرر فيها مشروعًا"، أشار بنوع من الاعتذارية، محيلاً الى إنشائه الجديد، "لا زلت غير واثق ما إذا كانت هذه فكرة جيدة". إيرفين ، بالتأكيد، يحاول أن يبدو متواضعًا. لقد تولى بشكل ذائع الصيت متنزهات، سطوحًا مصممة، غاليريهات، متاحف وقممًا على امتداد الولايات المتحدة. وعودة إيرفين الى ديا، بذلك المعنى، قد تبدو عملا داخل عمل، يردد فيه إكسكورسوس صدى إقامة الحديقة  كزاوية خفية للزوار، حيث بوسعهم التحديق في هدسون أو الانغماس في صوت إنشاء اويس لولر، بالاضافة الى الاقتفاء المرهف لما تبقى من الماضي الصناعي لهذا الفضاء، أو اللعب ما بين الضوء الصناعي والضوء الطبيعي في الغاليريهات. وهكذا تحتشد جميع هذه الصور معًا الى تأمّل في الخصائص الأدائية والجمالية لفضاءات المتحف، الفهم الواسع للفضاء ومكنوناته البصرية التي تشكل خاصية رئيسية لأعمال إيرفين في العقود الأخيرة.

 

מראה חוץ, דיה:ביקון, גלריות ריג'ו, ביקון, ניו יורק. צילום: סטודיו ביל ג'ייקובסון. באדיבות קרן דיה לאמנות

מראה חוץ, דיה:ביקון, גלריות ריג'ו, ביקון, ניו יורק. צילום: סטודיו ביל ג'ייקובסון. באדיבות קרן דיה לאמנות
صورة خارجية، ديا: بيكون، غاليريهات ريجو، بيكون، نيويورك
تصوير: ستوديو بيل جيكوبسون. بلطف من مؤسسة ديا للفنون

 

 

מראה חוץ (גן מערבי), דיה:ביקון, גלריות ריג'ו, ביקון, ניו יורק. צילום: קן גבל. באדיבות קרן דיה לאמנות

 מראה חוץ (גן מערבי), דיה:ביקון, גלריות ריג'ו, ביקון, ניו יורק. צילום: קן גבל. באדיבות קרן דיה לאמנות
صورة خارجية (حديقة غربية)، ديا: بيكون، غاليريهات ريجو، بيكون، نيويورك
تصوير: كن غبل. بلطف من مؤسسة ديا للفنون

 

خلال السبعينيات، هجر إيرفين ستوديو الرسم خاصته لصالح أعمال إنشاء مرتبطة بموقع محدد، خلف الأبواب وخارجها. على أثر رحلة الى أمستردام عثر على قماش "السكريم" (Scrim) البسيط وهو قماش نصف شفاف، يستخدم في هولندا لأغراض تزيينية وفنية. وباتت هذه مادة أساسية فس أعمال الانشاء لديه، في ويتني، غاليري بيس ولاحقًا أكثر في ديا تشيلسا. بعد استقصاء للعلاقات الهندسية بين الفضاء والشكل على مدى ما يربو عن 25 عامًا حتى اليوم، يسم إكسكورسوس المرة الأولى التي تعاطى فيها مع قماش السكريم، الضوء الطبيعي، وضوء الفلوريسانت. متأثرًا بالفنان جوزيف ألبيرز واستقصائه المتواصل للون، فإن أول تنصيب لإكسكورسوس عام 1998 إشتمل على فضاء مقسّم بالسكريم الى 18 حجرة صغيرة مستطيلة، كل واحدة تميّزها لمبة فلوريسانت مغطاة بمادة هلامية (جيل) بألوان مختلفة، وكل من الحجرات أيضًا مقسمة الى تدرّجات لونية منفصلة.

 

Excursus: Homage to the Square3 at Dia Beacon

Excursus: Homage to the Square3 at Dia Beacon
روبرت إيرفين؛ إكسكورسوس – تكريم للمربع3
تصوير روتم روزنطال

 

مع ذلك، فإن إعادة إنتاج إكسكورسوس عام 2015 يكشف ما يفوق تاريخ إيرفين الخاص في الاستقصاء البصري. فالإنشاء بمداخله ومخارجه المتنوعة، ولعبه بالضوء كمبنى والفضاء كمادة، يشدد موضوعًا فاصلا في أعمال إيرفين وفي موقع ديا بيكون: غياب النتيجة المحددة سلفًا - أو، بكلمات الفنان نفسه، قوة المفاجأة - كمفتاح لتجربة المشاهدة. فالفضاء الذي يحدده إيرفين يتفحص قوة الخط على تقطيع الفضاء الى ما لانهاية، حيث يكون حضور المشاهد إلزاميًا لإتمام العمل. وبينما يتم إحلال الجسد في ثنايا الفضاءات المقطعة، كمن يرى وهو مرئيّ، فإن الفعل يصبح جزءا من التجربة. "ليس هناك منطق"، يشرح إيرفين، "ولا تسويغ فكري للمسار. في كل نقطة معطاة، يمكنك السير في ثلاثة أو أربعة اتجاهات". في حين تتراءى احتمالات التجوال في هذا العمل داخل عمل لانهائية، فإن إحساس الحركة المتكررة غير المحددة هو جديد بشكل لانهائي أيضًا. هذه المرحلة الأكثر جدة في تكريم إيرفين للأشكال والخطوط تطرح تحديًا على التخوم التي تنتجها البنى المعمارية الصلدة، بما فيها تلك التي أنتجها الفنان نفسه في مدينة صغيرة على ضفاف نهر الهدسون.