سفرة طارئة: حول كفتة إيرلاينز لخليل التنديري
"خطا كفتة ايرلاينز نفسه في مسار مشابه لدرجة مثيرة للقشعريرة للمسار الذي شكل موضوعا له – من ألمانيا الى تركيا وبالعكس على امتداد مسار متعرج من التوقعات الممزقة ". مات هانسون يكتب عن عمل خليل التنديري في سياق أزمة اللاجئين وتأثير المناخ السياسي القمعي في تركيا على فنانين ومثقفين.
في العام 2010 تلقت سوكران مورال (Moral) محطمة الأصنام الأسطورية تهديدات لحياتها إثر معارضها المناصرة للجنس، بروح التعرّي النسوي، التي وصلت ذروتها بإنشاء "مضاجعة" (Amemus، 2010)، في كازا ديلا أرتي في استنبول. بعد سنة على ذلك، في أنطوليا شرقيّ تركيا، شاهد النحات العريق مهمات أكسوي (Aksoy)عملية هدم تمثاله، الذي كان على ارتفاع ثلاثين مترا، بعد دعوى قدمتها الدولة مفادها أنه يشكل إهانة لرئيس تركيا اردوغان، مطالبة بفرض عقوبة السجن عليه لمدة 56 شهرًا. العمل النحتي، نصب تذكاري للإنسانية (Monument of Humanity)، رمزَ الى السلام بين الأتراك والأرمن بمحاذاة الحدود.
في تشرين الثاني 2016، اقتحم صندوق أربكان (Erbakan Foundation) المعرض الـ11 للفن المعاصر في استنبول مطالبًا باسم القومجية الإسلاموية بإزالة منحوتة علي الماجي (Elmacı) من عام 2016، "لا يمكنني الشعور مثلك عثمان الثالث" (I Can't Reciprocate Your Feelings Osman III) وقد أزال الفنان العمل تفاديا للعنف. وقد قام علي غورسيل (Gürsel)، رئيس المعرض بإعادته الى مكانه لاحقًا. في اذار 2017 حكِم في شرق تركيا على الصحافية زهرة دوغان (Dogan) بالسجن لمدة سنتين وتسعة أشهر ويومين لأنها رسمت قرية كردية بعد أن هدمها الجيش التركي (تطرق بنكسي الى هذا العمل في إحدى جدارياته الأخيرة في نيويورك).
تفاقمت الرقابة على الفنون خلال العقد الأخير في تركيا أكثر فأكثر. ولم يتمتع الفنانون البصريون أيضا بالحصانة أمام النقد السياسي الذي دمر الثقافة الأدبية التركية، بدءا بقاعات الأكاديمية التي فرغت وحتى غرفة الأخبار الخاوية في آخر صحف المعارضة. منذ محاولة الانقلاب الفاشل في 15 تموز 2016، يقصي التطهير الجاري برعاية نظام الطوارئ غير القانوني، فنانين، فنانين أدائيين ومفكرين ليبراليين – بعضهم خارج الحدود وبعضهم الآخر خلف القضبان. من نجحوا في التملص من المنفى، السجن وصور أخرى لكم الأفواه بقوا مع الضرورة الداخلية للكفاح من أجل إسماع موقفهم من خلال تبني أفعال فنية مختلفة في الطريق إلى التقلب على نيران موقد السياسة.
في ضوء نتائج انتخابات 24 حزيران 2018، بات بوسع اردوغان القبض على سدّة حكم حتى سنة 2028. تحت وطأة الخشية من استمرار تدهور الوضع الاقتصادي فإن الشعب التركي بانتظار وفاء الرئيس بتعهده – وهو الذي يعرض نفسه كمحافظ وعثماني جديد – إلغاء حالة الطوارىء غير الشرعية التي تخرس الفنانين والمثقفين وتسجنهم، وذلك في الوقت الذي يواصل فيه حزب العدالة والتنمية بزعامة اردوغان قلب الدولة رأسا على عقب.
على خلفية هذه المخاطر المهنية يبرز الفنان خليل التنديري(Altindere) كقوة طبيعية خارقة منذ ظهوره في التسعينيات الصاخبة، والتي شهدت فيها تركيا ازدهار فن جديد ومستفز. وقد كان بوسع سوكران مورال في تلك الفترة عرض اعمال مثل "بورديلو" (1997) المأخوذ من داخل بيت دعارة. وهي تتذكر اليوم بكثير من الاستلطاف ذلك العمل كشيء قد غاب ولا أمل في أن نرى ما يشبهه اليوم في المناخ الراهن الخانق للأجندة المفروضة، التي تحاول الفنون والثقافة الاستمرار تحت وطأتها. لقد نجح المشهد الفني في تركيا التسعينيات في الحفاظ على نقاء صوته من خلال اعادة فتح سالت بيوغلو (SALT Beyoğlu) قبل فترة وجيزة، اذ انه ربما الأهم والأكثر تنوعا من الناحية الثقافية بين مؤسسات الفنون في قلب استنبول. فالمعرض "خطأ في استمرارية" (Continuity Error)الذي يعرض هناك حتى 22 حزيران 2018 يتمحور في أعمال الفنانين أيدن مورتيزولو (Murtezaoğlu) وبولانت سنجار (Şangar). وقد افتتح المعرض بالعرض الأدائي: "أيها العمال بدون عمل لقد عثرت لكم على عمل جديد" (Unemployed Employees - I found you a new job! 2018-2006) وهو ينطق باسم جيل من الشباب غير المشغّل من أبناء الطبقة الوسطى الكونية. من تلك النقطة، يحلق المعرض إلى الأعلى عارضا أعمالا من سنوات مضت وسط تفضيل لمفهوم هوزون (hüzün) ومعناه الأمل الممزوج بالحزن.
خليل التنديري هو فنان تركي ينتمي الى ما يعرف بـ"جيل 1995". وهو يعمل في الحيز الممتد بين الفيديو والنحت، التصوير، الإنشاء، والعرض الأدائي، ويعمل أيضا في مجال القوامة والشراكات الفنية. الأعمال التي عرضها في بينالي استنبول الخامس سنة 1997 وفي دوكومنته 12 (2007) منحته تقديرا عاليا. فيلمه بلاد العجائب (Wonderland) الذي انتجه عام 2015 جرى ضمه في السنة نفسها إلى مجموعة متحفMoMA في نيويورك وعرض في معرض PS1 من أيار حتى أيلول. هذا الفيلم الذي يصف فرقة الراب الغجرية من استنبول تهريباد اسيان (Tahribad-ı İsyan)يتناول موضوعا عالي الحيوية بالنسبة للتنديري كفنان يسعى إلى تعزيز نشر أصوات الأقليات في أرجاء العالم، ومن قلب أحد أكبر الصدامات الثقافية للشرق والغرب في العالم. تصف أعماله سرديات واسعة للخلق والخراب وتشمل أيضا ماضي الغجر البيزنطي القديم في حي سولوكولي (Sulukule) وهم الذين يواجهون حتى اليوم العدوان الصامت وأحيانا المباشر للدولة عليهم تحت العيون الجشعة للبرجوَزة Gentrification.
89plus Marathon 2013: Halil Altindere's Wonderland
خليل التنديري، بلاد العجائب، 2015
التنديري معروض في استنبول من خلال "بايلوت"، وهو غاليري ناجح وجاد يقع في منطقة جيهانجير(Cihangir) في مركز المدينة، حيث كان يقطن الأديب أورهان باموك قبل أن يغادر تركيا قسريًا بسبب الملاحقات السياسية. ولا زال هذا الحي من الأكثر عصرية في المدينة على الضفاف الأوروبية للبوسفور. تم افتتاح الغاليري في تشرين الأول 2011 بمعرض التنديري: "اذا لم يكن بوسعي أن أرقص فهذه الثورة ليست لي" (If I Can’t Dance It’s Not My Revolution) والذي كان رينيه بلوك (Block) قيّما له. لقد حدد الغاليري التنديري " كإحدى الشخصيات الرائدة في الفن المعاصر التركي"، مضيفا إلى اسمه علامة تعجب. يتطرق عنوان المعرض إلى إعادة صياغة للشعار الذي وضع بإيحاء ايما غولدمان، الشخصية التاريخية الكبيرة التي قادت حركة حقوق العمال مطلع القرن العشرين وأنتجت للعالم الطقوس الثورية والترياق الثقافي المطلوب اليوم لمعالجة الأزمات العالمية للهجرة واللامساواة الجندرية.
استخدم الفنان في معرض "اذا لم يكن بوسعي أن أرقص فهذه الثورة ليست لي" فنون أزياء حملت كلمات جولدمان. وُضع عمل نحتي على شكل سيارة شرطة في داخل المعرض وكأنه عمودها المركزي. في معرض التنديري الثاني في الغاليري نفسه "الواقع في مكان اخر" (Reality Is Elsewhere، 2015) اشتمل عمل الفيديو "ملائكة جهنم" (Angels of Hell، 2014) على عرض خلاب لشخص يشبه أتاتورك وهو ينزل من طائرة مروحية. يمتاز التنديري بالمنهجية من حيث أحجام أعماله الكبيرة. مثلا العمل "ثلاثية ما بين النهرين"(Mesopotamian Trilogy، 2010-2007) يشمل مواضيع ذات وزن نوعي عالي مثل السدّين الخلافيين اليسو وبرجيك (Ilısu، Birecik). في القسم الأول دنجبيز (Dengbêjs)الذي يتطرق للتقاليد الكردية للحكواتيين، خطط لانقاذ سجين من سجن كاسل في ألمانيا لكن الجهاز القضائي رفض اقتراحه.
إن حجوم الأعمال الضخمة التي يروي التنديري من خلالها القمع والسلطة من خلال استخدام اللا منطق تطور بسرعة على امتداد عمله وصولا إلى الذروة التي فاقت جميع التوقعات: كفتة إيرلاينز (2016). هذا العمل الذي عرض للمرة الأولى في بينالي برلين التاسع كان بطلب من HAU1 كشراكة فنية مع غاليري بايلوت في اسبوع الفنون في برلين، في إطار مهرجان "جمالية المقاومة: بيتير فايس 100".2 لقد كان هدف المعرض تسليط الضوء على كتاب حمل هذا العنوان وصدر عام 1975 من تأليف بيتير فايس والذي ربط بشكل لامع بين النظرية الفنية وبين المواجهات التاريخية مطلع القرن العشرين.
HAU وجدوا خطوطا متوازية بين التنديري وفايس بوصفهما ذوي أسلوب تفكير متشابه اذ قاما بتفكيك النظام البطريركي والقومي السائد في الدول القومية المزيفة مثل تركيا.
يصور كفتة إيرلاينز بشكل تخيّلي المواجهات بين وجهات نظر مختلفة بالنسبة للأزمة: لافتة مع اعلان لسفرة بالطائرة تظهر إلى جانب مسار طالبي اللجوء الذي حدده الاتحاد الاوروبي والذي يمر في برلين، فيينا والجهة الغربية المكتظة من تركيا. وتظهر في الصورة وجوه الضحايا وهي مركبة فوق مبالغة كاريكاتورية لوجبة كفتة، والتي غذت الرحالة من أنطوليا إلى دمشق. لكن المغتربين لا يجلسون داخل الطائرة. بل انهم مكشوفون مرئيون بارزون دون أمن ولا خدمة ولا طعام. إنه صور مصغرة للعجز المليء بالمفارقات طوال سبع سنين لدى منظمات إنسانية فاسدة، وللحرب الامبريالية المستمرة لتوفير احتياجات أساسية لمغتربي القرن الحادي والعشرين ممن يواصلون المخاطرة بحياتهم في ركوبهم على جناح الطائرة (الساكن)، مدفوعين باليأس للهرب وهم على استعداد لمواجهة الرياح العكسية الباردة في طريقهم إلى الأعلى، نحو السماء الباردة والخاوية للكرة الأرضية.
فولتير سيدل، قيّم معرض "ما تبقى"، في Q21 creative space فيMQ فيينا
لقد عرض العمل كفتة إيرلاينز للمرة الثانية ضمن معرض جماعي في MuseumsQuartier، فيينا عام 2016. فولتير سيدل (Seidl) وهو قيّم مشارك للمعرض قال لـ Voice Republic: (التنديري) "أطلق بشكل ساخر اسم كفتة إيرلاينز على الطائرة ليس فقط في سياق وجبة الكفتة الشائعة في تركيا والشرق الأوسط، وإنما أيضا في سياق الاسم نفسه الذي يحمل في اللغة التركية أيضا معاني فظة".3 "إن الشيء الذي يتطرق له" كما يحاجج سيدل "هو سياسة الاتحاد الأوروبي وخصوصا سياسة السيدة ميركل خلال السنة الأخيرة، تسهيل قدوم المهاجرين الى شرق اوروبا. هذه السياسة سرعان ما ألغيت ويضطر كثير من المهاجرين اليوم للبحث عن مسارات أخطر للوصول إلى أراضي الاتحاد الاوروبي". يبدو أن الاستعارات التي استخدمها التنديري في عمله ما زالت راهنة وذات صلة، بالضبط مثل السفرة الطارئة لـ3,5 مليون لاجىء سوري طالبي اللجوء في تركيا.
قبل هذا، في كانون الثاني 2016، نشرت مقابلة نادرة مع التنديري أجراها كايا غنش (Genç)، وهو ناقد أدبي تركي ومؤلف الكتاب تحت جنح الظلام: عن الغضب والثورة في تركيا الحديثة(Under the Shadow: Rage and Revolution in Modern Turkey) في مجلة النقد الأدبي في لوس أنجلس (the Los Angeles Review of Books) قبل ذلك بفترة قصيرة قام التنديري بتحرير كتاب مؤلف من 664 صفحة بعنوان مرشد استخدام 2.0: الفن المعاصر في تركيا 1975-2015.4 بدأ غنش المحادثة الثلاثية التي ضمت أيضا الناقد الفني والمنظر ما بعد اللا سلطوي سوريه افرين (Evren) بالاشارة الى عدد من الاعتقالات السوريالية وسائر الممارسات المعيبة ملخصا ذلك بالقول "... إن الحياة تحاكي الفن 24 ساعة يوميا". وهو يعزز بذلك ما تعلمه زملائه الأجانب عن استنبول – فكثيرا ما تكون الغاليريهات الصغيرة هي المكان الذي يشعر الأتراك فيه بحرية أكبر للتعبير عن مواقف لا يمكن أبدا أن تظهر في وسائل الإعلام. على نحو محدد فإن المسارات البديلة لفناني تركيا في طريقهم للاعتراف المهني تعكس المسارات التحت أرضية التي تزداد صعوبة على المهاجرين وهم في طريقهم من الشرق الأوسط إلى الاتحاد الأوروبي. وكما قال التنديري في ختام محادثته مع غنش سنة 2016، "إن المشهد الفني المعاصر في تركيا بدأ يمر سيرورة دولية في التسعينيات الأولى. الأمور تجري على النحو التالي: بداية تنبثق في تركيا ولاحقا تحظى بالاعتراف في اوروبا".
خلال العرض الثالث لكفتة إيرلاينز، الذي أقيم في اوزنبروك في ألمانيا بعد تغيير موقع بينالي تشاناكالي (Çanakkale)الذي ألغي اثر الانقلاب الفاشل في تموز 2016، خطا كفتة ايرلاينز نفسه في مسار مشابه لدرجة مثيرة للقشعريرة للمسار الذي شكل موضوعا له – من ألمانيا الى تركيا وبالعكس على امتداد مسار متعرج من التوقعات الممزقة. منذ أن عرض للمرة الأولى واجه العمل متشككين تساءلوا عن وضع لاجئين حقيقيين على سطح مطعم أوتشاك (Uçak)، مطبخ كرات اللحم في طائرة ايرباص خارجة عن الاستخدام.5
ألفر توران حول عمل خليل التنديري
التنديري قل ما يعطي مقابلات، وهذا على الرغم من أنه بعد عرض كفتة ايرلاينز قد تحدث عن طابع عمله كمقولة سياسية. في أيلول 2016 ، في مقابلة للصحيفة المحلية البرلينية الصادرة بالانجليزية اكسبرلينر (Exberliner) قال لمراسلة الشؤون الفنية أمندا ريباس توجويل ( Ribas Tugwell): "حين دعيت لتقديم معرض فردي في NBK أردت تناول أزمة اللاجئين. بعد ذلك تلقيت الدعوة من HAU فعرضت عليهم كفتة إيرلاينز، وعندها تلقيت أيضا الدعوة من بينالي برلين فقررت الجمع بين كل الأعمال. في "وطن" (Homeland، 2017) هناك تطرق لـ كفتة إيرلاينز. وحين كان مغني الراب والناشط السياسي ابو حجر (Abu Hajar)في استنبول عرّفته على محمد فارس (رائد الفضاء السوري) الذي كان بين أوائل من شاهدوا العمل. وقد أحبه فعلا وقال لي بعينين دامعتين إنه يوافق مع أبو حجر مضيفا 'نحن لدينا وطن ويوما ما سنعود'".
- 1. Habbel Am User
- 2. "The Aesthetics of Resistance: Peter Weiss 100" – كانت للعمل صيغ داخلية وخارجية في HAU, فضاء عرض محاذٍ لـ (n.b.k. (Neuer Berliner Kunstverein, الذي عرض عملا بموضوع مشابه للتنديري – إنشاء الفيديو الشهير "لاجئ فضاء" (Space Refugee,2016), الذي يستند الى رائد الفضاء السوري محمد فارس (Faris).
- 3. ربما أن سيدل يتطرق الى الكلمة التركية "köftehor" وربما تترجم كت"متسوّل محظوظ". كذلك، معنى كلمة "köfte" بالفارسية هو شخص تلقى صفعات أو ضربات.
- 4. Halil Altindere and Süreyyya Evren (eds.), User's Manual 2.0: Contemporary Art in Turkey 1975-2015, Berlin: Revolver, 2015.
- 5. هناك من شككوا في أصالة العمل، واشتبهوا أنه معمول بالفوتوشوب. بالمقابل، فإن غاليري بايلوت دافعت عن حقيقية العمل وأصالة التنديري من خلال عرض فيديو عن إعداده في معرضه الفردي "أهلا وسهلا في الوطن" (Welcome to Homeland) خلال بينالي استنبول الـ 15 في أيلول 2017.