سمير السالمي: فنّان البحر

تقدّم المقالة قراءة في منشأة فنيّة عملاقة على واجهة بحر الجنوب للفنان المغربيّ سمير السالمي، وهي منشأة يعرضُ فيها الفنان عمله أمام البحر ضمن تصور فنّي مبتكر تندمج فيه اللوحة داخل مشهد الشاطئ، وبرفقة الأطفال يبتكرُ لوحة ترمز إلى تضخم مخلفات البلاستيك التي أصبحت تهدد البيئة البحريّة.

 

سمير السالمي هذا الفنان الشاعر الذي جعل من البحر لوحة وقصيدة في آن واحد، هو أساسا صانع منشآت صرحية (Installations monumentales) ومحقق إنجازات تشكيلية (Pérformances Plastiques) ركبها وأقامها، بشعرية بالغة، داخل أروقة العرض في الرباط وباريس وأوساكا أو على ضفاف نهر السين كما فعل في منشأته "الأروقة الصهاريج" (Les galeries aquariums) بشمال فرنسا1 أو على واجهات البحر كما فعل مؤخرا في منشأته الفنية العابرة (Installation Éphémère) بشواطئ جنوب المغرب، هذه المنشأة الفنية العملاقة الجديدة التي هي محور تركيزنا و اهتمامنا هنا.

البحر داخل العمل الفني

انتقل الفنان سمير السالمي في تجربته الجديدة إلى عرض أعماله الفنية الكبيرة الحجم أمام البحر مباشرة، ضمن تصور فنّي مبتكر أدمج اللوحة الفنية داخل مشهد الشاطئ المتموج الحي، واستفاد الفنان من رياح جنوب المغرب في تحريك موجة شرائط البلاستيك التي صنعها وركبها بمعية الأطفال كرمز لتضخم مخلفات البلاستيك التي أصبحت تهدد بشكل خطير الأحياء البحرية ومجمل بيئتنا الطبيعية.

لوحات ومنحوتات من بقايا البحر ومن مخلفات البلاستيك

أنجز الفنان سمير السالمي أعماله مما جمعه من عظام الأسماك وأشواكها ومن محار وطحالب وقواقع ورمل وملح، ثم أضاف إليها هذه المرة كعنصر جديد هو مخلفات البلاستيك من علب وأكياس وقنينات، وهو تركيب فنّي منسجم نفذه السالمي على شكل دوائر كبيرة مفرغة من الداخل بشكل يسمح بالتقاط الصورة المندمجة للبحر في العمل الفني، والتفرج على تبدل مشهد الشاطئ بين شروق وغروب، وصباح وليل، وصخب وهدوء.

ورشة اشتغال على البلاستيك لفائدة أطفال الشاطىء

عندما قدّم المنشأة العملاقة، فتح الفنان سمير السالمي ورشة تشكيلية لفائدة الأطفال ضمن شعار "بحار بلا بلاستيك"، الذي أعلنته مؤسسة محمد السادس لحماية البيئة كهدف لحملتها لتنظيف الشواطئ وتحسيس المصطافين بأخطار البلاستيك، وتكريس الوعي بضرورة ترشيد التعامل مع هذه المادة الكيميائية باتجاه ما يلبّي الحاجيات الملحة الضرورية ويقي بيئتنا ما أمكن من أضرارها السلبية، وتوج الأطفال ورشة المسترجعات البلاستيكية بالمساهمة في تشكيل موجة البلاستيك من شرائط وقنينات وعلب.

موجة متحركة على إيقاع الأمواج والأنسام الرطبة المالحة توج فنان البحر صحبة الأطفال بها منشأته البحرية ذات القياسات الكبيرة والأبعاد الفنية والتربوية والبيئية المتعددة.

استمر عرض المنشأة العابرة (Installation Éphémère) خمسة عشر يوما، ليلا ونهارا أمام البحر، وهو إنجاز فني غير مسبوق يدل على قوة وصلابة هاته الأعمال الإبداعية التي صمدت أمام بحر وشمس و رياح الجنوب.


وقت الغروب.jpg

وقت الغروب، منشأة فنيّة لسمير السالمي، 2019 تصوير: لطيفة لبصير
وقت الغروب، منشأة فنيّة لسمير السالمي، 2019
تصوير: لطيفة لبصير


فنان البحر والبيئة البحرية

بإمكاننا أن ننسب عمل سمير السالمي إلى الفن التصوّري الحديث (Art conceptuel moderne) أي الفن القائم على الفكرة  (Le concept) وعلى رؤيا خاصة منها وفيها وعبرها تجد اللوحة والمنحوتة أبعادهما الفنية والجمالية والتقنية، ضمن غاية إبداعية بيئية بحرية، ما تفتأ تتأكد عبر مسار ثري من الإبدالات والتحولات، غنيّ بالأساليب والتقنيات. مسار لا يخطئ، من زاوية نظر مركزة، أبعاده الفنية الموضوعية.

وفضلا عن تشكيل أعمال من بقايا الأسماك، عمد سمير السالمي في أعماله داخل القاعات إلى استحضار أجواء البحر إلى تنفيذ لوحات صباغية قياسية شفافة على الواجهات الزجاجية لمعارضه في المسرح الوطني محمد الخامس بالرباط2 وفي قاعتي برنانوس و سانتوز بباريس على سبيل المثال.3 و ترك السالمي لهذه اللوحات الشفافة تنويع ألوانها ونغماتها Tons بحسب كثافة وضحالة أضواء الليل والنهار. وانتقل سمير السالمي من المنشأة العابرة الى الإنجاز الفني (Performance artistique) حين استدعى أصوات وأضواء وعبير البحر، وفرش الملح والرمل لفرق تعبير جسدي جاءت لتشخص أصداء و تموجات الأعماق البحرية. وجعل السالمي من قاعات العرض ركحًا لسينوغرافيا تآلفت فيها الموسيقى والرقص واندمج فيها الزوار مع الأعمال و الأنوار والأصوات والعبير.4

وكان جديد سمير السالمي الاستعراضي الباهر أن نقل هذه المرة، الآخرة و ليست الأخيرة، العرض الفني ذاته الى الفضاء الواسع الطلق إلى واجهة شواطئ الجنوب و صحب معه الأطفال في تجربة تشكيلية بيئية لافتة فارقة.5

من هنا، صح أن ننعت، سمير السالمي، فنان البحر والبيئة بامتياز.6


رؤية من جنب.jpg

رؤية من جنب، منشأة فنيّة لسمير السالمي، 2019 تصوير: لطيفة لبصير
رؤية من جنب، منشأة فنيّة لسمير السالمي، 2019
تصوير: لطيفة لبصير


الاشتغال على شاكلة الطبيعة

من وجهة نظر إمبريقية (Empirique) صرفة، يمكن أن نتوقف عند خصوصيات اللوحات الصباغية، التي اختار لها سمير السالمي عنونة "الاشتغال بطريقة الطبيعة" أي بعفوية نظام فوضاها المحسوبة وغير المحسوبة، وهي تقنيات تنطلق مما انتهى إليه مبدع كبير للطرائق الفنية الاصيلة، ورائد فريد للتوجهات التشكيلية الطلائعية مثل بابلو بيكاسو الذي كان يرى "أنه لا ينبغي محاكاة الطبيعة بنقل مناظرها وبالوفاء لتفاصيلها، بل بمحاولة الاشتغال على شاكلتها" أي بأسلوب خلاق متدفق حرّ يعيد في كل مرة تنظيم الفوضى بشكل مباغت، لا متوقع وباهر.

من هنا، وضمن امتداد أبعاد مقولة الفنان الاسباني الاندلسي، جاءت أعمال السيولة والدفق الصباغي لدى السالمي، حرة منسابة، غنية بالتشاربات اللونية والتفاعلات المشبعة بالأضواء والظلال والأخاديد واندمجت هذه اللوحات من خلال إوالياتها الفنية في الأعمال الكبرى لفنان البحر.


تفصيل.jpg

تفصيل، منشأة فنيّة لسمير السالمي، 2019 تصوير: لطيفة لبصير
تفصيل، منشأة فنيّة لسمير السالمي، 2019
تصوير: لطيفة لبصير


نحت وصباغة بعناصر بحرية

شكل سمير السالمي أعماله النحتية الصباغية مما التقطه من ملفوظات البحر، أي من مادة عضوية حيوانية، استطاع بلمسة الفن نقلها من الإهمال والتحلل على صخرة شاطئ منسي، إلى التمكين والتثمين داخل قاعات عرض مميزة وأروقة فن رفيعة وطنية ودولية.

تلك فلسفة كاملة قائمة بذاتها، تقضي باستثمار المتاح حتى أبعد الحدود، وإعادة تدوير المهمل الفاني وإبداع الجديد المفيد من الهالك الضار.

لمسة فن هي معبر الابداع من القمامة الى صالون العرض، شأن ما فعل السالمي بمخلفات البلاستيك الكيماوية وببقايا السمك الحيوانية وخميرة الورق من الملح ومسحوق العظام والقواقع في منشأة بحر الجنوب.

 

au montage de l'oeuvre.JPG

أثناء تحضير العمل، منشأة فنيّة لسمير السالمي، 2019 تصوير: لطيفة لبصير
أثناء تحضير العمل، منشأة فنيّة لسمير السالمي، 2019
تصوير: لطيفة لبصير


ورق وقماش من ابتكار الفنان

لم يكتف سمير السالمي بالصياغة المتفردة لأعماله من بقايا المحيط البحري ومخلفات الاستهلاك البشري للقواقع والأسماك، بل إن أسندة (Supports) هذه الأعمال من ورق وقماش كانت من صنع الفنان، الذي عمد إلى تشكيل عجين من خميرة الملح والورق والقماش والماء أضاف إليه مسحوقا من الطحالب والقواقع وعظام الأسماك وأليافا من صمغ النخل والشجر والنبات. عمل معمليّ تجريبيّ تبلور إلى لوحات ومنحوتات غريبة الشكل فريدة الإيحاء، حصدت اهتماما وتتويجا وأصداء في منتديات الفن بفرنسا وأوروبا من خلال المعارض المتجولة لمركز لقاء الفنانين وهواة الفن بباريس.7 واستحقاقات فنية بيئية في المغرب و اليابان.

واجهات الشعر والفن

فنان البحر والبيئة البحرية، فنان المنشآت الصرحية الكبيرة، اللوحة والقصيدة في آن واحد. أعمال سمير السالمي واجهات إبداع يفتحها على البحر، ويطل منها على تلألؤات النور على سطح الماء المتموج بإيقاعات الريح، ومنها يشرئب إلى تناغمات ألوان الأفق البحري وهو يودع شمس المساء في قرارات من الرمل و الملح و الطحالب، عميقا، حيث تستقر فكرة ما تفتأ تشرق من جديد بأنوار فريدة، لوحة أو قصيدة ، نبر وإيقاع، تلوينات فاتنة من تناغمات أحمر و بنفسجي وأزرق.

 

  • 1. "الأروقة الصهاريج" وهو الإنجاز التشكيلي الذي استحضر فيه الفنان أجواء البحر عبر ثلاثة أروقة فنية نصبت على مرفأ "إيفري سيرسين ivry-sur-seine" بضواحي باريس، وهي رواق أجواء الأعماق ورواق أجواء السطح، ورواق الموج الهائج. وكان ذلك سنة 1999.
  • 2. وهو المعرض الذي سماه الفنان ب"أجواء الحرية" وعرض فيه أعماله داخل أحواض من الملح واستدعى المؤثرات البحرية الطبيعية من أصوات الريح والهدير وعبير البحر. فضلا عن اللوحة الشفافة القياسية التي عرضها على الواجهة الزجاجية للمسرح الكبير (لوحة من 400 متر مربع)، وقد حصل سمير السالمي على جائزة الحسن الثاني للبيئة في الفن والأدب سنة 2001 عن عمله هذا.
  • 3. معرض قاعة برنانوس (bernanos) محيطيات 1 سنة 1988، ومعرض قاعة سانتوز محيطيات الثاني 2 بباريس سنة 2003.
  • 4. نشير هنا بشكل أخص إلى معرض "محيطيات الأول"، الذي استدعى له السالمي المؤلف الموسيقي كي كاسكالي (Guy Cascalés) وفرقة السربون السادسة للتعبير الجديد، وهيأ كي كاسكالي موسيقى للأعماق البحرية بينما اشتغل السالمي على تصميم رسوم لسينوغرافيا وملابس العرض الراقص.
  • 5. سبق لسمير السالمي أن فتح ورشات فنية بيئية للأطفال، ولأطفال الملاجىء والأطفال المعاقين. وكان جديد ورشة البحر الأخيرة هو الاشتغال على مسترجعات البلاستيك عند قدم المنشأة العملاقة.
  • 6. فنان البحر " artiste de la mer" هو اللقب الذي أطلقته مديرة رواق الفنون الجميلة بباريس، السيدة هلين فيل فور (Hééne ville-fort) على سمير السالمي منذ معرض: "محيطيات الأول"، وهو اللقب الذي كرسته فيما بعد مجلة: "نظرة" على البحر الفرنسية magazine: vue sur mer.
  • 7. عديدة هي المعارض التي شارك فيها سمير السالمي باعتباره عضو في مركز لقاء الفنانين وهواة الفن بباريس (centre de liaison des artistes et (amateurs d’art برئاسة الفنانة (solange sontag) سولانج سونطاج. وقد حصل السالمي على جوائز متعددة من خلال النشاط الفرنسي الأوربي منها جوائز الفن الحديث من مهرجان مدينة كان Cannes بفرنسا ومهرجان مدينة bruges بريج ببلجيكا.