
كلاهما مفهومان يتحول أحدهما إلى معضلة تلازمنا طول الوقت، تارة بسلاح الضمير وتارة ببندقية الذنب. كلاهما مختلف من حيث نقطة الانطلاق؛ إذ تكاد الذاكرة تكون سطحية وجماعية، مع اندفاع الناس نحوها بشكل مكثف، في محاولة للحفاظ عليها قدر الإمكان لفترة أطول، كونها قاعدة ثابتة وأقل تكلفة، وتحمل ألمًا واضحًا ومستقرًا، على عكس الألم غير المتوقع المصاحب لمحاولة النسيان.
المفهومان رفيقان دائمان في حياة الإنسان اليومية ويشكلان معًا صورة متكاملة للتجربة البشرية نفسها. فالذاكرة تمنحنا البقاء والانتماء إلى ماضٍ أو حاضر بينما يتيح لنا النسيان فرصة التخلي لصالح التجديد. وهما عملنا الشاق واليومي الذي يبدأ بتذكر الأمس صباحا وينتهي بمحاولة نسيانه في المساء.
الذاكرة المتعددة
للذاكرة اتجاه واحد، يتمثل في قدرتها النوعية على الاسترجاع، والاسترخاء في لحظات التخزين، ودمج ما أمكن من شتى الزوايا التي تنطلق منها المعلومة أو الحدث الشعوري أو التاريخي. بينما تجلس رفقة اصدقاء من ثقافات مختلفة وتستمع لرؤيتهم ومواقفهم يخطر في ذهنك سؤال: هل تعيد الذاكرة الصياغة؟ ربما نعم، فلولاها لما وجدنا السياقات والاستنباطات المعرفية المختلفة لدى بعضنا، فالرواة الكثر يأتون من ذاكرة واحدة، ومن معلومة واحدة مُسترجعة بطرق مختلفة، القصص أيضًا تخرج من مكان واحد، مهما اختلفت نهاياتها، فإن البطل واحد، وهو الذاكرة التي تترك للمتلقي أن يجعل منها أسطورة خير أو ملاذاً للشر. دائمًا ما أرى الإنسان وليد ذاكرته التي تشكل رؤيته للماضي والحاضر وربما للمستقبل. هذه الذاكرة قد تتحول إلى صديق السوء باندماجها في الذاكرة الجماعية الثقافية للمجتمع، مما يجبرنا على الخوض في معتركات الجمع التي نتناسى بها ذاكرتنا الفردية ورؤيتنا المختلفة. الذاكرة الشخصية، التي كانت فيما مضى مصدرًا للرؤية والتشكيل الذاتي، قد تتلاشى أمام القوة الطاغية للذاكرة الجماعية.
النسيان ذو الوجه الواحد
كلما سمعت كلمة "النسيان"، أستحضر في ذهني المثل الشائع "النسيان نعمة"، لكن النِعم لا تُعطى كهدايا، ولا نُولد بها. فالنسيان هو أصعب المهام التي نواجهها في يومنا وسنتنا، وهو عملنا التاريخي المؤجل والمتراكم منذ بداية البشرية. حتى مع تقدم وسائل التواصل والعلاقات الاجتماعية اليوم، لا نزال نؤجل هذه المهمة ونزيد من تراكمها.
أتذكر حديثاً دار بيني وبين صديق أراد أن ينسى شيئاً، فقال لي: "كم أتمنى أن أمحو ذاكرتي وأحطمها". بهذه الصرامة بدا لي موضوع الذاكرة مقابل النسيان، حيث كنا نعتبرهما دائماً نقيضين في كل السياقات. ولكن كلما اقتربنا من فهمهما، اكتشفنا أن الذاكرة هي ما وُلدنا به، بينما النسيان هو ما يجب أن نخلقه. هذا التداخل، سواء كان سهلاً أم صعباً، لا أفضّله وهو ما يجعل الأمر معقداً بالنسبة لي.
نفهم هذا بشكل متأخر في محاولاتنا الأولى، عندما نقرر عدم إرهاق أنفسنا بمحاولة خلق النسيان، ونكتفي بالذاكرة التي وُلدنا بها. الذاكرة تتحول بمرور الوقت إلى سجن، ولا شك أن قوانين هذا السجن صارمة. لكل سجين استثناءاته الخاصة، لكن الذاكرة تجعلنا جميعاً أسرى لتجارب ماضية تصبح مع مرور الزمن أكثر تعقيداً لعقولنا.
والغريب في الأمر هو عندما يخطر ببالك أن السجن قد يكون أفضل من النجاح المفرط والمفاجئ في جرعة نسيان، كأن تصاب بمرض الزهايمر.
اختلاف الذاكرة بين الشعوب والثقافات
كل قضية تتناول الذاكرة التاريخية والحاضرة كمبدأ وجود وهوية وطنية. والنقيض لهم على الجانب الآخر لا يختلف عن هذا التناول، فيجد بذاكرته إرهاصات هويته وشخصيته. الاثنان ينظران إلى الأمر من السياق التاريخي والأخلاقي المتداول، وينجح كلاهما في سياقة الذاكرة من منظور التقاليد والأعراف القديمة. تلك التقاليد التي يسمونها "تداولت"، بينما هي وصلت عبر الذاكرة الجماعية التي ترفض الانفراد بنفسها مع الفرد وتفضل اللحاق بالمجتمع كصورة واحدة، على عكس النسيان المنفرد بهويته الشخصية والرافض لسياسات الجماعة. فعندما تتحدث عن قضية ما بتجرد من الذاكرة الجماعية، يقاطعك أحد ليقول معترضاً: "إن كنت نسيت، أنا لم أنسَ". هذه هي حقيقة الأمر؛ النسيان ذو جانب واحد وكل ما يتعلق به يعتبر شخصياً.
الذاكرة الجماعية تمنح شعورًا بالانتماء والمحافظة في الوعي الوطني، بينما يسمح النسيان بالتجديد والانفتاح على عمليات جديدة. وبالتالي، فإن الحوار بين الذاكرة والنسيان لا يعكس فقط تعقيدات المجتمع، بل يشكل أيضًا أداة للنقاش حول الطريقة التي نرى بها تاريخنا، حاضرنا، ومستقبلنا كجماعة.
في أي سياق يختلف الشعب ألف عن الشعب باء في تناول الذاكرة؟
أرى هنا طرفًا يغرق في ذاكرته لتأكيد الإيديولوجيات والتملص من ذاكرة الآخر، بينما يستخدم الآخر هذه الذاكرة لتأكيد مظلوميته وأسبقيته، أو لإبراز عراقة هويته ثقافيًا وتاريخيًا، مهما كانت. كما لو أن الذاكرة هي لعبة يستخدمها البشر كأداة للفرض والتعبير والمحاكمة. دائمًا ما نجد سؤالًا على وجوه الآخرين يخجلون من طرحه، بينما نطرحه نحن في الغرف المغلقة: لو أن هناك شعبين متقاتلين قررا أن ينسيا، هل من الممكن حدوث ذلك؟ وإذا كان ممكنًا، فما هو بديل ذاكرتهم؟ يتبادر إلى ذهن من يفكر في الأمر أن البديل هو الحاضر، ولكنه يعتمد على الماضي وعلى رؤيتهم للمستقبل، وكلاهما يأتي من خلفية الذاكرة.
يبدو الأمر عبثيًا في محاولة التجاوز؛ فلا يتعافى أحد من ذاكرته. هل يمكننا اعتبار النسيان كبديل هنا؟ ربما يستطيع النسيان فعل ما لا يُتوقع، لكن ذلك يصبح مستحيلًا عندما يتعلق الأمر بالجماعة، خاصة عندما يرفع شعبان أو طرفان متضادان شعارًا واحدًا مثل "كي لا ننسى". هذا الشعار يُعتبر رافضًا ويعبر عن غرق في ذاكرة مثقلة بالأعباء تجاه نفسها وتجاه الآخرين، مما يجعل الأمر عبثيًا فوق عبث الذاكرة.
ما هي طبيعة الذاكرة التي تحكم المتضادين؟
يبدو الأمر للوهلة الأولى تنافسياً إلى حد ما بين الروايات وتعزيز الانقسامات وتبادل العداء المفرط بقنبلة الذاكرة التي تنفجر فجأة. لكن، هو أبعد قليلاً من ذلك وأبعد من أن يتحول الأمر إلى الذاكرة الانتقائية القائمة على العمل بالأجندات المعينة وإظهار التناسي والتجاهل للأحداث والمواقف والآليات الأخرى. بل، الذاكرة التي ستحكم ستكون ذاكرة الصراع وهي الهوس بالآخر وآلامه، والسعي خلف تكذيبها وتوثيق ما هو أكثر إيلاماً منها. على الجانب الآخر بإمكاننا اعتبار التفنيد هو أول عمل لتحقيق نسيان مشترك متمثلا بالاعتراف بتجربة الآخر وبناء ذاكرة مشتركة عليها جنباً إلى جنب. توحيد ذاكرة واحدة قائمة على تصور جديد للأحقية ورغبة بالتخلي والتقاسم، وهو ما لا يمكن لشعبين متضادين يحملان شعاراً واحداً مثل "كي لا ننسى". وهناك النسيان التدريجي الذي تُفرزه العاطفة كآلية دفاعية، تتيح مواصلة الحياة دون الغرق في المآسي. وهذا ما نفعله في علاقاتنا العاطفية والشخصية ونتعامل به مع كل ما حولنا، وهذا حل ممكن، لو كانت ذاكرة الشعوب تمتلك عاطفة أساسًا. لكن الذاكرة والنسيان جماعيا غالبًا ما يكونان تصرفان غير واعيين تحركهمי الرغبات الدفينة والتطلعات مختلفة. ويؤثر بهما كل التفاعلات الداخلية وكل حدث خارجي، وهذا ما يجعل النسيان معضلة تجعلنا في نهاية المطاف ننسى ما لا نريد نسيانه، ونتذكر ما كنا نسعى لنسيانه.