إن الاسم الذي يُطلق علينا هو نوع من الهوية، وهي تُفرض علينا عادة من قبل أهلنا. فعل التسمية يسعى الى خلق تلاؤم بين ما سوف نكونه مستقبلا وبين ما يأمل من أعطوننا الاسم أن نكون عليه. ينسب اسمنا الينا أحيانًا صفات شخصية أو صفات جسدية محتملة. وفي احيان اخرى هو ليس أكثر من شاهد قبر اختياري لشخص رحل عن الحياة، أو، الأسوأ، شاهد لشيء (ربما لا يُطاق أيضًا) تم فرضه علينا بسبب التزام ثقافي، تقليدي، أو ديني. هناك مَن يرى علاقة وثيقة بين كينونة الشخص العميقة وبين اسمه؛ هناك من يشعرون بالعكس التام لذلك. إسمنا، بعد منظرنا الخارجي، يقدّمنا فورًا ويمثّلنا. هكذا نعتقد على الأقل. إنه جزء من ذاتيتنا التي يُفترض أن تميّزنا عن آخرين، أن تخلق اختلافًا، أن تؤشر على فردانية. ربما يوجد في مجتمع محدود معنى للأسماء الشخصية وأسماء العائلة، وحتى هنا بالكاد، ولكن كلما كبر المجتمع كلما فقد الاسم من قدرته على تحديد إنسان معيّن. عندها نحتاج الى أرقام، رموز، بصمات أصابع وما شابه. إن اسمنا، كما يتضح، لا يكفي لتحسين تجربة التجوال في العالم. سأقولها بحذر: صحيح أن اسمنا، مثلما في الحالات التي يُطلب منا كتابة رمز يفرّقنا عن الآخرين، يشير الى هوية محددة، ولكنها ليست قوية بشكل خاص.
"شاؤول" هو اسم معرض شاي ايغنتس بورشات الفنانين في تل أبيب. هذا أيضًا جزء من اسم ايغنتس – إسمه الأوسط كما اتضح لي. الاسم الأوسط كان نادرًا جدًا في نواحينا حتى قبل فترة وجيزة، ولو كان لظل مخبأ بالتأكيد. مؤخرًا، يبدو لي أن الاسم الأوسط صار أكثر شيوعًا وظهورًا. لدى ايغنتس كان الاسم الأوسط ولا زال مخبأ، ولا يظهر سوى في التسجيلات البيروقراطية. لذلك فمن المفاجئ جدًا ظهوره الآن في عنوان معرضه، لامعًا بعزلته ومقطوعًا عن هويته النحوية، الشخصية والعائلية – "شاي ايغنتس". هناك أمر أخّاذ في الاشارة الى اكتشاف نحوي جديد، "شاي شاؤول ايغنتس"، مثلا. لكن ايغنتس يدع اسمه الأوسط يطلّ وسرعان ما يخبئه ويتراجع، يدعه يومض كعنوان قبل أن يتلاشى. هذا اختيار لدال مستتر (شاؤول) ومدلول ظاهر (شاي شاؤول ايغنتس). وهذا بالضبط ما يتحدث عنه ايغنتس. او ما يصوّره.
يتألف المعرض في ورشات الفنانين من فيديو في طابق أول، بينما في الطابق الثاني صور بحجم مماثل مثبتة في صفّ واحد على الجدار، بارتفاع متماثل وبمسافة متماثلة بينها. خلافًا لمعارض سابقة لايغنتس، فإنه تكاد تنعدم هنا البورتريهات بمعناها الحرفي. وفيما عدا بورتريه واحد، سائر الأعمال هي صور تعرض جانيرات من أنواع مختلفة؛ صور مواضيع – صندوق كرتوني تم تكبيره بالطباعة الى حجم تابوت، علبة مناديل ورقية تم تصويرها وطباعتها بوضوح إعلاني حاد؛ صور لأوضاع ركيكة على حدود الخواء – نمر في حديقة حيوانات مهملة في باريس؛ طبيعة حضريّة – ورود في مزهرية؛ معمار – باب زجاجي مقفل؛ صور رحلات – مقطع من شارع تعرض للاحتراق؛ وفي صورة الطبيعة الجامدة – كاسات هواء.
أنظرُ الى الصور وأفكر في "شاؤول"، اسم المعرض، وبعد ذلك أفكر بالفعل باللغة العبرية. معناه بالعبرية "ما تم أخذه بشكل مؤقت بنيّة إعادته". وأفكر أنه في حين يحمل الفعل الذي يتطرّق الى مهنة التصوير باللغة الانجليزية معنى الأخذ (أو بتصريفه taken أخِذ، خُطِفَ) وهو فعل عنيف، اقتحامي، تسلّطي؛ فإن نيّة ايغنتس في هذا المعرض هي فعلا الاستعارة، خلافًا للأخذ، وبالطبع خلافًا للخطف. أمامنا كثافة مخففة جدًا للوعي من ناحية ايغنتس، وهي كثافة تنجح برأيي في جَسر الفجوة ما بين آلة التصوير وبين موضوع الصورة؛ تضعف "البرودة التقنية" للصورة؛ وتنشئ تداخلا واختلاطا – في الانعكاسات – ما بين البيئة والمصوّر، ايغنتس، في الصورة نفسها.
تختلف الصور في المعرض عن بعضها البعض، وليس لها قاسم مشترك، موضوعيًا واجتماعيّا، مثلما في معارض سابقة (مثلا، نساء فيتسو، الذي عُرض في معرض "صالون" في جناح هيلينا روبنشطاين عام 2010، أو "السيد لاري" عام 2012). الاختلاف الفكري والتغيّرات الحادة لمقاييس ما يتم تصويره، تجعل الصور هشّة ولا تبحث عن عامود فقري منتصب. هذه صور لا تحتاج شيئًا ليوحّدها. قوة كل صورة تنبني منها ذاتها، قياسًا بسائر الصور وقياسًا بالمعرض بأكمله. القاسم المشترك في المعارض السابقة، إصرار ايغنتس وتطبيقه بوضوح فكري حاد، ينتمي الى عالم الأخذ (taking). هذه الفكرة املت على الدوام خطًا فعّالا: إيغتنس يتوجه، يطلب، يحلّ ضيفًا لدى من يصوّرهم لكي يأخذ منهم الصورة التي يرغب فيها. قسم من هذا كان عمل الاخراج الدقيق.
في المعرض الحالي، مقابل التنازل المبدئي عن إخضاع التصوير لخط فكري واحد، يتوجه ايغنتس لتصريح مفاده: الاستعارة. إنه غير مطالـَب بنيل موافقة المصوَّرين (ما عدا واحد وأولئك الظاهرين في الفيديو). بل يمكنه ببساطة أن يسأل، يتساءل. إن قرارا مبدئيًا من هذا النوع يؤدي الى حلحلة أطراف بحرفة التصوير، وبالتالي النتائج الناجمة عنها أيضًا. إنه يسمح لمقاييس منسوبة تقليديا الى الكيمياء بأن تظهر في النتيجة – أي، في الصورة المطبوعة: مثلا، تجربة وخلل النظرة المولّفة بواسطة عدسة تسقط على فيلم بدرجات انكشاف ضوئي متفاوتة. أو التواجد غير المفصول، بالمصادفة، للضوء وانعكاسه. مثلا، يمكن في إحدى الصور أن تسبح الأسماك الذهبية وأن تجرّ خلفها خطّ انكشاف ضوئي طويل وذهبيّ، في فضاء غير واضح، على خلفية شجرة نخيل، وهكذا يمكن لصورة شارع وحجارة رصف أن تكون انكشافًا ضوئيًا مسرفًا – "حفرة باهرة من اللاشيء"- أكثر منها هوية عينية: "شارع". بكلمات أخرى، تصوير ايغنتس في المعرض الحالي يتسلل للخلف، بشكل واع وبواسطة تصوير رقمي يمكن العودة الى أصول التصوير، الى عتمة الغرفة، والى رائحة عبق الكيماويات. إنه يعود الى درجة من اللامتوقع، الى بهجة رومانسية للحظة حاسمة. أعتقد أن التحرر الذي يجمع الحرفة مع اختيار ايغنتس هو اللحظة التي يمكن للـ"شاؤول"، الذي يشكل قسمًا من هوية مكتومة، أن يطلّ ويظهر.
أما في الجزء الثاني من المعرض، عمل الفيديو المعروض، فربما ينكشف ايغنتس أكثر فأكثر أمام أعين المشاهدين. حيث توجد قيمة مضافة لحقيقة أن هناك بعدًا زمنيًا؛ فالفيديو يمكّن ايغنتس من أن "يكون هناك"، أن يدع هويته، بمستوى المرئيّة الفورية، تطفو أمام أنظارنا كجزء من خيط حبكة واه قام بنسجه. إن القصدية الكامنة خلف الفيديو تشبه تلك التي وصفتها بخصوص معارض سابقة لايغنتس؛ فهو يتوجه الى شخص، غريب الى حد ما، طالبًا منه تصويره في بيته. ومرة أخرى يتم تشغيل منظومة يقوم الفنان منها بفعل طفيلي باسم الفن. شخص وكاميرا يطلبان، بإذن طبعًا، انتهاك خصوصية شخص آخر. الأمر لا يروق للآخر، كما يشهد على هذا بنفسه، الى أن يرضى في ختام مفاوضات. ربما خلافًا لأعمال سابقة، يكشف الفيديو في المعرض الحالي ايغنتس، على الأقل، بنفس قدر انكشاف ذلك الشاب، موضوع الصورة. فيديوAurelien, 2015) ) يتناول حرج المصوِّر بما لا يقل عن حرج المصوَّر. يوجد في هذا الانكشاف ما يحوّل هذا الفيديو الى عمل ناجح جدًا. فيه درجة من التخفّف من ممتلكات ايديولوجية لراو يعرف كل شيء ومن دوغمائية ثبات نقطة النظر. يمكن لنقطة النظر ان تتشوّش، مثلا، حين نرى الكاميرا في الجزء الأيمن للمشهد "تطأطئ رأسها" مرة تلو الأخرى، حين يقوم المصور بفحص النتيجة، على شاشة في خلفية الكاميرا. حضور المصوّر ملموس أيضًا حين ينعكس في المرآة، أو يتجوّل في فضاء الغرفة، يده المرتجفة تستحضر عصابية لطيفة وتسليم بنوع من "الاعاقة". هذا التسليم، وأكثر منه اختيار عرضه علانية، ببساطة رائع، منغّص للقلب، ويضع الحالة برمّتها في ضوء آخر. مثلما فعل في الصورة بالضبط، كسر العلاقات بين المصوِّر والمصوَّر، فإن قرار "الانضمام" الى الفيلم، ربما لغرض التخفيف عن المصوَّر، هو قرار يكشف ضعف (أو قوّة) وسيلة الفرجة (كاميرة فيديو توثق أيضًا الراوي العارف بكل شيء). وهو ما يمكن ايغنتس من توسيع تشكيلة أهدافه: الوصول الى الشاب الذي يصوره ولكن أيضًا الى نفسه، والينا، انطلاقا من تماثلنا المتزايد مع كليهما. وكذلك "اكتشاف" هشاشة الزمن في العمل؛ زمنه وزمننا. ففي خاتمة المطاف ما يمثل امامنا هو زمن "مستعار".