الخط، منطقة نغميّة، ليس مهمًا في الحقيقة فقط لأنه يوثّق ما رأيته، بل بفعل ما سيقودك إلى رؤيته
John Berger, “The Basis of all Painting is Sculpture and Drawing.”1
ظهر سيل من الكتب التي ألفها جون بيرجر والتي كُتبت عنه عند وفاته في كانون الثاني 2017. ومن بين العناوين التي صدرت: السيرة الفكرية الممتازة التي ألفها جوشوا سبيرلنغ (Sperling)2 ومجموعة مقالات قصيرة ممتازة أيضًا كتبها نشطاء وفنانون ومنتجو ثقافة، تحت عنوان "زهريّة زهور بريّة: نصوص لذكرى جون بيرجر".3 بين النصوص العديدة التي كتبها بيرجر نفسه، صدرت مجموعتان من مقالاته حول الفن: "مناظر طبيعية: جون بيرجر حول الفن" و "بوتريهات: جون بيرجر حول فنانين".4 وكلاهما من تحرير توم أوفرتون (Overton)، الذي كتب المقدمة أيضًا. وينضم إليهما كتابان يتناولان أعمال الرسم لدى بيرجر كفنان، وهما مكمّلان لفكره: Bento’s Sketchbook5، وهو كتاب آسر وإن كان غير مألوف إلى حد ما، كتبه بيرجر مستلهمًا شبينوزا و Confabulations،6 وهو مجموعة مختارة من مقالاته التي كتبها في وقت متأخر أكثر.
تشكل هذه المنشورات مجتمعة شهادة على إرث بيرجر الغني وتأثيره المستمر على حقول الدراسة والنقد في مجالات الفن البصري والإنتاج الثقافي والثقافة السياسية. على الرغم من أن كتاب A Jar of Wild Flowers حمل أيضًا عنوانًا فرعيًا هو Celebration، احتفال، فإن النصوص الستة والثلاثين التي يتضمنها لا "تحتفل" بشخصية بيرجر كشخصية قدّيس. عوضاً عن ذلك، يربط كل مقال في الكتاب تقريبًا تأثير بيرجر في سياق معين وينطلق من التطرّق إلى مجالات اهتمام كل كاتب وكاتبة. وبهذا الأسلوب يمكن أخذ فكرة كيف أن التعبيرات الصورية القائمة في الفن وفي إنتاج الأعمال الثقافية، ترمز إلى وجود نسيج متشابك، تنجدل فيه جوانب مثل رهافة الحس السياسية والتاريخ الاجتماعي وتوزيع الموارد المرتبطة بظهورها - سواء كانت مادية أو متخيلة. تتراكم في هذه الخصائص النسيجية قدرات تحويلية مختلفة تهدف إلى الابتكار والتغيير. مثلما كتب الباحث الثقافي نيكوس بابرسترجياديس في مقاله في الكتاب: "الابتكارات الصورية مهمة لدى بيرجر ولكن لا يُنظر إليها أبدًا داخل فراغ. بل ستظهر دائمًا جنبًا إلى جنب مع تطلعات لتحوّل اجتماعي".7 (ص 72-73)
إن التطلعات إلى التحول، التي تردد صدى خصائص النسيج الكامن فيها، كما ذكرت سابقًا، تتضمن أيضًا تجربة لا تنضب من "الدهشة" و "السحر" (بابرسترجياديس) وهي لا تعبّر فقط عن طريقة تفكير بيرجر، بل أيضًا عن الاستخدام العملي النابع من تفكيره - الممارسة الفعلية لكتابته، أو أعمال الرسم لديه التي تتميز بنضارة غير متكلّفة. تفعّل مقالاته نوعًا من التوجّه إلى قوة كامنة جديدة للمعنى، والتي تتجلى من خلال تردد الصدى المتكرر الذي يصدر عنها بواسطة صياغة غير متوقعة، أو عوضًا عن ذلك، في الرسم، من خلال لمسة من قلمه، في محاولة لمماثلة نفسه بالصورة التي تثير اهتمامه - الصورة التي يتوجه نحو اكتشافها.
بالنسبة لبيرجر، الخصائص الصوريّة في الثقافة البصرية ليست قائمة فقط بمفهوم الشكلانية (formality). عمليًا، خصص الكثير من نقده الفني للطرق التي كان يأمل أن يوضح من خلالها كيف أن إجراء التقييم الجمالي للفن يكمن فيه ميل لإضفاء المثالية، وبالتالي لتواسط أعمال فنية على أنها ثابتة – أي لا تنتج تغييرًا. بالنسبة لبيرجر، تقييم الفن وفهمه من خلال التقاليد التي تنتج إضفاء للمثالية، لا تؤخذ فيها بالاعتبار الطرق التي يتم بواسطتها تقديم اللوحة وإدراكها عندما تكون في العلن، مما يقلل من قدرة العمل الفني على أن يكون ذا معنى. من خلال هذا العمى، تميل التقاليد إلى إفراغ الدوافع التحويلية الموجودة في اللوحة. لقد فهم بيرجر الشكل/الصورة form (الصفات الشكلية، الصورية – من ناحية مادية ومثالية – للوحة مثلا، أو للنوع والأسلوب في الأدب والسينما) - بطريقة عملية جدًا، على أنه يمتلك القدرة على تغيير الشكل، باعتباره trans-formational عابر التشكيل. ليس أن الشكل راسخ في السياق فحسب، بل إنه يدفع إلى السياق باعتباره نسيجًا لتواريخ اجتماعية وثقافية (مثلما يحدث على سبيل المثال، في مواقع مؤسسية مخصصة لتقييم اللوحة وفهمها المكتسب وكيفية ظهورها).
يعيد الدافع التحويلي في الفن إلى الأذهان "الرسام المعاصر"،8 الرواية التي كتبها بيرجر في منتصف القرن العشرين. الرسام المجري يانوس لافين (Lavin)، الشخصية الرئيسية في الكتاب، يكتب في مذكراته أن "كل رسم ناجح - حتى لو كان رسمًا ليد أو جذع، بكونها أشكال سُجّلت في الوعي آلاف المرات من قبل – هي أشبه بخريطة لجزيرة جديدة، تم اكتشافها للتو "(53). بكونه منشغلًا إلى حد كبير بقدرة عمله الفني على إشراك منظومات العلاقات الممكنة بشكل (غير) متساوٍ بين التحول الاجتماعي والفن، فلا توجد بالنسبة إلى لافين معادلة يمكن من خلالها تعريف الربط بين الفن والثقافة السياسية. لذلك، سيكون من الخطأ اعتبار الرسم تعبيراً عن أفكار أو تمثيلاً للعالم. أن ترسم معناه أن تحقق في كل مرة من جديد تعلّم (learning) كيفية الرسم. مثلما يواجه لافين عمليًا صعوبة في قبول فعل الرسم لديه، فلن توفر له أي صيغة معنى لجهوده الإبداعية: "عملية التعلم"، كما كتب في مذكراته، "هي سيرورة البدء من جديد، مرارًا وتكرارًا ". (ص48)
جون بيرجر في محادثة مع مايكل سيلفربلات (Silverblatt)، في بيته، مزرعة نشطة في ميسي (Mieussy)، فرنسا، تشرين الأول 2002
-
مكن قول أشياء مماثلة أيضًا عن أعمال بيرجر اللاحقة، والتي تكرّس هذا الفضول المثير للقلق الذي حفز اهتماماته في شبابه. لم يكن ممن يقدمون ادعاءً فكريًا حول الاستمرارية والنظام، وبدا بيرجر في كتاباته دائمًا كمن يتنقل ما بين أعراف الشكل - form - (النقد الفني، الشعر، النثر، سيناريوهات الأفلام) في الوقت الذي كان يترك وراءه بقايا يتصاعد منها الدخان لنقاط احتكاك بين جانرات مختلفة. كان من الممكن بالتأكيد شمل بيرجر في الكتاب الذي كتبه إدوارد سعيد، والذي نُشر بعد وفاة سعيد، عن "الأساليب المتأخرة" والذي يظهر فيه "التأخّر" "ليس كتناغم ودقة، بل كتصلب وصعوبة وتناقض غير محسوم."9
الدوافع التحويلية في عمل بيرجر تشمل الدهشة والفضول اللذين لا يجدهما في العالم المحيط به فقط، أو في الخصائص الشكلية لعمل فني، وإنما في الوسائط نفسها. والتي تنجح أعمال الإنتاج الثقافي بمساعدتها ومن خلالها، بتشكيل وتوجيه بيئتها – أي الأماكن التي تنشأ فيها وتُعرَض للجمهور. من خلال تعاطيه مع هذا العُرف أو ذاك، في كتابته النقدية والإبداعية، أدرك بيرجر كيفية تغيير شكل الأعراف ومنحها الصفات التي تطرح عدم-التعرّف، وخصوصًا حين وضع في المقدمة سيرورات يتيح الفن بمساعدتها إعادة التغذية، كمنوالية تاريخية (historical modality) وليس كشكل (form)، لإنتاج الثقافة.10
مثلما يتجاوز اللون في رسوماته الخطوط الهيكلية ويغمرها، فإن الأعراف الشائعة والأشكال التي تلائمها في المادة بالنسبة لبيرجر ليست رزمًا مرتبة يمكن استخلاصها من داخل نبض قلب ظروف وجود العمل الفني، من الأسلوب الذي أنتج وفقًا له، والحيوية الموجودة فيه. في الوقت نفسه، لا يمكن للسياق والظروف أن تستنفد سلسلة المعنى والصدى التي يمكن أن تتيحها وتجسّدها الاستخدامات الشائعة، مثل الأعراف، بل إن إطار اللوحة، أو خلافًا لذلك، الخط الهيكلي للصورة، يؤسسان عتبات تقسّمها خيوط النسيج الذي يربط الشكل والسياق والشكليات والظروف. إن النزعة السياقيّة وشبه الجزيئية لدى بيرجر حيال الإنتاج الثقافي، قد سبقت ظهور الإنشاء (installation) الذي يتعاطى مع موقع وضعه ويكيّف لداخله جميع الموارد المادية والمتخيلة من أجل إنشاء خطوطه الهيكلية وبيئاته، وفي النهاية، مسألة علّة حدوثه.
يمكن العثور على مثال آخر لموقف بيرجر النقدي نحو الأعراف الشائعة في جي،11 الرواية الحائزة على جائزة بوكر عام 1972. على امتداد صفحات الكتاب، يتقصى بيرجر كيف تخلط المعرفة العامة عن العالم تصورًا تملّكيًا، يؤدي إلى تسطيح الآخر كأمثولة محاصرة داخل هيكلية شكلانية (formal)، يحملها الشكل (form) نفسه. على سبيل المثال، في دافعية الاحتلال الرومانسي لدى كامي (Camille)، تتساءل الشخصية التي تحمل اسم الكتاب:
كان يتوجب عليها أن تتحوّل إلى أمثولة. لقد تعاونت معك من خلال اختيارها الخصائص التي تمكّن مثلنتها. اخترت براءة كامي، لطفهاـ مشاعرها الأمومية وروحانيتها. بالنسبة لك، قامت بتشديدها. كبتت في نفسها الخصائص التي تناقضها. لقد تحوّلت إلى أسطورتك. الأسطورة الوحيدة التي كانت لك وحدك. (ص179)
في حين يتقصى بيرجر في "جي" أعراف الأدب والإنتاج الثقافي (على غرار Ways of Seeing، كتابه الشهير والمسلسل التلفزيوني الذي يحمل نفس الاسم الذي أنتجه لهيئة الإذاعة البريطانية في نفس العام، 1972)، تتضمن الرواية مقولات ما-قبل-تأملية حول القدرة التحويلية الكامنة لفعل الكتابة نفسه لديه. يكتب: "ما لا أفهمه ولا أتخيله يذهلني بتفرده". يمكن القول إن ما يثير إعجاب بيرجر هو الأسلوب الذي يقاوم به التفرد تعريفه قياسًا بالكل الذي يشكل جزءا منه، ويقاوم كونه مجرد جزء من معيار شائع. لهذا السبب، كما يشير، فإن العناصر الشكلية شجرة - "أوراق، أغصان أو جذع" - أو خلافًا لذلك، مكونات الإنسان - "أعضاء، عينان وشعر" - هي في الواقع "سطحية". عمليًا: "لقد صُدمت من تفرّد كل حدث. من هنا تنشأ الصعوبة التي أواجهها ككاتب- ربما الاستحالة الهائلة لكوني كاتبًا. فكيف يمكنني نقل مثل هذا التفرد؟" (ص136)
John Berger / Ways of Seeing , Episode 1 (1972)
جون بيرجر، Ways of Seeing, الفصل 1, BBC, 1972
كلمات بيرجر هذه عن تكشف رهافة حسه ليس للأشياء أو الأشخاص أنفسهم، بل "للعلاقات التي أدركها بين الأشياء" (ص137، التشديد من المؤلف). يمكن فهم رهافة الحس هذه لديه على أنها تغيير ينتقل من ترتيب الأحداث ورزمها كأمثلة على تسلسل زمني مترابطة سببيًا ("نتيجة للزمن") إلى تقاطعات المكان ("وضعية موسعة للمكان "). "النمط المتزامن المركب" (ص137) الذي يمكن العثور عليه في سطر من الكتاب يتم اقتباسه باستمرار: "لن يحدث مرة أخرى أبدًا أن يتم سرد قصة كما لو كانت القصة الوحيدة الموجودة".12 (ص133)
بالنسبة إلى بيرجر، يُسقِط الواحد على الكثرة، على عدد من الأجزاء التي لا يتم احتواء صداها النسبي بشكل بسيط وواضح في كاملٍ خاضع للانفعال بصورة مهيمنة. تقول كامي (202) وهي تجتهد لتخيّل تجربتها الذاتية بطريقة لا تخضع لمنطق التملك الرومانسي: "لكنني لست حاصل جمع أجزائي".
في هذا المخطط النسبي، السياقي الجزيئي، تنجدل الذات أو الموضوع مع أنماط منوالية متغيرة من التبادلية ومنظومات العلاقات المماسّة لها. إن حيلة بيرجر لتغيير شكل صورة كاملة إلى مكوناتها، تنتج عمليًا تأثيرًا كولاجيًا أو مونتاجيًا، يموضع في المقدمة كلًا من الفعل، الحركة، السيرورة، الدوران الجزيئي والتفاعلات في البيئة. جمع بيرجر، بتأثير التشديد السياقي الذي وضعه التكعيبيون على التوليفات، الانقطاعات، التوتّر والسيرورة، ما أسماه "عادة النظر إلى كل جسم أو موضوع كما لو كان كاملاً بحد ذاته، وكماله هذا يجعله منفصلاً."13
لقد سبق نهج بيرجر، أيضًا، الخطاب المعاصر حول الممارسات الفنية بمفاهيم الصدى والإيماءات والإدراك، مثل نقاش جيل بينيت (Bennett) حول عمل غابرييل أوروزكو (Orozco) للفن الرقمي، وخاصة سلسلة14 (Atomists) من العام 1996. اختيار أوروزكو للموضوع وسط تركيزه على التصوير الفوتوغرافي للألعاب الرياضية، يعد مثيرًا للاهتمام بحد ذاته، لا سيما بالنظر إلى الطابع الذي يجسد فيه التصوير الفوتوغرافي للرياضة معضلة محاولة إدراك الحركة بواسطة إنكارها.
من خلال وضع الأشكال الهندسية على أجزاء مختلفة من صورة لشخصية رياضية متحركة، يشدّ أوروزكو الانتباه إلى مرونة أعضاء الجسم المنظمة، وبالتالي يتحدى إخضاع الجزئي للكامل. وهو يسمي هذا "تداخل صورتين متحركتين"، قائلاً "من جهة، صورة شخصيات متحركة، ومن جهة أخرى، شكل هندسي لديه حركة. التدخل الهندسي فوق الصورة يجعل حركة الأجسام في الصورة ذات صلة أكثر، ويتيح إدراكها بطريقة مختلفة. بالتالي، أنا ألغي الحركة لكني اكتشفها أيضًا".15
كما يوحي العنوان "The Atomists"، فإن أوروزوكو مهتم بأن يضع في الواجهة حركة الأعضاء في علاقاتها الداخلية، أكثر من إظهار الكامل – من خلال التأكيد على الركبتين والمرفقين المرنة لدى لاعب الكريكيت وليس اللاعب نفسه. الحيلة الآسرة المتمثلة في تغيير شكل صورة الكامل إلى مكونات أعضائه تنتج تأثير شبه كولاجي أشبه بمونتاج، يُظهر الفعل، الحركة، العملية، الجزيئية والعلاقات المتبادلة داخل بيئة. بالنسبة لبينيت، مثل هذه الحركات التي تغير الشكل والتحويلية تتلخص في "جماليات الحركة وتسلسل الأحداث".16 إنها الانتباه إلى أعمال الإنتاج الثقافي كمشاهد لتشكيلات أجزاء بلا انقطاع، تتواجد داخل ومن خلال أنماط إنتاج نموذجية من الإنتاج، التوزيع، الانكشاف والتأقلم. على نحو مشابه، بالنسبة لبيرجر، لا يوفر الخط في الرسم هيكلا أو محصلة فقط. فالخط يُحدث، عمليًا، تغييرًا جزيئيًا، وهكذا يضع في الصدارة عدم كمال وعدم تجانس الكامل.
ينطوي هذا التغيير الجزيئي على تحوّل فوق السطح، ليتحولا بالتالي إلى بيئة. ومثلما يوضح في مقال مهم حول ممارسة الرسم لديه، ففي رسم خط تشكيل (configuration) لسطح يتغير إلى موقع ذي ثلاثة أبعاد، فيه حركة وتضاد، "يمكن التحرّك من خلاله، ولكن لا يمكن الرؤية من خلاله" (ص 29).17 يجلب كل خط أو لطخة أو بقعة في أعقابه تشكيلات إضافية بواسطة "علاقات متبادلة لمستويات متراجعة ومسطحات متقدمة"(ص 30). ونتيجة لذلك، يصف بيرجر الخط على أنه يمر"عبر"/"من خلال" حيّز الرسم، وليس على مسطح الورقة: "ليس كسائق سيارة، على مستوى واحد، بل مثل طيار في الجو، قادر على التحرك في الأبعاد الثلاثة كلها." (ص 29).
جون بيرجر، About Time, القناة 4, 1985
تأثر بيرجر كثيرًا بكتابة فولتر بنيامين (Benjamin)، وخصوصًا بمقاله المعروف، "العمل الفني في عصر إعادة الإنتاج التقنية"، والذي يذكره في Ways of Seeing (سواء في المسلسل التلفزيوني أو الفصل الأول من الكتاب).18 النقطة المركزية هنا هي تأمّل بنيامين في تطوّر الاستخدامات التقنية (وخصوصًا التصوير الفوتوغرافي)، وإعادة إنتاج العمل الفني، والذي لا يذكّر بمفهوم "الأصل" فحسب، بل يدفع قدمًا أيضًا بطرق متعددة للتوزيع، وخلق السياق وخلق القيمة، وفي خاتمة المطاف التوزيع المتعدد للمعنى. على أثر هذا التوزيع، يتقوّض معنى "الأصل" وقيمته ويتضرّر معنى "الأصالة".
لو اقتبسنا من جملة بنيامين الشهيرة: "إن تقنية إعادة الإنتاج، هكذا يعبر عنها عموماً، تُخرج العمل المعاد إنتاجه من نطاق الموروث. فبما أنها تقوم بإعادة إنتاج عمل مستنسخ، فإنها تستبدل وجوده الفريد بتعدد النسخ". أشبه ببنيامين، لا يقوم بيرجر أبدًا بشطب النسخة المُعاد إنتاجها على أنها غير أصلية بل يشدد على كيف أن تقنيات إعادة الإنتاج تؤدي إلى تعدد المعاني، وتمنح التأثير الذي ينتج تأريخًا للعمل الفني، وذلك بواسطة إزالة الغموض (أو التعمية) عن "القيمة الروحية" فيه.19
جانب آخر يُظهر تأثير بنيامين على بيرجر هو الدوافع التحويلية لما يسميه بنيامين "الكوكبات"، والتي كتب عنها في مصادر التراجيديا الألمانية،20 كتابه عن الدراما الألمانية التراجيدية في القرن السابع عشر، أو مسرحيات الحداد، الذي نُشر عام 1928. في مقدمة الكتاب، يطلق بنيامين اسم "شذرات الفكر" (29) على ما يؤدي إلى "نبذ أي رؤية للكامل" (56). ويطرح تشبيه الفسيفساء للتعبير عن ذلك. بكون الفسيفساء مكونة من قطع أو جزيئات، فإنها تُظهر العملية التي يتم بها تكوين الصورة. تصنع الفسيفساء عادة من قطع صغيرة من الحجارة أو الزجاج أو البلاط، على الرغم من أنه يمكن أن تكون مصنوعة من مواد أخرى (أوراق شجر، ورق، قصاصات ورق، إلخ). تحصل الأجزاء على معنى مفهوم من خلال البُنى التي تتميز بتباين الألوان والأشكال والنسيج.
ميزة الفسيفساء هي انعدام الجهد لإخفاء الشقوق والتشققات التي تنشأ من وضع القطع قرب بعضها البعض. لذلك، يمكن في الفسيفساء رؤية الصورة وكذلك الأجزاء، إذ أن الأجزاء لا تخفيها الصورة. القطع والسيرورة التي تتكوّن من خلالها تنتج ما يسميه بنيامين "زخمًا" - الإيقاع غير المعتاد الذي تتقاطع بمساعدته القطع في الفسيفساء، أو في الفكرة ارتباطًا بموضوعنا، مع شكل خطوطها الهيكلية. يكتب بنجامين: "القيمة في قطع الفكرة تكون أكبر كلما أظهرت العلاقات المتبادلة بينها أقلّ فأقلّ الفكرة التي في صلبها". (29)
في أحد أكثر مقالاته تأثرًا ببنيامين، استخدامات التصوير الفوتوغرافي،21 يطوّر بيرجر فينومينولوجيا لممارسات بصريّة، ويحاجج بأن التطبيقات "التقنية" للتصوير الفوتوغرافي، "استخدامه وطريقة قراءته"، أصبحت "شائعة، جزءا غير قابل لتمييزه في التصور الحديث نفسه"(53ص). ومع ذلك، فإنه يميز بين ما يسميه الاستخدامات "الخاصة" و "العلنية" للتصوير الفوتوغرافي، ويدعي أن "الصورة الفوتوغرافية الخاصة" تحافظ على استمرارية السياق الذي تم إنتاجها فيه (على سبيل المثال، في ألبوم صور العائلة)، في حين أن "الصورة العامة" (على سبيل المثال، صورة متزوعة من سياق إنتاجها)، تحمل معها زخمًا اغترابيًا، وبمساعدته "تنفصل عن أية تجربة للوجود". (ص 55-56).
مقابل ذلك، بدلاً من التفكير في الصورة العلنية كفقدان، يهتم بيرجر عمليًا بالإمكانيات المحتملة التي يمكن أن تنقذ الذاكرة من النسيان، وخصوصًا من خلال إعطاء حياة جديدة للصورة وتخليصها. ولهذا تكتسب الصورة قدرتها التحويلية - من خلال "استعادة حيازة سياق حي". بكونها دائمًا خامًا، "يتم استبدال الصورة الفوتوغرافية عندما تصبح جزءًا لا يتجزأ من السيرورة التي ينتج بها الناس تاريخهم. " (ص61).
أنتقل لهنيهة إلى مسألة أخرى من أجل تقديم مثال على هذه الإمكانيات التحويلية التي يصفها بيرجر، بالمعاني التي يتمتع بها الموضوع المصوّر، وكذلك الصورة نفسها، بالقدرة على استحضار التاريخ الاجتماعي بحيث يصبح حدثٍا. في مقال عن التصوير الفوتوغرافي الكولونيالي في أستراليا، يتتبع عالم الأنثروبولوجيا جون برادلي (Bradley) وكتاب آخرون المسار الذي مرت فيه الصور الأصلية التي التقطت في نهاية القرن التاسع عشر. تم إنتاج الصور من قبل علماء الأنثروبولوجيا السابقين الذين كانوا حريصين على الاحتفاظ بتوثيق للأصلانيين من أولاد يانيوا الأسترالي،22 وهم أشخاص نظروا إليهم بشكل عنصري ودارويني ومصيرهم الانقراض. بقيت بعض الصور لسنوات في متحف في ملبورن، كمعارض تتعلق بالسكان الأصليين في أستراليا.
ساعد برادلي وزملاؤه في إنقاذ هذه الصور من حجزها في المستودعات الزجاجة المخنوقة التي وُضعت فيها، ونقلوها إلى عدد قليل من أحفاد شعب يانيوا الباقين على قيد الحياة. في حين كانت الصور شاهدة على أسلافهم، فقد ساهمت أيضًا في قدرة الأحفاد على حفظ صور وروايات أسلافهم وتاريخه، وشكلت أيضًا تجربة لهم كمجتمع. ومن المثير للاهتمام، أن الصور الفوتوغرافية، انتقلت من كونها نماذج لما اعتبره علماء الأنثروبولوجيا الأوائل جنسا يحتضر من البشر، وباتت دليلًا على هذا الافتراض العنصري للغاية، وأكثر من ذلك، لقد أصبحت أدوات يمكن للناس من خلالها استعادة القدرة على سرد تاريخهم.
لكن عودةً إلى بيرجر، فإن الصور "تستمر في الوجود في الزمن، بدلاً من أن تكون لحظات ممنوعة".23 كما ذكرت سابقًا، فإن فكرة "الصورة العلنية" هي من بقايا رؤية بنيامين للصورة المستوردة. على الرغم من أن الصورة الفوتوغرافية تضطر لإظهار توقف مؤقت في الوقت، وانقطاع عن استمرارية السردية، فهي تصبح متاحة لحدث، يحمل مرور الوقت بخصوصه أهمية كي يتسنى للقدرات التحويلية العلو والظهور في مناطق تصدع التاريخ الاجتماعي، والثقافة السياسية والفن والإنتاج الثقافي.
جون بيرجر، فهم الصورة، حوار 13 تشرين الثاني، 2013
أحد الجوانب المهمة لتوجه الكوكبة لدى بيرجر هو ثقته في الأمل. في حين أن الفن والإنتاج الثقافي لا يمثلان أبدًا شيفرات لأية حجة أيديولوجية، إلا أنهما ينطويان على سيرورات تضم التحولات الثقافية والاجتماعية كقوى كامنة (بشكل مفاجئ وبطرق مختلفة) مثلما أنها حقيقية. تتضمن هذه الإمكانات تداولية المواد والموارد المتخيلة، والتي يمكن رؤيتها كقدرات مجسدة للتكيف والعمل مع هذه الموارد. في عصر الدمار البيئي الضارب في العالم اليوم، والذي يعكس الوباء ولكن يكمله أيضا، وهو العالمي بذاته أيضًا، تذكرنا الدوافع التحويلية في عمل بيرجر أنه، وكأي مورد آخر، يمكن تعبئة الأمل في رزمات مختلفة وترتيبها بطرق توزيع مختلفة، بالرغم من أنها تظل مرنة بما يكفي لكي نتدخل فيها.
- 1. The Basis of all Painting is Sculpture and Drawing.” Republished in Tom Overton (ed), Landscapes: John Berger on Art. London: Verso, 2018.
- 2. Joshua Sperling, A Writer of Our Time: The Life and Work of John Berger. London: Verso, 2018
- 3. Asmin Gunaratnam, Amarjit Chandan, (eds) A Jar of Wild Flowers: Essays in Celebration of John Berger. London: Zed Books, 2016
- 4. Tom Overton (ed), Landscapes: John Berger on Art. London: Verso, 2018; and Portraits: John Berger on Artists. London: Verso, 2017
- 5. John Berger, Bento’s Sketchbook. London: Verso, 2015
- 6. John Berger, Confabulations. London: Penguin, 2016
- 7. The Colour of the Cosmos: John Berger on Art and the Mystery of Creativity.” In Gunaratnam & Chandan (see footnote 2)
- 8. John Berger, A Painter of Our Time. London: Verso, 2010
- 9. Edward W. Said. On Late Style: Music and Literature Against the Grain. London: Vintage, 2007, p. 7.
- 10. أعني بـ "المنوالية" أن العمل الفني يشمل عددًا من التطبيقات العملية والإنتاجية، وتشكيلة من الموارد المتخيلة والمادية، فضلاً عن العلاقات الاجتماعية والتقدير المكتسب، والتي تكتسب أعمال الإنتاج الثقافي قيمة بمساعدتها. وتشمل هذه الأدوات والمواد التي يستخدمها الفنانون في عملهم (أدوات ومواد تشمل تواريخ اجتماعية للإنتاج والتبادل)، مثل الألوان والفُرُش الاستخدامات الرقمية، الأقمشة، العدسات وأفلام التصوير ؛ الزمان والمكان، الضوء والصوت ؛ الترويج والتوزيع ؛ فضاءات العرض ومواقع العروض ؛ وكذلك النقد وكتابة الملاحظات.
- 11. ohn Berger, G: A Novel. London: Bloomsbury, 2012
- 12. لم يتم الإعلان عن هذا البيان، في الرواية، كفكرة مجردة فحسب، بل تم إعطاؤه تجسيدًا. مثال على ذلك هو كثرة القصص والنسخ المختلفة لما يحدث لشخصية شافيز، عندما كان يحاول أن يكون أول رجل يطير فوق جبال الألب. يبدو أنه كلما زاد عدد الشهود، زادت الروايات عما حدث وانتشرت من خلال الشائعات والنميمة والصحافة (ص153). استعار بيرجر الشخصية والأحداث من الحياة: خورخي شافيز، باريسي من أصل بيروفي، حلّق فوق جبال الألب عام 1910.
- 13. John Berger. “The Moment of Cubism.” Republished in Tom Overton (ed), Landscapes: John Berger on Art. London: Verso, 2018, p. 132
- 14. Jill Bennett. Practical Aesthetics: Events, Affects and Art after 9/11. London: I.B. Tauris, 2012
- 15. Gabriel Orozco, Atomists. Exhibition at the Museum of Modern Art, New York, 1996. https://www.moma.org/audio/playlist/240/3097 Accessed, April 7, 2020
- 16. Bennet, p. 158
- 17. أنظروا هامش رقم 1
- 18. Walter Benjamin. “The Work of Art in the Age of Mechanical Reproduction”. Illuminations. Translated by Harry Zorn. London: Pimlico, 1999, p. 215
- 19. John Berger, Ways of Seeing. London: penguin, 2008, p. 21
- 20. Walter Benjamin, The Origin of German Tragic Drama. Translated by John Osborne. London: Verso, 1992
- 21. John Berger, “Uses of Photography”. In his About Looking. London: Bloomsbury, 2009
- 22. جون بردلي، فيليب أدجميس (Adgemis) وليكا هارالامبو ( (Haralampou). “‘Why Can’t They Put Their Names?’: Colonial Photography, Repatriation and Social Memory.” History and Anthropology, 25.1, 2014, 47-71
- 23. John Berger, “Uses of Photography,” p. 61