بُلاطة سمكة من بحر أو الفن كأطروحة بصرية
رحل الفنّان التّشكيلي الفلسطينيّ كمال بُلاطة (1942) عن عالمنا في السادس من آب 2019 في منفاه في برلين عن عمر ناهز 77 عامًا، وقد ترك وراءه إرثًا فنيًا هائلاً ميّزه في ساحة النّقد والإبداع الفنيّ في السّاحة الفنيّة الفلسطينيّة بوجه خاصّ والعربيّة بوجه عام. في هذه المقالة، يحاول الفنان والشاعر المغربيّ سمير السالمي أن يقدّم للقراء صورة جامعة عن فنان متعدّد الملامح ويكشف عن مكامن القوّة في مشروعه الابداعيّ والنقديّ والبحثيّ.
كمال بلاطة، (1942-2019)، هو فنان فلسطينيّ وباحث في مجال تاريخ الفنّ. وُلد بلاطة في مدينة القدس، تخرّج من أكاديمية الفنون الجميلة-روما وتابع دراسته في كلية كوركوران لمتحف الفنون الجميلة في واشنطن، . بلاطة، هذا الاسم الموسوم بالتميز، الحاضر في الذهن بألوانه وتسطيراته كمرجع تتقاطع عنده أسرار للشكل والمساحة، وتتشابك على جناح يده خطوط وأبعاد فنية تشكيلية لها الجمال والجلال.
عرفتُه شخصيًا خلال سنوات التسعينات، عندما قدمته بكلية آداب الرباط، ضمن مناظرة فنية أدبية جمعت بينه وبين أستاذي الشاعر محمد بنيس والفنانين ضياء العزاوي وعلي سليم ومحمد القاسمي والشاعر الفرنسي فرانسوا دو فاليير.1
Kamal Boullata
تعرّفوا على كمال بلّاطة- آرت دُبي
ولفت كمال انتباهي بخبرته النظرية التقنية في تحليل مرجعيات فنون الخط والمُنَمْنَمَاتْ والفسيفساء، وبدرايته أيضا وإلمامه بالتقنيات الحديثة والقديمة في فن الرشمات والطباعة بمختلف أنواعهما.
هذا الوجه الجامع بين الممارسة والنظرية في آن واحد، القادر على صياغة أعماله الفنية في شكل أطروحة بصرية، لما يثقفه فكرُه من الملاحظات وما يلتقطه حسه من المعالم والخصوصيات. هذا الوجه المُتآلفُ للفنان- المُنظّر والمُنظّر- الفنان، هذا الوجه الحاضر في منتديات مميزة للأدباء والفنانين، كان هو أبرز ما لفت انتباهي كتشكيلي وباحث في الفن إلى الإسم وصاحبه.
اقتربت من عمل بلاطة وحاولت استيعابه من خلال مرجعياته، هاته، الحضارية والثقافية و التقنية. عملٌ هو الرقعة واللون والموضوع في آن واحد. ذاتٌ هي العمل حين يُلَمحُ أو يُصرّح. وعملٌ هو الذات بجذورها الراسخة وأغصانها الممتدة الوارفة.
عملٌ ينبع من ثقافات سابقة على اختراع الأبعدية2 (Perspective) ويمتد إلى ثقافات أخرى، ووجهات نظر فنية بصرية هي بمثابة عود على بدء في الزمن وكسر لمنطق الأبعدية نفسه،3 من التدقيق إلى الاختزال، ومن بذخ التفاصيل إلى شح الخطوط والألوان، ثقافة عارفة لها طرائق الأقل4 الدال على الأكثر وطاقات الاختزال التي توسع الإشارة، وتطوي المتعدد ضمن المركز، والمركب ضمن البسيط.
بهذا في رأيي لفت عمل كمال بلاطة الانتباه في نوادي فنية وثقافية كثيرة عربية وغير عربية، واندرج في مسارات التجريب الذي يخلق الموضوع إذ يبدل زاوية النظر.5
مـــربـــــــــع الـــــــذات
هي نظرة رسمت، إذن، إطارًا ثم اخترقت زواياه الأربع باتجاه طاقة كامنة ملغزة سطرت أبعاد الانفتاح والتوسع عبر الأزمنة القديمة والحديثة، اختزلت بتركيز هذه الأبعاد في أشكال دالة ولمسات خالصة محدودة.
من العين تبدأ الغواية كلها، ثم يفتح التأمل للرؤية نوافذ وأبوابًا باتجاه التأصل في الذات والصدور عنها. ذات هي العالم الصغير الذي طوى العالم الأكبر، كما كان ابن عربي يقول.6
هذه الذات من الرؤية (Vision) إلى التصور (Concept)، عند تقاطع المؤثرات والتأثيرات، تبوح بجديدها، الذي هو عنوان فرادتها، وإضافتها المهداة إلى قيم المعرفة والإبداع. قيم لا نراها إلا بالتأمل ولا نكشف عنها إلا بالتحقق والبحث.
مربــــــــع التشابكــــــــات
قوة لافتة من الاختزال، وطاقة من التركيز والتبسيط جعلا الفنان وهو يسير على درب حمالي تقني ملكي شاسع واسع، درب استهله بول سيزان (Paul Cézanne) باختصار الأشكال في أجسام هندسية محدودة وكرسه كل من بابلو بيكاسو (Pablo Picasso) وهنري ماتيس (Henri Matisse) بإبداع طرائق لا متناهية في التمثل الفني المشخص والمجرد وفي تقليص وتكسير الأبعاد، وسارت على الدرب أجيالٌ من فنانين طلائعيين كثر.
موهبة بلاطة ومعرفته تكاملتا معا، لتسمحا له بفك شبكات من تقاطع وترابط الزوايا والأركان في الفنون الهندسية الشرقية العربية والقبض على بؤر وثوابت هي في فنه كنايات بالجزء عن الكل وإشارات لا تسعها الصور والعبارات، أو لربما هي حكمته وغايته المنشودة التي ظل يرددها في غير ما شكل و غير ما مناسبة: «أنا مثل الطائر الذي يرى سمكة في البحر، ثم يهجم على البحر ويلتقط السمكة التي هي في ذات الوقت قوته والقسط الذي يكفيه من البحر كله».
مـــربـــع الخـــــــط
نفذ كمال بلاطة أعماله الفنية بحذق بالغ، بعد دراسة أولية، غالبا ما بدأت برسم الخطوط والأبعاد وبطي المربع إلى مستطيلين أو إلى مثلثين قائمي الزوايا، ثم بسحب الألوان أو كشطها بشكل شبه محسوب أو بطلائها، مجملا على امتداد المساحات، كما في الأعمال المرشومة والمطبوعة والمرقشة.
ويمكننا أن نعتبر كمال بلاطة، من خلال جرد أول للمساحات التي اشتغل عليها، بأنه فنان الفضاءات الصغيرة والمتوسطة. تعلق الأمر بأعماله التي أنجزها على القماش أو تلك التي نفذها على الورق هذا السند الأخير، الذي احتضن جزءا هاما من عمل الفنان، و اختزل تجربة بكاملها في الهندسة والبناء الخطي للوحة.
يبدو بلاطة في هذه الأعمال وكأنه قد عثر على الشعبة الذهبية7 (Séction d’or) لمساحاته المربعة، بحسب خطوطها المائلة (Diagonales) وتسيطر متقاطعاتها الأفقية والعمودية، وحسم نسبها وقياساتها. وذلك ما مكنه من تحديد تلقائي لبؤر الأبعاد داخل المساحات المتساوية الأضلاع.
عمل متأن يجمع بين خبرة المصمم والفنان، وهندسة للخط تكشف عن أسرار وعي جمالي شامل بفن توزيع الفضاءات (Distribution spatiale) وسبر أغوار الأشكال والأحجام والمساحات.
إنه الوعي الذي كرسته سنوات التعلم والبحث وعقود الممارسة والتنظير. وهو وعي قاد الفنان إلى نتائج محسوسة ملموسة، عبر مخيلة إبداعية حيوية، غدتها ثقافة بصرية متنوعة ثرية.
Reading the Arabesque—Kamal Boullata
محاضرة ألقاها كمال بلّاطة في مركز الدراسات العربية المعاصرة، (19 نيسان، 2019)
مــــربـــع الحـــــــرف
وهو يسكن المربع مثل واوٍ معقوفة أو ألف ممدودة، سيولة وانسياب وطواعية، من قاعدة الحرف إلى المربع القاعدة، دلالات لا ترتبط فقط بقياس المساحة الهندسية، والبحث عن نقاط ارتكاز (Points d’appui) أو انفلات (Points de fuite). بل تنفتح، ضمن خط الدلالات على ما قبل وبعد مشهد: إبراهيم الخليل، مثلا، وهو «يرفع القواعد من البيت». أو تنفتح على تقليد مغربي أندلسي قدس قاعدة المربع كأساس لصناعة الكتب والمنمنمات وبناء وإعلاء الأضرحة والصوامع. المربع بما هو مسكن وحصن وبركة كل خير وحرز من كل شر!
بهذا يطل المربع في أعمال كمال بلاطة على عالم خاص ينفتح على معاني لها التعدد والاتساع. وتكون اللوحة أساسا هي قضية الفنان ومعبر القضايا الفاعلة في وجوده والملامسة لأحاسيسه الإنسانية وحساسياته الذوقية والفنية.
رقعـــــة اللـــــــون
تدور عجلة الألوان لدى الفنان لتقف عند اختيارات هي بمثابة مفتاح لسلم الألوان (Sfumato) ولتدرج لويناته (Teintes) وتفاوت نغماته (Tons) من الألوان الأولية (Primaires) إلى الألوان المركبة البسيطة. ألوان صافية مفعمة بالحرارة والضوء. الأزرق الغامر والأصفر المنير والأحمر الملتهب الحار…
تلك هوية مرئية لفنان مرتحل بين «الشرق» و «الغرب»، فنان يغمر بأنوار شمسه ظلال الغربة والمنافي. من هنا، أيضا، بهاء وإشراق لوحة كمال بلاطة، بساطة مركبة وأنوار عميقة تشبع السطح تلألؤا وصفاء.
نعم، تحضر الفسيفساء البيزنطية والعربية في خلفية الاختيارات الأولى،8 لكنها اختيارات تعرضت هي نفسها لما تعرضت له ذات الفنان من تشذيب وتهذيب وارتقاء عبر التجربة والزمن. تجربة حية أساسها المعرفة والممارسة الإيمبريقية (Empirique)، وزمن متبدل متجدد، منفتح على ثورات حقيقية في مجالات الرسم والهندسة والطباعة والتلوين. من الألوان العضوية الطبيعية كما في الفسيفساء والمنمنمات القديمة، إلى الأصباغ الكيميائية والألوان الاليكترونية الرقمية.
خبرة مشهودة شاملة مستمرة، لفنان مصمم (Designer) للأشكال والألوان، عبر لوحات وحوافز بصرية (Motifs Visuels) عددها بين مطبوعات لكتب ومجلات وتصاميم لمواقع بصرية ثلاثية أو ثنائية الأبعاد، ومساقط أضواء فيزيائية أو افتراضية.
نـــافــــــذة الممكــنـــــات
لكمال بلاطة هذه المكانة المستحقة كخبير مكرس بالأشكال والألوان، وكواحد من أهم الفنانين الفلسطينيين والعرب وأقدرهم على تقديم الفن كأطروحة بصرية تنطق لغة الفن بمنطق الفن، وتتحدث إلى العالم بلغة المعرفة والخبرة والحداثة، وتبوح بأسرار ثقافة موغلة في الزمن من «أول الأول إلى آخر الآخر».
أعمال كمال بلاطة، عوالمه الحميمة والخفية، آثاره، لوحاته التي هي نبض حياته الملموسة والمرئية... ومضة من بريق حضارة بهية مشعة وقبس من شعلة هوية متقدة، شامخة حرة.
- 1. مناظرة قمت بتنشيطها بكلية آداب الرباط سنة 1994 كانت قد نظمت بتواز مع معرض فني تحت عنوان: "حول محمد بنيس" احتضنه المركز الثقافي الفرنسي. شارك في المناظرة الفنانون: كمال بلاطة من فلسطين و ضياء العزاوي من العراق و علي سليم من الجزائر إضافة إلى محمد القاسمي من المغرب و الشعراء محمد بنيس من المغرب و فرانسوا دو فاليير من فرنسا و قد شارك هذا الأخير إلى جانب المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي في كتابة النص التقديمي لهذا اللقاء الشعري الفني.
- 2. ثمة مبدئياً عتبات ضرورية ينبغي تخطيها لاستيعاب المجرى الدلالي للألفاظ والاصطلاحات، والظفر بالمعنى المحدِّد لوجهة النظر التي يصدر عنها نصنا هذا، والتي نميِّزُ في إطارها مبدئياً بين التخطيط graphisme كفعل وكطريقة ينفذ بها الخط trait، وبين التخطيط dictus كشكل للخط، اقترن بحسب علم حفريات هذا الأخير paléographie بالكتابة) manuscription (وبالرموز والعلامات والرسوم البيانية المجردة، ثم توسع بعد ذلك ليشمل الأشكال والصور المشخصة أيضا انظر في هذا مثلا: Gérard Dessons, l’illusion graphique, in. Peinture et écriture 3 frontières éclatées, coll. Traverses, éd. UNESCO, Paris,2000 . p-p.349 – 356
- 3. إذا كان الخط هندسيا هو عبارة عن متوالية من النقاط، فإن الفضاء الثنائي الأبعاد، بصريا، هو بمثابة شبكة دقيقة من نقاط متراصة تقوم عين الفنان بحسب بول كلي Paul Klee بمسحها وباختراقها لتسطر عبرها سبلا مختارة يشار إليها عادة بخطوط القوة. تشكل هذه الخطوط الهيكل الذي يقوم عليه معمار العمل الفني في الرسم والصباغة، وتقوم كأساس خفي لمجموع الحوافز الضامنة لتناغم الأثر الإبداعي، ولوحدته العضوية البصرية. من هنا صح أن خطوط القوة هاته كما يرى شارل بولو هي في محل الهندسة الخفية من كل بناء فني. أنظر في تفصيل هذا، كتاب: Charles Bouleau, Charpentes – la géométrie discrète des peintres, éd. Seuil, Paris, 1963. وضمن هذا البعد يرى بانوفسكي" أن أكبر الثورات التي هزت تاريخ الفن هي تلك التي مست قوانين الأبعدية و المنظور". Erwin PANOFSKY,L'œuvre d'art et ses significations. Essais sur les arts visuels,Trad. Marthe Teyssèdre,Gallimard , Paris, 1969.p.2 .
- 4. أقل ما يمكن من التعبير من أجل أكثر ما يمكن من الدلالة كأساس لنظريات الشعر و الفن و التواصل الحديثة. أنظر في هذا كتاب يوري تينيانوف :Le Vers lui-même : Problème de la langue du vers / Youri Tynianov ; Trad. du russe par J. Durin, B. Grinbaum, Paris : Union générale d'édition 1977.
- 5. اللافت للنّظر في مشروع كمال بلاطة الفنيّ-الإبداعيّ والفنيّ-التنظيريّ هو قدرة الفنان على التّجدد والتطور باستمرار بموجب الحفريّة المعرفيّة التي يتميّز بها والتي صقلت وعيه كفنّان ومثّلت خصوصيّة ووضوحًا لأطروحته البصريّة ليجمع بين الممارسة النقديّة-التنظيريّة وبين التدريب الفنيّ-التجريبيّ ويصوغ أعمالا فنيّة تصبّ في عمق هويّته الفلسطينيّة والمكان الفلسطينيّ المسلوب (ملاحظة المحرّرة).
- 6. محيي الدين بن عربي، الفتوحات المكية، دار الفكر،ج 2, ص.473.بيروت.
- 7. لشعبة الذهبية أو الرقم الذهبي أو النسبة المقدسة : هي الرقم الذي يتناسب مع القسمة الأكثر انسجاما إلى قسمين غير متساويين.
- 8. كتب عبد الكبير الخطيبي، في مقدمته لـ "كتالوج" معرض "سرّة الأرض" الذي أقامه بلاّطة في دارة الفنون (عمّان، سنة 1998): "خلف شغفه بعلم الهندسة يكمن تقليد رسم الأيقونات الذي طبع بداياته في التدريب الفني، وقد حافظ هذا التقليد على استمرارية بارزة بين الحقبة البيزنطية والحضارة العربية الإسلامية. لكن بلاّطة لا يكتفي باستكشاف هذا التقليد المزدوج، بل ينقله إلى إطار جديد بصفته فناناً ومتملكاً علم الجمال".