بلاد الوعود العامة
ثمانية وثلاثون عملا كثيرة التقنيات، مئة عام من التجريب في فن السينما، بيئات ثلاثية الأبعاد، رسومات، منحوتات، عروض، لوحات، وفضاءات افتراضية فورية، على مساحة تمتد على نحو 1700 متر مربع: أهو تجريب حسي مطلق أم حمل زائد على الحواس؟ رلى خوري تزور المعرض المثير "حيّزات الحلم: سينما وفن غامران 1905-2016 (Immersive)"، في متحف ويتني للفن الأمريكي في نيويورك.
كل شخص لديه حيّز خاص للحلم. يسعى معرض "حيّزات الحلم: سينما وفن غامران 1905-2016”، في متحف ويتني للفن الأمريكي في نيويورك، الى فهم تجربة الحلم من خلال مقارنتها مع تجربة السينما. المعرض الذي كانت قيّمته كريسي أيليس (Iles), يتقصى تداعيات عالم الأحلام في مجال السينما، حيث يتم عرض الصورة وبثها بدلا من الحلم فيها.
تعود جذور "حيّزات الحلم" الى دورية الأحلام التي وضعها ه.ف. لفكرافت (Lovecraft) – سلسلة من القصص التي تعتمد على فكرة واحدة: جميعها يتناول الدخول الى مكان بديل بواسطة الحلم. فضاء العرض مرتب هو الآخر كسلسلة من محيطات الحلم الغامرة التي تربط بين لحظات مختلفة في تاريخ السينما التجريبية. عند مدخل المعرض هناك خريطة، مطبوعة على صفحة منفردة، كوسيلة مساعدة للتجول في المعرض الفوضوي.
الأعمال الثمانية والثلاثون التي يشملها المعرض موجودة في طابق واحد من المتحف. غالبيتها عبارة عن مشاريع مركبة من ناحية تكنولوجية وتستخدم تقنيات ثلاثية الأبعاد، مثل أرض مستوية (Flatlands, 2010) لتريشا باغه (Bagaa). المشاهد مدعو الى وضع نظارات للرؤية ثلاثية-الأبعاد وفحص الحد ما بين رؤية الفنانة الداخلية وبين مظهرها أمام الاخرين. الصور المعروضة على شاشة مثلثة تبدو مثل الملصقات. مونتاج الفيديو الذي يصل طوله 18 دقيقة يخلق مقاطع قصيرة تغيب عن الشاشة بسرعة. وهي تلتقط تجربة الثلج الغزير الذي يهطل في كاميرتها الموجهة نحو السماء. يحلق العمل فوق الخط الفاصل بين الفضاء الحقيقي وبين الخيالي، من خلال اللعب بمؤثرات كالضوء، ويغمرنا بالحقيقي والخيالي في الوقت نفسه.
يستخدم عدد من الأعمال في المعرض تقنيات رقمية وتفاعلية. العمل دينا (DiNA) للين هيرشمان ليسون (Hershman Leeson 2004-2006) يضم برمجية لتقنية تشخيص الصوت، توليف كلام وكواشف تشخيص. وطلب من الجمهور ان يتفاعل مع صورة على الشاشة بواسطة تسجيل أسئلة حول أحداث في العالم عبر ميكروفون صغير. الإنسانة الآلية جُهزت بذكاء صناعي وهي تجيب على الأسئلة بشكل فوري بمساعدة البحث في الانترنت.
هناك الى جانب هذه الأعمال المثيرة رسومات تخطيطية (إسكتشات) حضّرها فنانو ستوديوهات ديزني للفيلم فانتازيا (1940) وهي توضح أكثر الفكرة التي يقوم عليها المعرض. فيلم الرسوم المتحركة هذا أنتج في ديزني وأخرجه جو غرانت (Grant) وديك هومر Huemer). وهو يعمل على الخيال ويخلق تجربة حسية صناعية بواسطة موسيقى كلاسيكية تؤديها جوقة فيلادلفيا، بقيادة المايسترو ليوبولد ستوكوفسكي (Stokowski). الكتابة التوضيحية الى جانب الاسكتشات تشير الى أن الفيلم سيُعرض مرتين فقط خلال المعرض، في قاعة المتحف.
يتأثر المشاهد بشكل فوري أمام مشهد ضخامة المعرض. فالأعمال التي تجذب الاهتمام، تم تنصيبها ببنية أشبه بالمتاهة. وبما أن الهدف الرئيسي للمعرض هو على ما يبدو انتاج تجربة حسية غامرة، فإن كل عمل يتطلب اهتمام والتزام الجسد والحواس بشكل تام، لكن الدماغ لا يستطيع استيعاب جميع الأعمال الثمانية والثلاثين مرة واحدة.
على الرغم من أن القصف الحسي قد يسبب الدوار، فإن عددًا من المواضيع ينجح في البروز ويتطلب تركيزًا وتمعنًا. العمل حيّز-ضوء-فن (Raumlichtkunst) (1926/2012) لأوسكار فيتشنغر (Fischinger) هو فيلم 35 ملم تم تحويله مؤخرًا الى فيديو بجودةHDD. الفيلم معروض على ثلاث شاشات كمنظور لاقصصي مؤلف من اللون، الضوء، الموسيقى والحركة. تقنيات مختلفة للرسوم المتحركة – لولبيات ممغنطة، نماذج مجردة أنتجت من زيوت ملونة، أغراض ثلاثية الأبعاد، شمع -تتمازج مع صور اعلانات من اولى فترات صناعة السينما في ألمانيا. الألوان الفرحة، الضوء الواضح، الموسيقى المتقلبة، الضاجّة، والحركة التي لا تتوقف ساحرة وممغنطة. إنه هذيان استعاري وتجريدي عالي الأدرنالين. من المفاجئ أن عملا من هذا النوع يمثل إحدى اولى تجارب انتاج بيئات سينمائية غامرة، وهو ما لم يصبح أسلوبًا مقبولا سوى في ستينيات القرن الماضي.
نفس الشعور الذي يبثه المشهد يقع على المشاهد الذي يقف أمام العمل Movie Mural من العام1968 لستان فندربيك (VanDerBeekk), والذي تحول اسمه الى أسطورة في تاريخ الفن التجريبي. يتألف الإنشاء من نحو عشرة أجهزة بث فيديو وشرائح شفافة. تم تصوير المواد المعروضة الأصلية بكاميرا 35 ملم و 16 ملم ثم جرى تحويلها الى فيديو. أجهزة بث الشرائح الشفافة القديمة مثبتة على طاولات، من أجل خلق شعور يعيد المشاهد الى نهاية الستينيات. ومع ذلك فهذه تجربة حسية سينمائية غامرة وآسرة، أشبه بالهذيان الكبير. تعرض أجهزة البث في نفس الوقت رسومات وتخطيطات للفنان ومقاطع من أفلامه التجريبية، مع دمج مقاطع من أفلام وثائقية، عناوين صحف وصور لمنظمة KKK, مارتين لوثر كينغ وأدولف هتلر. من مرة لأخرى تظهر صور مجردة مثل خيوط العنكبوت، رموز قديمة ومنحوتات. العمل قويّ الأثر يحتوي أيضًا على شرائح شفافة لصور، وأخرى مخدوشة ملونة وأخرى بالأسود-والأبيض، مقاطع من أفلام هوليوودية، موسيقى متغيرة دون انقطاع واحيانًا وقفات صامتة. حين تعزف الخلفية الموسيقية فهي تغطي على كل الاعمال الأخرى في فضاء العرض.
هناك عملان آخران مثيران بنفس القدر، هما تجارة بعقود مستقبلية (Trading Futures 2016) لبن كونلي (Coonley) ومصنع الشمس (Factory of the Sun 2015) لهيتو شطايرل (Steyerll). تجربة مشاهدة كونلي، تستدعي الدخول الى قبة جيوديسية كبيرة من الكرتون. يجلس المشاهدون في داخلها وينظرون باسترخاء الى الأعلى الى الجدران وهم يضعون نظارات خاصة ويشاهدون فيديو يُعرض بـ 360 درجة، ويتبدل ما بين ثنائي الأبعاد وثلاثي الأبعاد. الشعور هو كالحلم. فالعمل يموّه الحدود بين الحقيقي والخيالي: بين حدود القبة وبين التجربة المتخيلة التامة التي تخلقها. يقدم كونلي في الفيديو محاضرة عن التجارة بعقود مستقبلية والخصائص التقنية للأسلوب ثلاثي الأبعاد، وذلك فيما يشبه فيديوهات الإرشاد القصيرة. وهو يتحرك ضمن المدى المتواصل، يفحص فضاءات وزوايا رؤية الكاميرا. وهكذا يبدو كأنه يتلاعب بقوة الجاذبية والحركة في الفضاء بواسطة تقنيات بصرية مختلفة. تبدو الصورة محلقة حين يقوم بتوثيق نفسه وهو يركض ويرقص ويصور بجهاز هاتفه النقال. توجد هنا أيضًا صور رسوم متحركة تترابط مع صور لأشخاص حقيقيين، وكذلك مقطع فيديو استروسكوبي (“مجسامي")، ثلاثي الأبعاد، لقطّة في ساعات الليل. الشعور هنا يذكّر التواجد في قبة فلكية (Planetarium)، مع لمسة من التفاهة التي تضيفها أفلام منزلية عديمة المضمون. الانشاء يلزم الجسد على التفاعل مع الكاميرا. الأفلام تتمازج مع تجربة المشاهد – ونحن نتحول الى أطفال يتقصون عجائب العالم.
ربما أن قيّمة المعرض أخطأت في اختيار إبراز العمل: مصنع الشمس (Factory of the Sun, 2015), لهيتو شطايرل (Steyerl). التنصيب استثنائي: الحيّز ثلاثي الأبعاد تحدده شبكة (grid) زرقاء تمت برمجتها لكي تلتقط وتبث حركات الجسد الى صور ينتجها الحاسوب. هناك شاشة عملاقة تحتل نحو ثلث الحيّز وعدد من مقاعد الاسترخاء الموزعة هنا وهناك. حتى هنا هذا مثير. لكن المشكلة تكمن في الفيديو الذي يُبث على الشاشة. فهو يروي قصة عمال في ستوديو لالتقاط الحركة (motion capture), والذين أجبروا على الرقص من أجل إنتاج ضوء شمس اصطناعي. صحيح أن هذا فيلم فيديو قصير لكنه مصمم كلعبة حاسوب وينتج عالمًا هو عبارة عن مزيج من الحقيقي والافتراضي. فهو يتحرك ما بين قصص شخصية وبين مقاطع من نشرات أخبار لمظاهرات، ويواصل التجوال بنقدية تتلاعب بين مستويات مختلفة للواقع، مثلما في لعبة حاسوب. في نقطة معينة يقول المذيع (والمبرمِج الافتراضي): “هذه ليست لعبة، هذا واقع".
وبالفعل، فالعمل يتلاعب بالمشاهد ويكشف التلذذ في مشاهدة مضمون عنيف. ولكن بما أن الحيز والفيديو على درجة كبيرة من التكنولوجيا، يصبح المنظر أهم من المضمون، فبدلا من نقد استخدام الانترنت لأغراض التعقب والاستغلال الاقتصادي، يبدو ان العمل جاء بأدواته بهدف إثارة انطباع مراهقي عصرنا.
المعرض يبقي المشاهد متخبطًا. أعمال الانشاء تختلط ببعضها البعض. سيرورة استعراض كل الأعمال، ومحاولة تحليل المضمون في كل واحد منها، يطرح أسئلة بخصوص قيمة الانبهار، وخصوصًا حين يصل الأمر درجة مفرطة من العبء على الحواس. فعلا، كما يقول المثل العربي: في الإيجاز بلاغة.
"حيّزات الحلم: سينما وفن غامران 1905-2016”، عُرض في متحف ويتني للفن الأمريكي في نيويورك حتى 5 شباط 2017