Marianne Eigenheer, Barnaby Drabble, Dorothee Richter (eds.), Curating Critique, Frankfurt am Main: Revolver, 2007, reissued as On-Curating 9, 2011
ما النقد؟ ما هدفه وكيف نستخدمه، وخصوصا بالنسبة الى ممارسة القوامة الفنية؟ من جهة المتمكنين من الخطاب النظري والنقدي السائد في نصوص قوامة الفن في العقدين الأخيرين، الموقف النقدي هو قيمة عليا. وهو موقف شائع الى درجة أنه في معظم الأحيان لا يكلف أحد نفسه عناء الفحص بالمرة. هناك من يجدون عزاء في هذا الخطاب، في مفردات الشيفرة التي تدل على انتماء الى مجموعة ذات أفكار مشتركة، في حين أنه بالنسبة الى آخرين يتميز التوجه النقدي بقصر نظر خانق فيه من الاستعراضية ما يفوق السياسة.
خلال كتابة هذا المقال ظهرت الى النور مقالات واستعراضات اضافية لآخر طبعات دوكومنته وبينالي فينيسيا، ومن الواضح تماما أن العلاقة بين ممارسة القوامة وبين النقد اشكالية وما زالت بلا حل. كثيرون رأوا في العروض السياسية لدوكومنته 14 على أنها خاوية بل حتى عززت اللامساواة في القوى بين المانيا واليونان، وهو ما سعى المعرض الى الخروج ضده.
القوامة النقدية هي مجموعة مقالات نشرت للمرة الأولى عام 2007 وبعدها عام 2011 كعدد من مجلة On-curating, الذي تمحور في نقاط الالتقاء بين القوامة والنقد. فكرة العدد الذي حررته مريان ايغنهير (Eigenheer), وضعها برنبي درابل (Drabble) ودوروتا ريختر (Richter). يقتبس درابل وريختر في المقدمة التعريف الذي وضعته ايريت روغوف (Rogoff) لجوهر النقد بوصفه نقطة بداية لتعريف أهداف العدد: "اعادة فحص القالب"، أي تقييم مجدد للعلاقات بين الفنان، القيّم، المعرض والجمهور. وبالاستناد الى لويس ألتوسير (Althusser), يسألان كيف يمكن للمعارض أن تؤسس الذات المشاهدة. هذه النقطة تطرح مسألة اضافية، تدور حولها مقالات كثيرة موضوعها القوامة النقدية: كي تتعاطى المعارض مع المشاكل الراسخة في المجتمع، وعلاوة على ذلك، مع تلك الراسخة في المؤسسات التي تضم المعارض.
توجهات مؤسسية، ايريت روغوف: حول الجدية في عالم الفن
تشير دوروتا ريختر الى أن المتاحف وعمل القوامة الفنية ظهرا بموازاة المثل الحداثية بخصوص الفضاء العام. مثلا، بعد الثورة الفرنسية تحول قصر اللوفر (Louvre), الذي خدم طبقة النبلاء، الى متحف للجمهور. تغيير العنوان هذا شكل نقدا ليس نحو الجهاز السياسي فقط بل أيضا نحو السياق الذي أنتج فيه الفن وعُرض. لقد كان ابتكار المتحف، عمليا، إعادة تفكير في المبنى ذاته الذي تجري فيه تجربة الاطلاع على الفن. ولكن مثلما نعي جيدا، فإن بزوغ الديمقراطية والمتحف لم يكن خاليًا من منظومات القوة. لقد جاءت الرأسمالية والدولة القومية لتحل سريعا بدلا من النبلاء. تتجير الفن وتمأسس المتاحف جرّا خلفهما نقدا وجهه الفنانون ضد المباني الجديدة. على امتداد القرن العشرين، وهو تاريخ المتاحف، قاد القيّمون الذين عملوا فيها والفنانون الذين أنتجوا أعمالا لمعارضها سلسلة من الايماءات النقدية، ابتداء بالطلائعية وحتى الطلائعية الجديدة و "النقد المؤسسي". الأمر الوحيد الذي أثبت حصانة كالتي لمنظومة القوى كان أشكالا مختلفة من النقد التي ظهرت مرة بعد أخرى لكي تتحداها.
كُتبت مقالات القوامة النقدية في سياق القرن العشرين، الفترة التي صرحت فيها أندريا فريزر (Fraser), إحدى الفنانات البارزات في مجال النقد المؤسسي، بأن: "الواحد بالمئة الأعلى هو أنا". (l’1%, c’est moi). تظهر فريزر في هذا المقال كيف أن الأعمال الفنية التي تحوي نقدا ضد المؤسسة يمكن أن تنسَب بسهولة الى القوى التي تمارس النقد ضدها. على نحو مشابه، تعبر ماريا ليند (Lind), في مقابلة لقوامة نقدية عن خشيتها من أن برنامج العمل الراديكالي لمؤسسات مثل المتحف الحديث في ستوكهولم (Moderna Museet) أو الكونستفريان في ميونيخ الذي تترأسه، أو مؤسسات لقيّمين مثل تشارلز ايشه (Esche), لا يمكنها أن تعيش في محيط قوى سياسية واقتصادية ترفض الراديكالية. ذلك لأن هناك مباني أقوى من هذه المؤسسات أو هؤلاء القيمين، ممن يحولون الفعل الراديكالي الى عادي من خلال خفض حدة نصل النقد. القيّمة أوتا ميتا باور (Bauer) تطرح هي الآخرى هذا الادعاء في مقابلة مع موريس بابياس (Babias). باور تقول إن الممارسة النقدية يمكن أن تجنَّد لأغراض ايديولوجية لصالح جسم، بما فيه الجيش الاسرائيلي، وفقا لتحليل ايال فايتسمان، الذي بيّن كيف تم استغلال الخطاب الحيّزي المعاصر لتعزيز احتلال فلسطين.
أندريا فريزر, L’1%, c'est moi. متحف برشلونة للفن المعاصر MACBA
في مقالها المنشور لاحقا في المجلد "اقتصادات كاذبة – أوان لتقييم الوضع"، تسأل ريفكا غوردون نسبيت (Nesbitt) "الى ماذا يرمي النقد؟ هل هدفه إحداث تغيير أم رفع الوعي؟" وهي تتطرق بهذا السؤال الى مسألة مركزية في ممارسة القوامة التي تتناول النقد السياسي. وتشير الى ان العديد من مشاريع الفنانين المرتبطة بـ"جمالية العلاقات" قد انتجت أوضاعا مثلت ظواهر اجتماعية، لكنها لم تتطرق بالمرة الى منظومة العلاقات القائمة بين هذه الممارسات وبين سوق الفن. وتضيف أنه لغرض معالجة مسألة مركزية في تمثيل الاجتماعي، مثل اللامساواة في المداخيل، يجب أولا التعاطي مع المشاكل في عالم الفن. وهي تقول ان غالبية التمويل المخصص للفن في سكتلندا يصل الى المؤسسات وليس الى الفنانين، وتورد احصائيات تدل على أن معظم الفنانين لا يستطيعون الاعتياش من فنهم. نسبيت تقوم بفحص برنامج نظمته ماريا ليند في متحف كونستفريان في ميونيخ، اختبر تنظيمات مستقلة لمجموعات فنانين كوسيلة لإحداث تغيير في مسألة اللامساواة النمطية في المداخيل ضمن عالم الفن.
في حين أن أمامنا مجموعة محترمة من الكتاب المرتبطين معا في مجلد مثير للاهتمام، فإن القوامة النقدية تعاني من نقص في التحليل الجدي لنماذج من مشاريع فنانين يتعاطون مع مسألة السعي الى تغيير وينشطون فيما يتجاوز تمثيل المثالب الاجتماعية لغرض رفع الوعي بشأن قضايا اجتماعية. صحيح أنه تم هناك التنويه الى التسويق الواسع لكيري يانغ (Young) في كونستفريان ميونيخ و لو كنت تعيشين هنا لمارتا روسلر (Rosler) في صندوق ديا (DIA) ولكن غابت نماذج تبيّن برأيي انتقالة جوهرية أكثر من التمثيل الى الحقيقي، مثل مشروع شركة الحياة الجيدة (.Mejor Vida Corp) لمنيرفا كوفاس (Cuevas), الذي يوفر منتجات وخدمات بلا مقابل. ويجب ايضا الاشارة الى Project Row Houses لريك لو (Lowe) الذي يوفر وينظم خدمات اسكان، تعليم ومجتمع مجانية او مسبسدة. كان يمكن لفحص أوسع لهكذا مشاريع أن يؤسس الجدل حول مسألة الفرق بين رفع الوعي وبين احداث التغيير.
هناك مشكلة إضافية في القوامة النقدية تتمثل بغياب محاولة جدية لتعريف النقد. في مقال بعنوان "Merz-Thinking – Sounding the Documenta Process Between Critique and Spectacle," يحاول سرات مهراج (Maharaj) تعريف النقد قياسا بعرض الفرجة (spectacle). وهو يعرّف عرض الفرجة كتجريب لاإدراكي للحواس، في حين أن النقد هو تحليل خطابي مشدد. في مقال له بعنوان "The Curatorial Function – Organizing the Ex/position" يدعي أوليفر مارشات (Marchat) أن النقد يصل الى عمل القوامة حين يتحول المعرض الى فضاء عام سياسي. ولكن لا يتناول أيّ من تلك التعريفات العلاقة المضمنة بين النقد والحكم.
يطوّر فوكو الفكرة ويحاجج بأن النقد ليس شيئا واحدا بل عديد المعاني أي أنه خاضع لتشكيلة من التعريفات، بما في ذلك الاطار الذي يعمل فيه. مثلا، نقد وضع اجتماعي معين سيكون أصلا معرّفا ليس بواسطة موضوعه فقط، بل أيضا من قبل الذات التي تقوم بالنقد وبواسطة الاطار الذي لقي فيه النقد تعبيرا. باتلر تصف رؤية فوكو النقد على أنها تعارض الانصياع لأية سلطة حكومية أو دينية لكنها تظل تصبو الى معيار أخلاقي. وفقا لرؤيتها يتطرق هذا التعريف الى النقد الذي يكشف سلطة غير شرعية. ولكن مع ذلك، تسأل، كيف يمكن للنقد أن يتبنى منظومة جديدة لأمثولات أخلاقية من دون أن يخاطر بإنتاج هيمنة مثل أساليب القمع التي يقوم ضدها؟
لقد وجدت هذه المسائل تعبيرا عنها في عدد من حالات النقد التي تم توجيهها الى الدوكومنته الأخيرة، مثل الذي كتبه ج. ج. تشارلزوورث (Charlesworth), إليانه فوكياناكي (Fokianaki) ويانيس فاروفاكيس (Varoufakis), أو سوزان فون فالكنهاوزن (von Falkenhausen). قيّم المعرض آدم شيمتشيك (Szymczyk), أراد توجيه النقد لعلاقات القوي\الضعيف بين ألمانيا واليونان بواسطة نقل المعرض من مدينة الى أخرى، لكنه اتُّهم باستنساخ أساليب القمع نفسها التي حاول مهاجمتها بواسطة النقل. هكذا يبدو أن المواضيع التي تتناولها القوامة النقدية لا تزال راهنة لكنها تحتاج الى جهد مشدد أكثر من حيث تعريف مفاهيمها. فليس هذا تمرينا نظريا فحسب وإنما سيرورة تنير النتاج الحقيقي للنقد في ممارسة القوامة.