دعوت في الصيف الفائت جاك سيربين (المعروف باسم أندي بيخلباوم)، احد أعضاء "يس مِن" - زوج الناشطين في تشويش الثقافة سيئي الصيت - لتقديم ورشة في إطار برنامج مكوث الفنان الدولي لورشات الفنانين في القدس. وقد اشترط استجابته للدعوة بأن تتناول الورشة وسائر النشاطات العامة قضية الاحتلال الاسرائيلي للمناطق الفلسطينية. أعضاء "يس مِن" يسعون الى انشاء وعي ومناهضة للظلم الناجم عن الرأسمال أو السلطة، وذلك بواسطة نشاطات تعرف بالاعلام التكتيكي أو قرصنة (hacking) الاعلام، من خلال الالتزام بمبدأ أن الأكاذيب تكشف الحقيقة. الفنانان أنتجا عددا من الأفلام التي وثقت حياتهما ونشاطهما. وهما يتمحوران في "تصحيح الهوية" – تكتيك يتجسد بتقليد شخصيات لا يستلطفانها والظهور بهيئة هذه الشخصيات في اجتماعات وبرامج تلفزيونية1.
التقى أندي بيخلباوم خلال مكوثه في القدس مع مناهضين محليين للاحتلال – ناشطين ومنظمات – ويسّر ورشة لمجموعة فنانين وناشطين، تناولت بلورة ردود على الاحتلال الاسرائيلي من خلال استخدام أساليب الـ"يس مِن" لاطلاق نشاطات "غيريلا" في الاعلام. كذلك، تم بث فيلمهما الأخير، الـ"يس مِن" يثوران (The Yes Men are Revolting, 2015).
هذه المقالة تستند على حوارعلني أجريته مع أندي بعد عرض الفيلم.
معيان شيليف: هل راودتك شكوك بخصوص زيارة اسرائيل، وإن كانت فكيف سوّيتها؟
أندي بيخلباوم: أجل، راودتني شكوك. أنا أعرف ان هناك حملة مقاطعة وأدعمها بالتأكيد. الى جانب هذا، شعرت أن الطريقة الوحيدة التي يمكنني المساهمة بها هي تيسير ورشة بموضوع الاحتلال. لست متاكدا من ان زيارتي مفيدة، لكنني أعتقد انها حملت احتمالا كهذا.
حاولت في الورشة التي مرّرتها محورة الناشطين الاسرائيليين فيما بدا لي كنقطة ضعف الاحتلال الكبرى – المستوطنين غير الأسوياء أبدًا، والذين نجحوا بإصرارهم ودهائهم في التأثير على الحكومة، مثلما فعل بالضبط توائمهم الأمريكيون (يُنظر: ما مشكلة كانزس2 لفهم كيفية حدوث ذلك). هناك سبب في أن سياسة اسرائيل تبدو مجنونة تمامًا: إنها تنمو في مكان غير سويّ بالمرة، ومع شهادات تثبت ذلك.
بوسع الناشطين الاسرائيليين استغلال نقطة الضعف هذه من أجل مقاومة الاحتلال. أعتقد أن كثيرًا من الاسرائيليين يمكنهم العثور على عزاء لهم في حقيقة أن سياسة حكومتهم الاجرامية، جزئيًا على الأقل، هي نتيجة جهود منهجية لمهاويس متدينين، ذلك لأن معنى الأمر هو أن هناك حل: إقصاء المهاويس الى الهامش، حيث مكانهم اللائق بهم. وهذا يعني أيضًا أن اسرائيل ليست فظيعة الى تلك الدرجة بجوهرها.
لا زلت مسكونًا بالأمل. في الولايات المتحدة تم اقصاء حزب "حفل الشاي" تماما الى الهامش تقريبًا، وكذلك المتدينين المتطرفين الذين سيطروا على حكومتنا بشكل منهجي على امتداد عشرات السنين. نحن ملزمون بالبدء من هذا التوجه، الذي يحمل أملا، والحقيقة انه كان من الصعب جدًا عليّ اقناع ناشطين اسرائيليين بالاعتراف بما بدا لي دائمًا (ولا زال) مفهومًا ضمنًا. ولكن يبدو لي أنني نجحت، بذلك اليوم على الأقل، وبلورنا أربعة مشاريع رائعة كان من المدهش رؤية وصولها مرحلة التطبيق.
م.ش.: كيف تعرّف الاحتجاج الجيد؟ ما الذي يجب أن يتضمنه لكي ينجح؟
أ.ب.: هذا مرتبط بالسياق. نحن على وجه العموم نحاول اعتماد الدقة العالية في النشاطات التي نقوم بها. مثلا، نشاط غرفة التجارة تصبح خضراء, 2013 (The Chamber of Commerce Goes Green) انطلق في لحظة عارض فيها مواطنون كثيرون في الولايات المتحدة التشريع بخصوص المناخ، وكان بالامكان اعتلاء هذه الموجة لنكون جزءا صغيرا من هذا كله. كان لدينا للوهلة الأولى تأثير على التغيير في موقف غرفة التجارة، ولكن كان هؤلاء فعليا جميع الأشخاص والمنظمات الذين شاركوا بدورهم أيضا. يبدو أحيانًا أن نشاطاتنا تتناول نشر الأفكار الجيدة، حتى يبدأ المزيد من الأشخاص بالتفكير، ولمَ لا؟ فثورة الطاقة يمكن أن تندلع في الولايات المتحدة؛ يمكن وقف سيرورة تغيّر المناخ. واذا لم يكن هذا قابلا للتصحيح، فيمكن على الأقل محاولة منع مفاقمة الوضع. هذا ممكن تمامًا.
النشاط الذي اختتم آخر أفلامه (الـ"يس مِن" يثوران) تناول نشر هذه الفكرة، لأنه اذا طرأ تغيير في احد الأيام الصافية على الظروف السياسية، فهو سيكون عندها في أذهان الناس.
م.ش.: ذكرت في حوار سبق أن أجريناه، أنه حين نتحدث عن نشاطاتكم الاحتجاجية، هناك فرق بين الطريقة والرؤية. هل يمكنك التوسّع في هذا الموضوع، أخذا بالاعتبار الظروف السياسية في اسرائيل؟
أ.ب.: الاحتلال لا يقترب بالطبع من نهايته الآن، ولكن الكثير من الأمور الأخرى يمكن أن تحدث قريبًا. والسؤال: أين نبدأ. نبدأ بالرؤية، بالوضع المثالي. هناك حل يوتوبي – يمكنك أن تراه إن لم تكن تعيش هنا...
المشكلة هي أن الناس هنا لم يعودوا منهَكين، وبحق، وفي اللحظة التي قلت فيها كلمة مثالية واحدة أجابوني فورًا أن هذا لا يمكنه الحدوث، لهذا السبب أو ذاك. نحن ملزمون بأن نبدأ من رؤية يوتوبية لغرض اثارة الالهام. لقد وقع الكثير من الأحداث اليوتوبية في السنوات الثلاثين الأخيرة، مثل زواج المثليين في الولايات المتحدة – وهو أمر لم يكن بشكل مطلق وراديكالي يخطر على البال – أو "بوديموس" (Podemos), حركة الـ Occupy التي اكتسبت قوة في اسبانيا، وهو ما لم يكن النشطاء الاسبان قادرين على تخيّله قبل عدة سنوات. وفي الماضي وقعت أحداث يوتوبية مستحيلة المرة تلو الأخرى: الغاء العبودية، مساواة حقوق النساء، ACT UP الذين أجبروا الحكومة على الاستثمار في بحث تطوير علاجات للـ AIDS. كل هذه الأشياء كانت مستحيلة مرة من المرات في هذا المكان أو ذاك، وبدت خرقاء ويوتوبية (تأمين صحي شامل ما زال يبدو على هذه الشاكلة في الولايات المتحدة).
النشاط الهادف لتحقيق يوتوبيا قادر على الأقل أن يقرّبنا من الهدف. فما الذي سنخسره إذًا؟ أساليب العمل تتمحور في البحث عن طرق لخفض الخوف من الوضع والوصول الى موقع مختلف يوما ما. يجب أن نفكر: أين نريد الوصول، وكيف يمكن نشر الرؤية؟ وعندها نقوم بنشره على مدى سنوات. [كتاب ستيف دنكومب (Duncombe)، حلم3، يمكنه أن يشكل كتابا الزاميًا لنشطاء الاحتجاج في اسرائيل، لأنه من الصعب جدا ان تحلم هنا. هذا ليس كتاب تعليمات حول كيفية الحلم لكنه يشرح لماذا هذا مهم فعلا].
م.ش.: ترد الأنظمة المختلفة بأشكال مختلفة على الاحتجاجات. يمكن أن نرى في فيلمكم الأخير أنه في روسيا، مثلا، هناك الكثير من العنف البوليسي. متظاهرو العدالة الاسرائيلية عام 2012 انفعلوا من بطولة متظاهري ساحة غيزي (Gezi) التركية أمام عنف الشرطة. هذه الأيام تزداد هيمنة الرقابة في اسرائيل، بما يشمل الفن والثقافة. هناك تقليص لميزانيات وإلغاء لنشاطات لأنها تثير خلافًا. كيف يمكن للنشطاء هنا ان يواجهوا الردود المعادية من هذا النوع؟ ما الذي يمكن ان يجعلهم يناضلون بدلا من الانشغال بالرقابة الذاتية؟
أ.ب.: يجب ببساطة برأيي ألا نخاف ونفهم أننا سننتصر في النهاية. حتى في ساحة غيزي – كان النشطاء الأتراك منكسرين على أثر قمع الاحتجاج. وعندها رأينا أن الحزب الكردي، الذي تحول الى مظلة لجميع خائبي الأمل في غيزي، لأنه تبنى أفكارهم ووجّه طاقاتهم، قد فاز بعدد كاف من المقاعد في الانتخابات الأخيرة لكي يلجم طموحات اردوغان المجنونة. وهذه هي البداية فقط.
وهكذا فالمسألة برأيي هي أن نقول: ما الذي يمكنهم فعله بحق الجحيم؟ إنهم كما يبدو لن يأتوا ليطلقوا النار على الناس، لذلك يجب فقط الايمان بأنه لو كشفنا قضايا وقمنا بنشاطات، فالنتيجة في خاتمة المطاف ستكون تغييرًا ما، حتى لو لم نكن نعرف كيف نفعل ذلك بالضبط. النشطاء الاسرائيليون معرّضون لمخاطر أصغر بكثير مما تعرض له الأتراك.
بالنسبة الينا، في الولايات المتحدة، تكاد المخاطر تكون معدومة، لكننا برغم ذلك نعيها. مثلا، أساليب تخفّينا، الشيء الوحيد الذي يجب معرفته أنه يمكن القيام بنشاطات غير قانونية من دون التورّط مع القانون، في حال كات التورّط يضرّ بالهدف الذي نتخفى من أجله. كل الاشخاص الذين شكلوا هدفا لنا، في السنوات الـ20 الأخيرة، كان يمكنهم مقاضاتنا أو مهاجمتنا بشتى الطرق، وقد تلقينا بالفعل العديد من رسائل التهديد بمقاضاتنا قانونيًا. ولكن حين نقلنا الرسائل الى صحفيين ونشروها، خلقوا لأولئك الأشخاص دعاية سلبية فتراجعوا.
يجب الأخذ بالاعتبار أنه لو هاجموك فهل سيمكنك تسخيفهم؟ هل يمكنك جعل الناس يضحكون على الوضعية؟ هذا أشبه بقصة دافيد وجوليات – داود سينتصر دائمًا.
م.ش.: حين تخططون تفاصيل النشاطات، مثلا حين تكتبون خطابًا أو تحضرون عرضًا، يبدو أنه بالرغم من كونه يتجه نحو العبث، فهو في النهاية يظل ذا مصداقية وفاعلية. كيف يمكن انشاء توازن بين السخرية والعبث وبين المصداقية؟ كيف تعرف متى بالغت؟
أ.ب: مثلا، حين أتخفى لشخص آخر، أصغي لنفسي وأسأل، هل هناك مقولة "بْتمرُق" بينما الأخرى لا، لأنها ذهبت بعيدًا؟ هذا يجب ان يكون بالطبع غريبا بما يكفي ليفهموا لاحقًا إنه نكتة، ويضحكوا عليه. مثلا، في خطاب الغرفة التجارية كان الكثير من الجمل الغريبة والنّكات التي لم تستوعَب في الجولة الأولى، لأن أحدًا لم يتوقع نكاتًا، ولكن حين أصغوا مرة ثانية كانت مسلية. احيانا تقوم باقتباس الخصم لكي تبدو مثله. في الورشة التي عقدناها في القدس، بين المشاريع التي وصلت مرحلة الصياغة هناك اثنان هزليان جدا حول الفصل الناجم عن الاحتلال، لغرض الاشارة الى درجة انعدام الرشد فيه.
م.ش.: أية نصائح تقدمها للناشطين الاسرائيليين الذين يئسوا من الوضع الراهن؟
أ.ب.: قوموا باللهو بهذا! أعتقد أن المشاركين في ورشة القدس وجدوا انه يمكنهم جعل الاحتلال نكتة كبيرة، لأن خصومهم السياسيين مهووسون بدرجات لا تصدق. إذا أردتم تناول هذا على مدى فترة – وهذا ما أنتم ملزمون به بالطبع – فمن المفروض أن يكون ممتعًا.
يبدو لي أنني نجحت في نهاية المطاف بإقناع المشاركين في الورشة بأن سبب التركيز على المستوطنين هو أنه كان لهم تأثير كبير لفترة متواصلة وقد حوّلوا اسرائيل الى ما يشبه التعبير المجنون عن انعدام رشدهم. سبب مهم آخر هو أنهم مهووسون الى درجات مضحكة، ولهذا يعانون من الهشاشة. وبذلك يتحولون الى عنصر في مجموع (مركب) قابل للتغيير عمليا، خلافا لمجاميع كثيرة أخرى (مثل الرأسمالية العالمية، الخوف اليهودي التاريخي، وما شابه).
عام 2004، في الولايات المتحدة، انفلتنا في التخفي لمجانين يحتضنون التوراة4 وقد سيطروا على الدولة وجرونا الى حرب. ليس هناك اكثر قتامة واثارة للتعاسة من هذا، ولكن مع ذلك تمتعنا باستفزاز الأمر. كثيرون فعلوا مثلنا. وبعد فترة، فيما يشبه الأعجوبة، قرر كثيرون أن ينفضّوا عن المهاويس. اليوم لدينا زواج مثليين، وليس فقط لأن النشطاء المثليين عملوا بشكل استراتيجي وذكي، بل بسبب التعب العام الذي شعرت به الدولة. قسم من هذا تم على الأقل لأن نشطاء اليسار ثابروا على تسخيف الوضع.
م.ش.: هل لديك أفكار محددة حول كيفية اللهو بذلك؟
أ.ب.: إحدى الامكانيات هي ملاءمة احتياجاتنا مع المصطلحات المحببة التي يستخدمها المهووسون خلافا لنا. "الشعب المختار" مثلا- هذا مثالي!- أكثر المستوطنين هوسًا يستخدمون المصطلح دون حس فكاهة، في حين انه بالنسبة لسائر اليمينيين عالق في ذهنهم فحسب. إذا ركزنا على المستوطنين – لأن هذا مسلٍّ ولأنهم يحتلون مراكز قوة بشكل واع ومنهجي منذ الثمانينيات – فيمكننا تملّك عالم مصطلحاتهم.
العالم كله يرى في اسرائيل مكانا ذا وضع سياسي مستحيل، ولن يجد حلا أبدًا. لكن العالم كله في وضع كهذا، وانظروا مثلا الى انعدام المعنى في الردود السلطوية والعسكرية ضد داعش.
تخيّلي أن اليسار الاسرائيلي سينتصر، يركل نتنياهو بعيدًا، يوقف سطوة المستوطنين، ويعتمد توجهًا متنورًا لإنهاء الاحتلال (هناك عدد من الاقتراحات الجيدة...)، تخيلي هذا فقط.. واو! العالم كله سيتغير مرة واحدة. "الشعب المختار" فعلا! (هذه ليست فكرة خلاّقة بالطبع، لقد فكر آخرون بهذا).
م.ش.: ألهذا الغرض تم اختيارنا...
أ. ب.: من يعلم الى اين يقودنا هذا. ربما هي لعبة فقط. مجرد فكرة غبية راودتني. الورشة التي عقدناها أثمرت أربعة أفكار ممتازة، وكلها عمليا استعارت اللغة الفكرية الخاصة باليمين ومارست عليها تمرين جيو-جيتسو كشف الى أية درجة بات الوضع أخرق، وأظهرت في عدد من الحالات كيف يمكن فعل الأشياء بصورة مختلفة. انا افضل ألا أكشف هذا الأفكار حاليا – ربما في المستقبل القريب!
اقرأوا المزيد عن الـ"يس مِن" وطرق الانخراط في النشاطات في: www.yeslab.org.
- 1. ينظر مثلا النشاط ضد Dow Chemical وكارثة بوفال (2004), أو التخفّي لموظف وزارة الطاقة الأمريكية في Operation Second Thanks ، 2014
- 2. Thomas Frank, What's' the Matter with Kansas, How Conservatives Won the Heart of America, Henry Holt and Company, LLC, New York, 2004
- 3. Stephen Duncombe, Dream: Re-imagining Progressive Politics in an Age of Fantasy, New Press, New York, 2007
- 4. مثلا حملة "نعم، بوش قادر!" (“!Yes , Bush Can”) التي شجعت أشخاصًا على توقيع تصريح وطني اشتمل على زيارة لمؤتمر الحزب الجمهوري (2004).